أهمية كبيرة حظت بها القمة العربية الطارئة التي استضافتها القاهرة، في ضوء العديد من المعطيات، وعلى رأسها موضوع القمة وعنوانها، فقد كان اختيار "قمة فلسطين" عنوانا لها صائبا تماما، باعتباره في ذاته رسالة مهمة، يمكن للعالم استلهامها قبل الاستماع إلى كلمات القادة أو قراءة الصحف أو التحليلات التي ستلي انعقادها، مفادها أن فلسطين هي القضية، رغم أن غزة هي مركز النقاشات التي دارت بين الزعماء والقادة العرب، وهو ما يمثل امتدادا للرؤية التي تبنتها الدولة المصرية منذ اللحظة الأولى للأزمة، واندلاع العدوان، عندما تبنت القضية باعتبارها قضية العرب المركزية، في الوقت الذي حاول فيه الاحتلال تصدير "غزة"، في إطار محاولاته لـ"شرعنة" انتهاكاته التي طالت آلاف المدنيين، تحت ذريعة الدفاع عن النفس في مواجهة التهديد الذي يمثله القطاع.
ولعل محاولات الاحتلال الإسرائيلي تصدير "تهديدات" غزة، كانت جزءً لا يتجزأ من الرؤية التي تبناها لتصفية القضية الفلسطينية، والتي تجلت في دعوات صريحة، على غرار تهجير الفلسطينيين، بينما خرجت في إطار ضمني، عبر خطاب إسرائيلي تبنى الحديث عن القطاع وما يمثله من تهديد، وهو ما يحمل في طياته استبدالا للقضية الأم بأخرى، كما يهدف إلى تجزئتها إلى قضايا أخرى أصغر، انطلقت من غزة، ثم جنوب لبنان، وسوريا، ومنها إلى اليمن وأخيرا الضفة الغربية، وهو ما ترجمته الاعتداءات الإسرائيلية خلال خمسة عشر شهرا كاملة، وهو ما يهدف في الأساس إلى صرف الأنظار عن فلسطين وقضيتها، تمهيدا لتصفيتها تماما، وبالتالي تقويض الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، وهو الأمر الذي رفضته الدولة المصرية ونجحت تماما في حشد المجتمع الدولي ورائها في هذا الإطار عبر دبلوماسية هادئة تعتمد فكرة الحوار.
وفي الواقع، تعد القمة الطارئة بمثابة امتدادا لفكرة الحوار الذي تتبناه الدولة المصرية، وهو ما بدأ منذ انعقاد قمة القاهرة للسلام، ثم مشاركتها الفعالة في القمتين العربيتين الإسلامي، والهدف تجلى في تحقيق توافقات دولية وإقليمية حول الثوابت، في حين أن القمة العربية الطارئة استهدفت تعزيز التوافق فيما يتعلق بالخطة المصرية، لإعادة إعمار غزة، دون تهجير سكانها، وهو ما يمثل محور الاجتماع، بينما يضفي المزيد من الشرعية الدولية لفكرة الرفض التام والمطلق للتهجير، وهو الهدف الرئيسي للدولة العبرية، والتي باتت لا تراهن على شيء سوى دعم الولايات المتحدة.
ولكن يبقى الأمر الملفت في هذا الإطار، هو حالة الانتقال السلس بين مراحل إدارة الحوار الدولي، الذي تبنته الدولة المصرية، خلال أزمة غزة منذ البداية، فالقمم الأولى دارت حول تعزيز الثوابت إقليميا ودوليا، في حين أن القمة الأخيرة، ارتكزت على تعزيز دور المنطقة العربية، وفي القلب منه الدور المصري، فيما يتعلق بالقضية المركزية، عبر إضفاء شرعية دولية، وليست مجرد إقليمية، للخطة المصرية التي اصطبغت بصبغة عربية، في خطة إعادة الإعمار، وهو ما يمثل تحولا مهما في إدارة الدور الإقليمي في دعم القضية، ليصبح فاعلا، وليس مجرد رد فعل، من شأنها الدوران في فلك قوى أخرى.
شرعية الرؤية المصرية العربية، استلهمتها من الحضور الكبير للقمة، والذي لا يقتصر على الجانب العربي، وإنما في وجود ممثلين عن العديد من الأقاليم الجغرافية المؤثرة في العالم، منها القارة الإفريقية، في ظل وجود رئيس أنجولا، جواو مانويل جونكالفس لورينسو، باعتباره رئيس الاتحاد الإفريقي، ورئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، ممثلا عن أوروبا، بالإضافة إلى الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي حسين إبراهيم طه، ناهيك عن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش.
الهوية العربية، التي حرصت مصر على تعزيزها في القمة الطارئة، في وجود ممثلين عن أقاليم العالم المؤثرة، يهدف في الأساس إلى إضفاء الشرعية الدولية إلى الرؤية العربية التي قدمتها القاهرة وحظت بإجماع عربي، في مواجهة مقترحات التهجير التي تتبناها إسرائيل، وتحظى بدعم الولايات المتحدة، وهو ما يمثل خطوة مهمة، ليس فقط في إطار تمرير خطة مصر لإعادة إعمار غزة، وإنما أيضا فيما يتعلق بمركزية الدور العربي في القضية الفلسطينية، وبالتالي أصبح من غير الممكن تجاهله بأي حال من الأحوال عند الحديث عن مستقبلها أو مستقبل أي جزء منها.
وهنا يمكننا القول بأن نجاح القمة الطارئة في القاهرة، لا يرتبط فقط بالخطة المقدمة من مصر وتمريرها عربيا، وإنما تجاوزت هذا الإطار عبر تقديمها إلى العالم كرؤية عربية، في إطار حالة من "الحوار بين الأقاليم"، تقوده المنطقة العربية، في وجود الأقاليم الأخرى المؤثرة والمرتبطة تاريخيا بالقضية الفلسطينية، وهو الأمر الذي يستتبعه بالضرورة جهود دبلوماسية من قبل المنظومة العربية، تحت مظلة جامعة الدول العربية، لتسويق هذه الرؤية عالميا، ومجابهة المقترحات الأخرى القائمة على ترحيل الفلسطينيين من مناطقهم، في ظل ما تحمله من انتهاك لحقوق ملايين البشر، تصل إلى حد الإبادة الجماعية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة