حين تهدأ الأصوات، ويسكن الليل فى حِلَّته المهيبة، ويُرسل القمر أشعته على أفق التأمل، هناك فى زوايا السحر يتجلّى نورٌ آخر، نورٌ لا تدركه الأبصار، ولكنه يملأ القلوب حياةً وسكينة، إنه نور القيام، حين يقف القلب بين يدى ربه، يتبتل فى حضرته، ويناجيه بأسمائه الحسنى، وينطرح فى محراب القرب مستمطرًا فيوضات الرحمة والرضوان، وإذا كان لقيام الليل سرٌّ يختص به، ولذة لا يعرفها إلا من ذاقها، فإن أشرف من أقامه، وأعظم من تبتل بين يدى ربه فى ليالى الصفاء، هو الحبيب المصطفى ﷺ، الذى كانت قدماه تتورمان من طول القيام، فيفيض عليه الليل من بركاته، ويعانقه الخشوع فى أبهى تجلياته، ليكون رمضان موسمًا لتعانق الأرواح مع السمو، ولتتجلى فيه أعظم معانى العبودية وأسمى لحظات القرب، كان النبى ﷺ يحيى ليالى رمضان بقلب تواق، وروح مشتاقة، وعيونٍ دامعة، حتى إذا جاءت العشر الأواخر شدَّ مئزره، وأيقظ أهله، وأحيا الليل كله، وقد وصفته أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها فقالت «كان رسولُ اللهِ ﷺ يجتهدُ فى رمضانَ ما لا يجتهدُ فى غيرِه»، كان يُصلى حتى يُقال لا يترك، ويترك حتى يُقال لا يصلى، وكان إذا مرَّت به آية رحمةٍ سأل الله من فضله، وإذا مرَّت به آية عذابٍ استعاذ بالله، فكان قرآنه صلاة، وصلاته قرآنًا، تتماوج فيها الآيات بخشوعٍ يأسر القلوب، ودموعٍ تغسل الأرواح من غفلتها، كما فى حديث حذيفة رضى الله عنه حين قال «صليتُ مع النبى ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فافتتحَ البقرةَ، فقلتُ يركعُ عندَ المئةِ، ثم مضى، فقلتُ يصلى بها فى ركعةٍ، فمضى، فقلتُ يركعُ بها، ثم افتتحَ النساءَ فقرأَها، ثم افتتحَ آلَ عمرانَ فقرأَها، يقرأُ مترسِّلًا، إذا مرَّ بآيةِ تسبيحٍ سبَّحَ، وإذا مرَّ بسؤالٍ سألَ، وإذا مرَّ بتعوُّذٍ تعوَّذَ»، وما كان ﷺ ليحيا هذا الصفاء وحده، بل كان يشجع أمته على القيام، ويرغّب فيه أيما ترغيب، قائلا «مَن قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذنبِه»، وكان يبين لهم أن ذلك دأب الصالحين فى كل زمان، فيقول «عليكم بقيام الليلِ، فإنَّهُ دأبُ الصالحينَ قبلَكم، وقربةٌ إلى اللهِ تعالى، ومَنهَاةٌ عن الإثمِ، وتَكفيرٌ للسيِّئاتِ، ومَطردةٌ للدَّاءِ عن الجسدِ»، وكان الصحابة يقتدون به، فإذا بهم يُحيون الليل ركعًا وسجودًا، حتى إذا نزل رمضان امتلأت المساجد بالركع السجود، وتعالت أصوات القرآن فى المحاريب، وكان ﷺ لا يكتفى بقيام الليل منفردًا، بل كان يؤم الناس، فيجمعهم على نور القرآن، حتى قال أبو ذر رضى الله عنه: «صَلَّى النبى ﷺ بِهُم لَيْلَةً، فَقَرَأَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَالنَّاسَ، فَقَرَأَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ اجْتَمَعَ أَهْلُ المَسْجِدِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ قَدْ رَأَيْتُ مَا صَنَعْتُمْ، فَلَمْ يَمْنَعْنِى مِنَ الخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ»، وإننا اليوم، إذ نقرأ فى صفحات سيرته، ونستنشق عبير قيامه، كيف لا نحيى هذه الليالى المباركة بقلوبٍ خاشعة، وأنفسٍ متلهفة كيف لا نجعل لقيام الليل نصيبًا فى أعمارنا، وقد شهد الله لأهله فى كتابه، فقال «إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿١٥﴾ٓ أَخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ ﴿١٦﴾ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴿١٧﴾ وَبِٱلْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» فهلمّوا إلى ليالى رمضان، لنحيا فيها بسيرة النبى ﷺ، ونُعيد لقلوبنا نورها، ولنخشع فى صلاتنا كما خشع، ونتبتل فى محاريبنا كما تبتل، ولنجعلها ليالى صفاء كما أرادها الله، عسى أن نكون من أهل قوله تعالى«تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ ﴿١٦﴾ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍۢ جَزَآءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١٧)» فما أعظمها من ليالٍ، وما أكرمها من نفحاتٍ، وما أزكاها من لحظاتٍ، حين يتصل العبد بربه، ويذرف دمع الخشوع، ويشعر بأنه فى معية الله حيث لا وحشة ولا ظلام.
وللحديث بقية.