في ظل تصاعد التنافس بين الولايات المتحدة وأوروبا في منطقة الشرق الأوسط، والذي يتجلى عبر سعي كل طرف لتعزيز نفوذه في الإقليم، تتبع واشنطن نهجًا يركّز على إيران كبوابة لهذا النفوذ، بينما تحاول أوروبا الغربية تعزيز مكانة فلسطين كمحور استراتيجي، وهو ما خلق صراعا خفيا بين الأدوات والوسائل التي يستخدمها كل طرف، في إطار محاولات كلٍ منهما لإضفاء الشرعية على دوره القيادي المرتقب، لتتخذ أبعادًا متعددة، تشمل الجوانب الإنسانية والسياسية، وأحيانًا تستند إلى القوة الذاتية والقدرة على التأثير في أطراف الصراع، ما يشير إلى حالة تنافسية ذات طابع صراعي قد تؤثر بشكل عميق على طبيعة العلاقات داخل المعسكر الغربي، في ظل خلافات دائرة بين أطرافه في قضايا أخرى، على غرار المسائل التجارية والأوضاع في أوكرانيا.
والملاحظ في النهج الذي اتبعته الغرب، وبالأخص الولايات المتحدة، في إدارة الصراعات على مدار العقود الماضية، هو الاعتماد على آليات قوة متعددة الأبعاد، تتجاوز مجرد التفوق العسكري أو الاقتصادي، وإنما تستمد أيضًا شرعيتها مما يمكننا تسميته بـ"شرعية التحالف"، والتي تمثل إطارًا توافقيًا يجمع بين دول المعسكر الغربي، لا سيما دول الاتحاد الأوروبي وحلفاء واشنطن في مناطق جغرافية مختلفة من العالم، حيث برز هذا التحالف كقوة دعم استراتيجية للرؤى والمواقف التي تتبناها واشنطن، مما أتاح لهذه الرؤى أن تحظى بغطاء سياسي ودبلوماسي دولي، حتى في الحالات التي تصطدم فيها مباشرة بقواعد العدالة الدولية، أو تتناقض مع المبادئ الإنسانية التي يفترض أن تكون ركيزة في النظام الدولي، وهو ما بدا في الانحياز الواضح والمتكرر لطرف دون آخر في النزاعات المختلفة، وهو ما أسهم بشكل كبير في تأجيج الصراعات وتعقيدها، بدلًا من تسويتها أو الوصول إلى حلول عادلة وشاملة.
هذا التوجه لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج هيمنة أمريكية أحادية الجانب استمرت منذ انتهاء الحرب الباردة، حيث تلاشى التوازن الدولي الذي كان يفرضه تعدد القوى الكبرى، مما خلق فراغًا مكن الولايات المتحدة من ممارسة سلطتها المطلقة دون وجود أي منافس قادر على التحدي أو فرض قيود فعلية مما جعل من الشرعية التي تستند إليها الولايات المتحدة ومن معها، خاصة ضمن التحالف الغربي، شرعية مؤقتة وهشة، مبنية على القوة المادية والتحالفات السياسية، أكثر مما تقوم على أسس العدالة أو الاعتراف الدولي الواسع، وهو ما يعكس أحد أبرز التحديات التي تواجه النظام الدولي المعاصر.
في واقع المشهد الدولي المعقد، لا يمكن اختزال الحالة التنافسية الراهنة في الثنائية الأمريكية الأوروبية فحسب، إذ تتعدى هذه الحالة الثنائية الكلاسيكية نحو شبكة أكثر تشعبًا من الأطراف الطامحة إلى تأكيد ذاتها كلاعب فاعل في النظام الدولي المتغير، حيث تتكشف ملامح تنافس داخلي في أوروبا على القيادة، تغذيه حسابات تاريخية ومصالح وطنية متباينة، فبريطانيا، رغم انسحابها من الاتحاد، تسعى إلى استعادة قيادتها القارية بعيدا عن الوحدة، وأما فرنسا، فإنها بدورها تحاول استعادة الدور الغائب في الشرق الأوسط، سواء من بوابة النفوذ التقليدي في لبنان، أو من خلال تبني مواقف أكثر جرأة في الملف الفلسطيني، تعكس رغبة في إعادة التموضع على المستوى القاري، بينما تبرز قوى أوروبية أخرى تحاول شق طريقها نحو ساحة الفعل السياسي الدولي، عبر إحداث اختراقات رمزية لكنها مؤثرة، كما هو الحال مع إسبانيا والنرويج، واللتين شكل قرارهما الأخير بالاعتراف الرسمي بدولة فلسطين انعطافة مهمة في الخطاب الأوروبي، حيث تكتسب هذه الخطوة دلالات أعمق عند النظر إلى الخلفية الرمزية لكلا البلدين، حيث تحمل عاصمتاهما (مدريد وأوسلو) إرثًا دبلوماسيًا موصولًا بمحطات مفصلية في مسار التسوية السياسية للصراع العربي-الإسرائيلي، ما يمنحهما رصيدًا تاريخيًا يمكن البناء عليه لاستحضار أدوار أكثر فعالية في المرحلة المقبلة.
