يعد الصمود في تاريخ الشعوب والدول بنية حضارية وثقافية وسياسية ويسطر عبر التاريخ، ويتجذر في وجدان الشعوب ووعيها، ويترجم إلى إرادة سياسية واستراتيجيات وطنية ومؤسسات فاعلة، فهو ما يصنع الفارق بين دول تنهار أمام الأزمات، وأخرى تنهض وتصوغ مستقبلها بإرادة حرة، ومن هذا المنطلق تتجلي مصر بوصفها أنموذجًا فريدًا لصمود الدولة تاريخًا وقيادة وشعبًا وموقعًا في وجه تقلبات عالمية وإقليمية حادة، مما جعلها درعًا للأمة وركيزة للاستقرار ومصدرًا للإلهام وأنموذجًا لدولة أعادت بناء ذاتها من قلب التهديد واستعادت شروط وجودها التاريخي بإرادة جديدة.
وتحتل مصر موقعًا استراتيجيًا يجمع بين عبقرية التاريخ والجغرافيا، فهي بوابة إفريقيا ومفتاح آسيا، وتشكل عقدة الربط بين البحرين الأحمر والمتوسط عبر قناة السويس، التي تُعد من أهم الممرات المائية في العالم، هذا الموقع كان على الدوام مصدرًا للتحدي والاستهداف وفرص التأثير، وقد فرض على مصر مسؤولية جيوسياسية وضرورة حتمية لامتلاك قدرات نوعية في إدارة التوازنات، مع الحفاظ على مركزتيها واستقلال قرارها الوطني، ولقد جعل هذا الموقع مصر عضوًا رئيسًا في معادلات الأمن الإقليمي والدولي، خاصة في محيط إقليمي مضطرب ومع تصاعد التنافس الدولي على الممرات البحرية والموارد الاستراتيجية، صمدت مصر كصخرة توازن واستقرار، مستندة إلى عمق تاريخي وتماسك مؤسسي وبنية استراتيجية واعية تدير المخاطر وتعيد تعريف الفرص باقتدار ومرونة.
وواجهت الدولة المصرية تحديات جسيمة متعددة الأبعاد تمثلت في اختراق سياسي داخلي، وإرهاب منظم مسلح مدعوم خارجيًا واقتصاد مثقل بالديون وانفلات مؤسساتي يهدد بنية الدولة ذاتها وتدخلات إقليمية وضغوط دولية غير مسبوقة وحالة انقسام شعبي مقلقة كانت تهدد التماسك الوطني والسلم المجتمعي، لكن التجربة المصرية انطلقت من وعي عميق بطبيعة اللحظة التاريخية وإدراك أن الحفاظ على الدولة مقدم على أي اعتبارات أخرى، فاختارت القيادة السياسية أن تخوض معركة الوجود بكل وعي وثبات وتمكين وبناء.
وبدأت الدولة المصرية مرحلة إعادة هيكلة شاملة، امتدت لتشمل البنية الكلية للدولة، فانطلقت عملية الإصلاح من تحرير القرار الاقتصادي وبناء بنية تحتية حديثة، إلى تطوير التعليم وترسيخ العدالة الاجتماعية، وتحقيق الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر احتياجًا، مرورًا بتحصين الأمن القومي، وتحديث قدرات الجيش، وإصلاح منظومة المؤسسات، وإعادة بناء الثقة المجتمعية على أسس من المصارحة والشفافية والمشاركة الوطنية.
وجدير بالذكر أن هذه الجهود جاءت تجسيدًا واعيًا لمشروع وطني متكامل، يستهدف إعادة تأسيس الدولة على قواعد راسخة، تُمكنها من الصمود والازدهار في بيئة إقليمية ودولية مضطربة، وقد انطلقت هذه الرؤية من وعي عميق بضرورة الانتقال من منطق إدارة الأزمات إلى منطق بناء المستقبل، عبر مشروع بناء الجمهورية الجديدة الذي يعيد لمصر دورها الحضاري ويؤسس لاستمرارية كيانها وفق مبادئ الكفاءة والعدالة والسيادة.
وجاءت مرحلة التثبيت السياسي متزامنة مع انطلاق برنامج إصلاح اقتصادي يُعد الأجرأ في تاريخ الدولة الحديثة من حيث شجاعة القرارات ودقة التوقيت وتعقيد السياق، فقد اختارت الدولة أن تواجه الحقيقة دون مواربة أو ترحيل للأزمات، فانطلقت في تنفيذ برنامج طموح لتحرير الموارد، وإعادة هيكلة منظومة الدعم، وتحقيق الشمول المالي، وتوسيع القاعدة الإنتاجية، ومثل هذا البرنامج خطوة على طريق تمكين الدولة من امتلاك قرارها السيادي، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي، الذي هو أساس السيادة السياسية، في عالم لا يرحم التبعية ولا يحترم من لا يحمي قراره الوطني.
وتعاملت مصر مع الأمن القومي بوصفه مفهومًا مركبًا يتجاوز الحماية العسكرية ليشمل الأمن الغذائي، والمائي، والبيئي، والمعلوماتي، والاجتماعي، انطلاقًا من رؤية شمولية تدمج بين الجغرافيا والموارد والهوية الوطنية، وقد تجلت هذه الرؤية بوضوح في إدارة الدولة المصرية للملفات المصيرية، وعلى رأسها ملف سد النهضة، حيث تمسكت مصر بثوابتها، ولجأت إلى أدوات القانون الدولي والدبلوماسية الرشيدة، دون أن تغفل عن الردع السياسي والاستعداد العسكري، فطورت قدرات جيشها، ورفعت كفاءته التنظيمية والتصنيعية، وأحكمت انضباطه الوطني، باعتباره جيشًا عقائديًا يرتبط عضويًا بشعبه، ليظل أحد أقوى الجيوش في المنطقة من حيث الاحترافية والجاهزية والسيادة.
وقد قوي صمود الدولة المصرية بوجود قيادة سياسية تمتلك رؤية استراتيجية بعيدة المدى، وقرارًا صارمًا، وشعورًا وطنيًا بالمسؤولية، وإرادة واعية لا تتراجع أمام التحديات، فقد وضعت القيادة، برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي، مشروعًا وطنيًا شاملًا قائمًا على أجندة تنفيذية واضحة، شملت تأسيس العاصمة الإدارية، وتوسيع شبكة الطرق، وتطوير العشوائيات، والاستثمار في الإنسان عبر إصلاح التعليم والصحة والثقافة، كما خاضت الدولة بشجاعة ملفات مؤجلة، وتبنت برنامج إصلاح اقتصادي جريء، شمل تحرير سعر الصرف وهيكلة الدعم، رغم كلفته الاجتماعية المؤلمة، إيمانًا بأن الاستقلال الحقيقي لا يتحقق دون قرارات حاسمة تحفظ كيان الدولة وتصون سيادتها.
وشكل الشعب المصري وسط هذه التحديات الركيزة الأولى لصمود الدولة؛ شعب صبور، واعٍ، محب لوطنه، اصطف خلف دولته وجيشه، وتحمل تبعات الإصلاح، وصبر على القرارات الصعبة، وواجه حملات التشكيك بثبات ووعي وأظهر نضجًا وطنيًا استثنائيًا، واحتضن دولته في اللحظات المفصلية، مؤكدًا أن وحدة الصف الداخلي هي السلاح الأقوى في مواجهة الأخطار، وأن بناء الأوطان يتطلب وعيًا وصبرًا وتماسكًا.
والمتأمل في التجربة المصرية يدرك أن صمودها ضرورة إقليمية وضمانة لاستقرار المنطقة وسند حقيقي للشعوب المقهورة، وبوابة عبور للأمة نحو مستقبل أكثر توازنًا واستقلالًا، فمصر بتاريخها وموقعها الفريد، وشعبها الصامد وقيادتها الواعية وجيشها الباسل تجسد الحقيقة البسيطة والراسخة أن الأمم العظيمة لا تنهار، وأن الصمود قدر يصنعه الوعي والتضحيات، وتؤكد مصر اليوم برؤية حضارية متجددة وإرادة وطنية متجذرة ووعي مسؤول وثقة عميقة بين الشعب والدولة، أن لها دورًا لا يمكن تجاوزه ففي اللحظة يعيد فيها العالم تشكيل خرائط القوة والنفوذ، تقف مصر بثبات الجذور وذكاء الفروع، لا تساوم في حقوقها، ولا تنكفئ على ماضيها، بل تتقدم نحو المستقبل ببصيرة.
ومن أراد أن يدرك سر بقاء الأمم وصمودها، فلينظر إلى مصر؛ صمود في زمن التلاشي، وثبات في زمن التهالك، وحكمة في زمن الفوضى، وعبقرية تتجاوز الحدود، وكما قال المفكر الكبير جمال حمدان (مصر ليست مجرد وطن نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا)، فإن صمود مصر اليوم تجسيد لوجود حضاري عريق متجر يربط بين عبقرية التاريخ ونفاذ الرؤية، بين وعي الشعب وحكمة القيادة ليقول للعالم أن هذه الأمة باقية، شامخة، قادرة، أيقونة لصمود الأمم... ولأنها ببساطة مصر.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر