رحل البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، وهو رجل من طراز نادر، قد لا ندرك قيمته كاملة الآن، لكن سيأتى زمن نقارن فيه ونفهم، فنعرف حينها أن ليس كل من جلس على كرسي البابوية حمل معه روحًا تتسع للعالم، ليس كلهم امتلكوا هذه الرغبة الصافية في السلام، وهذا الميل الفطري للكلام عن الخير، ولعل في علاقة البابا فرنسيس بالأزهر الشريف أكبر دليل على ما نود قوله.
وأعترف أنني كنت أكن احترامًا كبيرًا لهذا الرجل، لا بوصفه بابا الفاتيكان فقط، بل لأنه — في ظني — فهم الدين كما أراده الله، فهمه على أساس كونه "رحمة" للبشر، وأدرك أن الأديان جاءت لتهدئ من روع الإنسان، لا لتفجر داخله مزيدًا من الصراع، ولذلك، مضى في طريقه يحاول أن يقلل من الشرور ما استطاع، ويجعل للمحبة مساحة، وللتفاهم صوتًا.
ودائما ما حاولت أن أفهم شخصية الرجل، حاولت أن أبحث عن النقطة المضيئة التى أشعلت كل هذه المحبة، فالأمر يتجاوز كونه بابا الفاتيكان، فكم من بابا قبله كان لا يقيم علاقة بالآخر ولا يدخله من باب المحبة، حتما فرنسيس المولود باسم خورخى ماريو بيرجوليو فى الأرجنتين فى عام 1936 والذى ححمل رقم 266 فى تاريخ باباوات الفاتيكان، لديه فهمه الخاص بالأشياء.
كان يؤمن بالاختلاف، وأحسب أن هذه هي أعظم القيم التي نفتقدها في هذا العالم المُنهك، كان يشعر بأن ما يجمعنا كبشر أكثر بكثير مما يفرّقنا، وكان يُصغي للوجع الإنساني، ليس فقط من موقعه، ولكن من ماضيه، فأنا أظن أن الرجل لم يكن يرى الفقر نظريًا، بل عاشه في تفاصيله، في بلاده الأصلية بالأرجنتين، حيث تتجاور البيوت الخشبية مع الأحلام المكسورة، وتقتسم الناس اللقمة والهمّ.
هذه الرؤية كانت واضحة في كلماته، في مواقفه، ويكفي ما قاله في مؤتمر أساقفة أمريكا اللاتينية عام 2007 "نحن نعيش فى الجانب الأكبر لغياب المساواة فى العالم التى تزايدت الآن أكثر، بينما بدت جهود القضاء على البؤس هى الأقل، ومازال التوزيع غير العادل للبضائع قائما، مما يخلق حالة من الخطيئة الاجتماعية، تطلق صرخاتها للسماء وتحجم إمكانات حياة أفضل للعديد من إخواننا"، تلك هي روحه. روح من أدرك أن العالم ليس بخير، لكنه رغم ذلك، لا يزال مؤمنًا أن الخير ممكن، كان شعاره "تحابوا"، وهو شعار كان كافيًا لو سكن قلوب رجال الدين في كل الأديان، لكان لنا عالم أقل بؤسًا.
الآن رحل البابا فرنسيس، ولم يبقَ لنا إلا أن نذكره كما يستحق.. رجل أحب الخير، ومشى في طريقه وحده، دون صخب، ودون ضجيج. رجلًا نرجو أن يتبعه من يفهم أن العالم لا يحتاج إلى وعظ بقدر ما يحتاج إلى قلوب تتسع.