ومن قلب هذا الحراك الأوروبي المتعدد الاتجاهات، يعاود سؤال "الشرعية الدولية" فرض نفسه، ولكن بصياغات جديدة لم تكن سائدة في العقود الماضية، فقد أفضى الانقسام الأمريكي الأوروبي، وتباين الرؤى بين الطرفين إزاء العديد من الملفات، إلى إعادة صياغة مفهوم القيادة العالمية بعيدًا عن مبدأ الغلبة أو الهيمنة العسكرية، لتُطرح بدائل شرعية أخرى أكثر ارتباطًا بالقيم والمبادئ، فبينما لا تزال واشنطن تراهن على أدوات الردع الاستراتيجي والتفوق المادي، باعتبارها منابع لشرعية ذاتية مستمدة من القوة الصلبة، والتي يسعى إليها الرئيس دونالد ترامب، نجد أن أوروبا، أو على الأقل قطاعات منها، تسعى لابتكار شرعيات موازية تستند إلى المرجعيات الأخلاقية، مثل شرعية العدالة، وشرعية الانحياز للقضية المركزية، وشرعية الفعل الإنساني.
وبينما يبدو الشرق الأوسط، في اللحظة الراهنة، ساحةً مفتوحة لتجاذبات القوى الغربية، وبالتالي فهو ليس مجرد هامش في معادلة النفوذ الدولي، بل محورا لصياغة فرص استراتيجية غير مسبوقة أمام القوى الإقليمية، حيث يبقى تصدع الإجماع الغربي، وتعارض الأولويات الأمريكية الأوروبية، فرصة تتجلى منها إمكانات جديدة للتحرك والمناورة، لم تكن ممكنة في ظل الهيمنة الغربية تحت قيادة واشنطن، عندما كان الدور محدودا برغبات القوى الدولية الكبرى، لتجد الدول الفاعلة نفسها أمام لحظة استثنائية لإعادة إنتاج أدوارها من موقع الفاعل لا المتلقي، بفضل التحولات الدولية والبنيوية داخل المنطقة، وعلى رأسها صعود خطاب التنمية كأداة للصمود وبناء الشرعية المحلية، خاصة مع تراجع ما يسمى بـ"محور المقاومة"، بعد شهور العدوان الماضية، والتي تجاوزت عام ونصف، لتبرز مصر بوصفها الفاعل الإقليمي الأبرز، ليس فقط بسبب ثقلها الجغرافي والتاريخي، بل لقدرتها النادرة على المواءمة بين ضرورات التأثير السياسي، ومتطلبات الاتساق الأخلاقي، في لحظة دولية معقدة.
ولعل أهم المؤشرات الدالة على ذلك، هو اتساع دائرة الالتفاف الأوروبي حول الرؤية المصرية في إدارة الملف الفلسطيني، سواء من خلال تأييد حل الدولتين بوصفه الخيار الوحيد القابل للحياة، أو عبر دعم القاهرة في الضغط لتمرير المساعدات الإنسانية لسكان غزة، أو حتى في تبنّي خطاب العدالة الدولية، في إطار دعوة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال القمة العربية الإسلامية في 2023، من خلال الدعوة إلى محاسبة مرتكبي المجازر، وهو ما يعكس تلاقيا، ربما غير مسبوق بين أوروبا والقاهرة لا يعكس فقط تلازمًا مصلحيًا، بل يكشف عن إدراك متزايد بأن الشرعية في النظام الدولي الجديد لن تُنتجها القوة فقط، بل ستُبنى أيضًا عبر شراكات عقلانية مع الفاعلين الإقليميين الذين يملكون مفاتيح الواقع.
في هذا الإطار، لا تبدو أوروبا مجرد قوة ناعمة تسعى لملء فراغ أخلاقي، بل طرفًا دوليًا يحاول إعادة تعريف موقعه القيادي من خلال أدوات مثل القانون الدولي، والرمزية الإنسانية، والانحياز للمبدأ، في مقابل نهج أمريكي أكثر صلابة، قائم على موازين الردع والتفوق الاستراتيجي، وهو ما يرجع في جزء كبير منه إلى تعمق فجوة الخلاف بين الجانبين على خلفية قضايا متعددة ومتشابكة.
المشهد الراهن يمثل في جوهره فرصة تاريخية للدول العربية، كي لا تكون مجرد متلق لتداعيات الانقسام الغربي، بل طرفًا يصوغ بفاعلية استراتيجيات تعتمد منهج التوافق، ويُعيد بناء موقع الإقليم كمساهم في إنتاج النظام، وهو ما أظهرته الدولة المصرية بكفاءة خلال أشهر العدوان على غزة عبر تقديم نفسها كـ"نقطة التقاء" نادرة بين سرديتين متناقضتين، أولهما الردع الذي طالما ومازالت تراهن عليه واشنطن، حيث أدارا معا ومعهما دولة قطر مفاوضات معقدة لوقف إطلاق النار في غزة والثانية هي العدالة التي وجهت أوروبا بوصلتها نحوها في الأشهر الماضية، وهو ما تجلى في التشاور والتنسيق والشراكات الثنائية التي عقدتها القاهرة مع القارة، سواء على المستوى الجمعي في إطار الاتحاد، أو مع القوى القارية البارزة.
وهنا يمكننا القول بأن الدور المصري لم يكن مجرد فعل دبلوماسي تقليدي، بل كان محاولة واعية لترسيخ موقع إقليمي مركزي في معادلة الشرعية الدولية الجديدة لإرساء دعائم لمرحلة جديدة، تُعاد فيها صياغة الدور العربي، مما يؤهله في رسم قواعد اللعبة الدولية ذاتها، ولكن تبقى فلسطين، بما تحظى به من مركزية هي نقطة الانطلاق.