كم من الشعوب دفعت ثمنا باهظا من أمنها واستقرارها باسم الديمقراطية! بدءا من غزو العراق فى 20 مارس 2003 أى منذ 22 سنة بالتمام والكمال، تحت شعار «جلب الديمقراطية» وتحويل العراق إلى جنة الحرية والنموذج فى الشرق الأوسط، ومرورا بالتدخل السافر فى الشؤون الداخلية للدول التى ترفع راية العصيان برفض قرارات أو عدم الانصياع لسياسات الدول الكبرى، وذلك من خلال الإيعاز لعدد من المنظمات الحقوقية، لإصدار تقارير تدين هذه الدول فى ملف الحريات، وصارت هذه التقارير سيفا مسلطا على رقاب الشعوب.
كانت نتاج هذه التقارير غير الأمينة، التى وُظفت واستثمرت لأهداف سياسية، أججت نار الخلافات والانشقاقات فى المجتمعات المستهدفة، وخلقت ودعمت جماعات وتنظيمات لتكون بمثابة رأس الحربة لتنفيذ مخططاتها، حتى اندلع ما يطلق عليه زورا وبهتانا ثورات الربيع العربى، وتكشفت الحقائق، وظهرت التسريبات، وتبين أن رسائل الحرية والديمقراطية مجرد شعارات تُدشن فى الغرب وأمريكا، وتطبق فى دول العالم الثالث، وتحديدا منطقة الشرق الأوسط.
سقطت كل الأقنعة، وظهرت الوجوه السافرة على حقيقتها مع اندلاع حرب الإبادة فى غزة، ورأينا كم كانت الأغانى والترانيم والتشدق المفرط بشعارات حقوق الإنسان، مجرد تجارة رخيصة، وأن قتل وتشريد الأطفال والنساء وكبار السن فى حرب إبادة أمرا عاديا، وأن الضمير الإنسانى انقرض من صدور القاطنين فى البيت الأبيض والمؤسسات التابعة له، وأن طرد شعب من فوق أراضيه قسرا، أمر عادى!
رأينا الإدارة الأمريكية الحالية ترفع شعار التهديد والوعيد والانتقام من الخصوم، وسلب حقوق الغير عنوة، بينما يطلق نائب الرئيس الأمريكى الحالى سهام انتقاداته للدول الأوروبية، ويتهمها بأنها أبعد ما تكون عن الممارسة الديمقراطية، ما أثار غضب الدول الأووبية جميعا من هذه الانتقادات اللاذعة.
العجيب أنه وخلال الساعات القليلة الماضية، وقعت حادثتين متشابهتين إلى حد التطابق، فى واشنطن وتل أبيب، فقد اصطدمت الإدارة الأمريكية بعنف مع القضاء والمحامين، وقال موقع أكسيوس الإخبارى: إن دونالد ترامب قاب قوسين أو أدنى من أزمة قضائية، حيث يعتقد كبار الخبراء القانونيين أن هناك مواجهة دستورية شاملة بدأت بالفعل بين ترامب والقضاء.
يتفق أغلب الخبراء على أن معركة إدارة ترامب مع القاضى الفيدرالى جيمس بواسبيرج، الذى أمر الأسبوع الماضى بوقف مؤقت لترحيل الإدارة، أفراد زعموا أنهم من عصابة فنزويلية، هو تصعيد كبير.
المحامى المحافظ، جون يو، حليف ترامب، يشعر بالقلق الشديد من أن البعض فى الإدارة الأمريكية يرفعون راية التحدى للأمور القضائية، وهو ما سيكون خطأ مروعا.
«أكسيوس» فجر مفاجأة مفادها أن أعضاء بارزين فى إدارة دونالد ترامب والمدافعين عن حركته «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، كانوا يتحدثون على مدار أشهر عن ضرورة تجاهل القرارات القضائية التى لا تعجبهم. والآن، هذا الحديث محل اختبار.
فى حين قالت صحيفة واشنطن بوست: إن البيت الأبيض يوجه مسؤولى إنفاذ القانون الفيدراليين بالسعى إلى فرض عقوبات على المحامين أو الشركات القانونية التى تتحدى قرارات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى المحكمة، فى خطوة تعتبر تصعيدا من هجمات الرئيس على من يعارضون التغييرات السياسية العنيفة، التى يجريها أو من قاموا بمقاضاته فى الماضى.
وأشارت واشنطن بوست إلى أن هذا الصدام الصعب جزء من سلسلة من الإجراءات التنفيذية الاستثنائية فى الأسابيع الأخيرة، التى تشمل معاقبة القضاة والمحامين الذين تبنوا مواقف ضد ترامب.
ونسأل: أين استقلال القضاء، وحرية المحامين فى الدفاع عن المظلومين فى أعتى الدول الديمقراطية، وهل هذه هى الحرية التى تتغنى بها أمريكا؟
ومن واشنطن لتل أبيب، وقعت نفس الحادثة وكأن هناك تنسيق بين الإدارتين، إدارة ترامب وحكومة نتانياهو، فقد قررت الحكومة الإسرائيلية إقالة المستشارة القانونية للحكومة، المحامية «غالى بهاراف ميار»، ويأتى القرار فى إطار خطة نتنياهو لإقصاء كل خصومه، وإحكام قبضته على المؤسسة الأمنية والقضائية!
قرار إقالة المستشارة القانونية، بهارات ميار، يأتى عقب رفضها قرار الكابينيت الإسرائيلى برئاسة نتنياهو بإقالة رونين بار، رئيس جهاز الأمن العام «الشاباك»، وهو الرفض الذى أيدته المحكمة العليا الإسرائيلية، ما دفع نتنياهو لتوجيه اتهامات للدولة العميقة فى إسرائيل وسعيها لاستخدام القضاء لتقويض قراراته.
قرار نتنياهو بإقالة رئيس الشاباك «رونين بار» دفع عشرات الآلاف من الإسرائيليين للخروج فى شوارع تل أبيب احتجاجا على هذا القرار، واعتباره غير دستورى، وكان ضمن المتظاهرين أسر الأسرى والمحتجزين لدى حماس، ممن يرون قرار إقالة «بار» هو سعى من نتنياهو لإفشال الإفراج عن الأسرى، خاصة أن الشاباك ورونين بار كانا طرفين رئيسيين فى مفاوضات الأسرى.
الصدام الواقع سواء بين إدارة دونالد ترامب، والقضاء والمحامين فى الولايات المتحدة الأمريكية، وأيضا بين نتانياهو والقضاء والشاباك فى تل أبيب، تشابه عجيب وغريب، ويُعد هدما لمعبد الديمقراطية على رؤوس القديسين ورسل وعبدة الحرية، الذين كان البعض فى دول المنطقة يؤمن بها ويعتبرونها نبراسا يجب السير على هداه!