لأني عرفت الملك في فترة متأخرة من مسيرته الطويلة الممتدة فلم أعرف كثيرًا عن مرحلة الشباب والنجومية الكاملة كملك لشباك الترسو.. كنت طفلاً قابعًا في الريف حين رأيته على الشاشة لأول مرة وكان ذلك في سينما (ميراندا) بالمنيل التي أصبحت فيما بعد (فاتن حمامة) ثم انتهى أمرها تمامًا، بالإزالة من الوجود ومعها الكثير من ذكريات الطفولة والشباب.. كانت سينما (ميراندا) تعرض ثلاثة أفلام (عرض مستمر) اثنان عربي وواحد أجنبي على عكس دور العرض الثلاثة الأخرى التي كنا نستمتع بها في حي المنيل حيث كانت سينما الروضة وجرين بالاس والجزيرة تعرض فيلمًا عربيًا (مصريًا) واحدًا وفيلمين أجنبيين، بالمناسبة رغم سطوة السينما الأمريكية في مصر والعالم.. أذكر أننا كنا نشاهد أفلامًا فرنسية مثل أفلام كلود ليلوش وتراونو وننظرها كما تعرفنا على نجوم السينما اليونانية كايرين باباس وغيرها.
كانت سينما ميراندا بمثابة (عفريت) مقهى لشخص جاء مباشرة من الريف إلى حي شديد الحيوية والتوهج لحي المنيل.. كنا نرفع ثلاثة قروش لندخل ترسو مع أكثر من نصف مقاعد السينما التي لم يكن يفصلها عن (البلكون) و(الصالة) غير سور منخفض كان من السهل تخطيه دون (رقابة) كبيرة من القائمين على (نظام) السينما.. كنا نمضي اليوم كاملاً داخل السينما.. فأخذت ورقة صغيرة حين خروجنا لشراء سندوتشات من محل الفول والطعمية المجاور أو حتى قضاء قيلولة صغيرة والعودة لمشاهدة الأفلام مقابل المبلغ الطائل الذي دفعناه.. لم تكن السينما مكيفة بطبيعة الحال ولكننا لم نشعر أبدًا بالحاجة إلى التكييف خاصة وأن (سقف) السينما كان يفتح عندما يحل الظلام فينساب الهواء البارد القادم من (البحر الصغير) حيث أقيمت السينما.
كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها فيلمًا لفريد شوقي الحقيقة هي المرة الأولى التي أشاهد فيها السينما أساسًا وفوجئت بأن جمهور الترسو يتفاعل مع فريد وكأنه (ابن حتتهم) أو فتوة منطقته القوي الجبار ولكنه في ذات الوقت شديد الطيبة والشهامة كما أنه خفيف الظل تحبه النساء لرجولته والأطفال لبطولته. أما الكبار فقد كان يجسد لهم قيمة العدل الذي يتم انتزاعه في كثير من الأحيان بالقوة الممتزجة لشهامة أولاد البلد الذين ترهقهم ظروف صعبة تعاكس جهودهم من أجل لقمة عيش بسيطة لكنهم شديدي القناعة والرضا لأن (فريد) قادر على الإتيان (بحقهم) حتى لو الشاشة التي اهتموا أمامها محملين بأكياس اللب وكافة أدوات التسالي.. كان التصفيق يرج السينما حين ينتصر الملك على (أعدائه) وكانت صيحات التخذير تطلق حين تهدد الملك بطلقة غادرة او (شومة) لم يرها.. كنت أتابع تفاصيل ردود أفعال الناس ربما أكثر من متابعتي للفيلم نفسه.. وحتى الآن لا أظن أن نجما توحدت به طبقته كما حدث لفريد شوقي وأظن أن هذا هو السبب الجوهري في قبول الملك حين اختار أن يغير (جلده) وأن ينوع أدواره وحتى أن يقبل العمل مع مخرجين جدد دون أن يدقق كثيرًا في مستواهم (خاصة في المرحلة الانتقالية).. قبله جمهوره وهو يلعب الأب البخيل أو الأخ الأكبر أو حتى الجد وبدأت تظهر سمات (خفة الظل) المخفية وراء الشخصية القديمة التي تراوحت من (الشرير التقليدي) وبين (الفتوة) التقليدي أيضًا.. وكان ما نلحظه في أغلب اختيارات فريد أن الشخصية التي يمثلها كانت دائمًا لها مهنة أو وظيفة معينة.. بحار أو عامل أو سباك أو جندي أو أسطى.. مهن وشخصيات أعاد الملك إليها اعتبارها واحترامها بل وتقدير الطبقة التي أفرزتها والتي كانت تقود الوطن كله في هذه الفترة من تاريخ مصر.
وكان زواجه من هدى سلطان وسلسلة الأفلام التي صنعاها معًا تكريسًا لهذه الفكرة وأصبحت هدى معه أيقونة الشباب بجسدها البضي وروحها الشعبية وبحة صوتها وهي تغني لزوجها أو لبيتهما الصغير أملاً لقطاعات كبيرة في الطبقة الوسطى التي بدأت آمال الانتعاش تتفتح أمامها.. وبدأت في تكوين الصورة الذهنية عن (الجمال) الذي تفضله والقيم التي تدافع عنها في مواجهة الشر الذي يتربص بها و(الصراع) الذي كان الجميع يسعى إلى تهدئته بفكره (قوى الشعب العامل).
وكان فريد شوقي رغم حماسه الشديد لفكرة (الاشتراكية) الناصرية.. لاذع السخرية من التجربة في دوائر الأصدقاء..
وهذا حديث آخر.