الأزمة الكبيرة التي واجهتها أوروبا، تتجلى في غياب مشروع وحدوي، حتى منذ قبل حقبة الحروب العالمية، ففي الحقبة الاستعمارية كانت المشروعات التوسعية فردية، وهيمنت عليها القوى الأكبر المسيطرة على العالم، وعلى رأسهم بريطانيا، والتي أصبحت بفضل مستعمراتها "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، وفرنسا، وربما ظهرت إيطاليا وإسبانيا وغيرهما، وإن كانت بصورة أقل، في حين كانت العلاقة فيما بين القوى القارية صراعية، جراء الرغبة في تحقيق أكبر قدر من التوسع على حساب الآخر، بينما في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية، فارتكزت الرؤى الأوروبية على تقديم الفروض الولاء والطاعة للقوى الجديدة المهيمنة على الغرب أولا، ثم العالم بعد ذلك، وهي الولايات المتحدة، بينما بقت الصيغة التنافسية حاكمة، وإن كانت بصورة أقل حدة، في إطار الرغبة في استرضاء الحليف الأمريكي طمعا في الحصول على أكبر قدر من المزايا، سواء كانت سياسية أو اقتصادية.
وحتى في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، بدا على السطح مشروع مارشال، وذلك لإعادة إعمار القارة العجوز، إلا أنه لم يصلح ليكون مشروعا أوروبيا بامتياز، فقد جاء مستوردا من الولايات المتحدة، وبالتالي فقد كان الهدف منه، وإن كان إحداث تنمية حقيقية في دول أوروبا، إلا أنه كان يضع في المقام الأول مصالح واشنطن، وقدرتها على التحكم في وتيرتها التنموية، عبر الاعتماد على المزايا المقدمة لهم من الولايات المتحدة، وبالتالي السيطرة عليها عبر المنح أو المنع.
الحالة الأوروبية ذات الطبيعة التنافسية، ربما توارت بصورة كبيرة خلف حالة الاتحاد، الذي تأسس بصورة رسمية في بداية التسعينات من القرن الماضي، حتى تجلت في أبهى صورها مع هبوط منحنى العلاقة مع الولايات المتحدة تدريجيا، وهو الأمر الذي بدأ مع حلول ألمانيا في عهد المستشارة أنجيلا ميركل، لتكون الذراع الذي تستند عليه إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، على حساب بريطانيا، والتي تعد الحليف التاريخي، بينما أعاد الرئيس دونالد ترامب الأمور إلى نصابها، بعدما استجابت لندن لدعوته بالخروج الفوري من أوروبا الموحدة، في حين ظهرت فرنسا في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون كمنافس قوى لألمانيا لقيادة الاتحاد، وبالطبع لبريطانيا التي تسعى للقيادة القارية من خارجه.
التنافس الأوروبي يرجع في جزء منه إلى كونه امتداد للتاريخ الاستعماري للقوى القارية يمثل سببا رئيسيا في غياب مشروع قاري موحد، رغم حالة الاتحاد، حيث يبقى غياب الهوية المشتركة سببا آخر، لا يقل أهمية، وهو العامل الذي يعد أحد أكبر المعضلات، والتي سعى أباء أوروبا الموحدة لمعالجتها، عبر استبدالها بالمبادئ المشتركة، لدول المعسكر الغربي، وعلى رأسها الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير، إلا أنها في واقع الأمر لم تنجح في سد الفراغ الناجم عن غياب الهوية، وهو الأمر الذي أدركته دولا أوروبية، وعلى رأسها إيطاليا، لحظة التوقيع على اتفاقية ماستريخت، والمؤسسة للاتحاد الأوروبي، عندما أثارت فكرة الإشارة إلى الإرث المسيحي للقارة في الدستور الأوروبي، وهو ما قوبل بالرفض للحفاظ على هوية الكيان الموحد العلمانية.
لم تتوقف أزمة أوروبا، في بناء مشروعها الخاص، على الحالة التنافسية التي تصل في الكثير من الأحيان إلى حد الصراع، وإنما أيضا في غياب ما يمكننا تسميته بـ"القضية المركزية"، والتي تتبناها القوى الرئيسية للقارة، حيث ارتكزت سياسات أوروبا، سواء على المستوى الفردي، أو في إطار الاتحاد، على الدوران في الفلك الأمريكي، بينما لم تكن هناك رؤية مركزية، وهو الأمر الذي ربما لم تفرضه الظروف الدولية والإقليمية، جراء ما نعمت به القارة من استقرار طيلة عقود طويلة من الزمن، إلا أنه في الوقت نفسه يعكس عجز الكيان الجمعي عن بناء هدف مركزي واقعي يمكن الالتفاف حوله، وتعزيزه، خاصة فيما يتعلق ببناء القدرات الذاتية سواء على المستوى الفردي أو الجمعي، وهو ما ساهم في تباين الدور الذي تلعبه أوروبا الموحدة، بحسب توجهات الإدارة الحاكمة في واشنطن، وهو ما كشفته ولاية ترامب الأولى، ثم يظهر مجددا مع أيامه الأولى في الولاية الثانية.
وفي الواقع، يبدو الموقف الأمريكي من الأزمة الأوكرانية تهديدا صريحا، بحسب ما تراه أوروبا، لمصالحها ومستقبلها، خاصة فيما يتعلق بمسألة العلاقة مع روسيا، وهو ما قد يساهم في خلق "قضية مركزية" للقارة العجوز، ولكن تبقى العراقيل كبيرة، في إطار توحيد الجهود، نحو بناء خطة مستقلة، لمجابهة الرؤى الأمريكية، منها على سبيل المثال الاعتماد المطلق على واشنطن فيما يتعلق بمسألة الدفاع، من خلال الناتو، بالإضافة إلى الارتباط العضوي بين اقتصادات دول القارة والاقتصاد الأمريكي، ناهيك عن معضلة تباين الرؤى تجاه حالة الاتحاد نفسها، داخل دول القارة، مع صعود التيارات اليمينية المناوئة له، وبالطبع لا يمكننا أن نتجاهل في هذا الإطار عامل غياب الهوية المشتركة، والذي يدفع قطاع من الدول إلى تجاهل الأزمة.
ولعل العلاقة بين المشروع الأوروبي والقضية المركزية، تبدو وثيقة، فوجود المشروع القاري الخالص ذو الرؤية الموحدة، في إطار تنموي وسياسي وعسكري، يمكن من خلاله الدفاع عن مصالح دول القارة بصورتها الجمعية، بعيدا عن النزعات التوسعية، وهو ما من شأنه يساهم في تعزيز المواقف القارية، تجاه القضايا المشتركة ذات الطبيعة المركزية، خاصة إذا ما كانت تراها دول القارة تهديدا وجوديا لها، خاصة مع التغييرات التي قد تطرأ على الظروف الدولية.
وهنا يمكننا القول بأن الحاجة باتت ملحة إلى مشروع أوروبي يقوم على تعزيز قدرات القارة العجوز للاعتماد على نفسها في مواجهة ما يطرأ عليها من تحديات، أو تغييرات تفرضها الحالة الدولية، مما يساهم بقدر ما في تعزيز مواقفها فيما يتعلق بما تراه من قضايا مركزية ذات طبيعة وجودية في المستقبل، وهو ما يبدو في اللحظة الراهنة مع تصاعد الخلاف مع الحليف الرئيسي وهو الولايات المتحدة فيما يتعلق بأزمة أوكرانيا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة