بيشوى رمزى

تفكيك الاقتصاد العالمى

الأحد، 06 أبريل 2025 10:21 ص


الاجراءات الأخيرة التي اتخذها الرئيس الامريكي دونالد ترامب، برفع الرسوم الجمركية، تجاه العديد من الدول حول العالم، تعكس رغبة عارمة في توسيع نطاق الحرب التجارية، لتتحول إلى حرب عالمية، وهو الأمر الذي بدأت إرهاصاته مع انطلاق ولايته الأولى، عندما شن معركته الأولى مع الصين، على خلفية اختلال الميزان التجاري لصالح بكين، وما أسفر عنه من خسائر كبيرة للاقتصاد الأمريكي، دامت لسنوات، ناهيك عن كونها ساهمت بصورة أو بأخرى، إلى بزوغ قوى دولية يمكنها مزاحمة واشنطن على قمة النظام العالمي، مما أضفى الكثير من الزخم إلى دورها في عملية صناعة القرار الدولي، وهي الرؤية التي تبدو ممتدة إلى مختلف مناطق العالم، بعيدا عن تصنيفات العقود الماضية، والتي وضعت أمريكا في مركز العالم، والذي انقسم بين فريق من الحلفاء وآخر من الخصوم المارقين.

وعلى الرغم من الطبيعة الاقتصادية للقرارات التي اتخذها الرئيس ترامب، إلا أنه لا يمكن النظر إليها بمعزل عن التطورات الدولية الأخرى، والتي تشوبها الصراعات والحروب، والتي امتدت نحو مناطق الحلفاء الأقرب لواشنطن، في أوروبا، وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية والتي تعهد الرجل مرارا وتكرارا بإنهائها، سواء قبل عودته إلى البيت الأبيض أو بعدها، في إطار ما أسماه بـ"صناعة السلام"، والتي يبدو معتمدا في تطبيقه على تقويض ما أرسته واشنطن نفسها من مبادئ ومؤسسات، استطاعت من خلالها اعتلاء قمة النظام العالمي، سواء بعد الحرب العالمية الثانية بالشراكة مع الاتحاد السوفيتي، أو بعد انهيار الأخير، في أعقاب الحرب الباردة في ظل حقبة الهيمنة، والتي انطلقت منذ بداية التسعينات من القرن الماضي.

تحركات ترامب الاقتصادية، تتزامن مع خطوات سياسية، تقوم على تفكيك تلك الحالة المتشابكة، التي تضع على كاهل أمريكا العديد من المسؤوليات تجاه حلفائها، بدءً من محاولات تقويض الاتحاد الأوروبي خلال ولايته الأولى، مرورا بحلف الناتو، للتنصل من التزاماته الأمنية تجاه "المعسكر الغربي"، عبر إعادة توجيه بوصلته نحو مناطق أخرى من العالم، وحتى إعادة هيكلة تحالفات واشنطن وخصوماتها من خلال تخفيف نزعة العداء تجاه روسيا، وهو ما تراه أوروبا تهديدا مباشرا لمصالحها، وبالتالي فتبقى الاجراءات الأخيرة امتدادا اقتصاديا للنهج السياسي، والقائم على تفكيك المعسكرات، والذي سبق وأن تناولته في مقال سابق.

ولعل حديث واشنطن عن "صناعة السلام"، في مضمار السياسة الدولية، تزامنا مع إطلاق حربها الاقتصادية، يهدف في الأساس إلى إعادة توجيه بوصلة الصراع الدولي، بعيدا عن النفوذ، والهيمنة، نحو الاقتصاد، وهو ما يمثل امتدادا لنظرية "البحث عن صراع"، التي طالما اعتمدتها واشنطن خلال العقود الماضية للحفاظ على دورها، بينما كانت تدفع ثمنها بنفسها سياسيا واقتصاديا وعسكريا، فصار الاقتصاد، بحسب رؤية الرئيس ترامب البديل النموذجي للصراع الدولي، عبر اجراءات من شأنها تحقيق المصلحة الأمريكية المنفردة، في حين تساهم في إفقار العالم، مما يحتفظ بمكانة أمريكا ويحفظ لها قيادتها المطلقة على حساب كافة الأطراف الأخرى، وعلى رأسهم حلفائها.

اجراءات ترامب الاقتصادية تمثل ورقة ضغط قوية على المحيط العالمي للرضوخ إلى رغباته، والتي تجاوزت "الخطوط الحمراء"، التي أرساها العالم في مرحلة ما بعد الحقبة الاستعمارية، خاصة فيما يتعلق بسيادة الدول، التي يسعى إلى شراء أجزاء من أراضيها على غرار جزيرة جرينلاند الخاضعة لسيادة الدنمارك أو كلها كما هو الحال مع كندا التي يسعى إلى ضمها بالكامل لتصبح الولاية الحادية والخمسين، عبر إفقارها وهو ما يخلق نزعات متمردة على الحكومات في الداخل، وخلق فرق من شأنها دعم الانفصال عن الأوطان والانضمام إلى الدولة الوحيدة الغنية في عالم فقير.

وفي الواقع، لن تقف القوى الأخرى مكتوفة الأيدي في مواجهة ترامب ورسومه الجمركية وإجراءاته الاقتصادية، والتي تحمل في طياتها نزعة استعمارية بصيغة اقتصادية وليست عسكرية، مما يفرض خلق شراكات بين حلفاء واشنطن وخصومها، تساهم في تغيير الخريطة الدولية، في إطار حرب اقتصادية عالمية، قد تأكل الأخضر واليابس، على غرار الحروب العالمية التي شهدها القرن الماضي، وساهمت في بزوغ أنظمة دولية جديدة، في ظل بيئة دولية مرتبكة بين حالتين متعارضتين، أولهما يقوم على بناء عالم متعدد الأقطاب تسعى إليه الصين ومعها روسيا، بينما تقوم الحالة الأخرى على الهيمنة الأحادية التي تحمل شرعيتها من ذاتها وقوتها، وهي الرؤية التي يتبناها الرئيس ترامب، وتدور حولها كل سياساته الدولية والاقتصادية، سواء في ولايته الأولى أو منذ صعوده إلى البيت الأبيض، قبل أسابيع معدودة في ولايته الثانية.

وهنا يبدو أن وعود ترامب للعالم حول "صناعة السلام"، يقابلها تغيير وجهة الصراع، والذي يمثل لب وجوهر القيادة الأمريكية، منذ الحرب العالمية الثانية والتي نصبت واشنطن رسميا كقائد للركن الغربي من العالم، ثم الحرب الباردة التي وضعتها منفردة في موقع القيادة الدولية بدعم من الغرب، بينما تسعى في اللحظة الراهنة إلى حرب عالمية جديدة ذات طابع اقتصادي من شأنها، حال نجاح الخطة الأمريكية، إلى حقبة دولية جديدة من الهيمنة الأحادية المستمدة من قوتها، عبر إضعاف منافسيها اقتصاديا، وهو ما ينجم عنه ضعفا شاملا سياسيا وعسكريا، في حين حال قدرة الأطراف الأخرى، في التصدي له، سيتحول العالم نحو نظام جديد متعدد الأطراف، قد تبقى واشنطن فاعلا فيه ولكن لن تكون الفاعل الوحيد.

وهنا يمكننا القول بأن اجراءات ترامب تمثل أحد مراحل حرب عالمية جديدة، تعتمد نهج "تفكيك الاقتصاد العالمي"، عبر سياسات قد تكون نهاية حالة المخاض الدولي الذي ينبئ عن ميلاد نظام عالمي جديد يعتمد إما المزيد من الهيمنة لطرف واحد، أو مزيد من التعددية الدولية، وهو ما يتطلب تعزيز الشراكات لتحقيق أكبر قدر ممكن من التوازن الدولي لتحقيق العدالة، عبر تنحية الخلافات والخصومات جانبا، والعمل على تعزيز المصالح المشتركة.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب