حالة كبيرة من الارتباك في الداخل الإسرائيلي، لا ترتبط فقط بالمستجدات الأخيرة، وإن كانت ساهمت في تأجيجها بصورة كبيرة، ولكنها تعود إلى بداية القصة في 7 أكتوبر، والحديث المتواتر عن أسباب الفشل في ذلك اليوم، ناهيك عن إدارة الملف من قبل حكومة بنيامين نتنياهو، ما ترتب عليه من عمليات عسكرية، امتدت من غزة نحو الجنوب اللبناني، مرورا بسوريا واليمن وحتى المناوشات مع إيران، دون تحقيق الهدف الأهم الذي يحظى بالأولوية القصوى لدى الشارع في الدولة العبرية، وهو تحرير الرهائن، ناهيك عما أثبتته التحقيقات التي أجراها الجيش حول مقتل عدد منهم خلال الهجمات التي شنها الاحتلال، بينما يبقى تحرير بعضهم نتيجة للتفاوض، في إطار اتفاق وقف إطلاق النار، وليس كنتيجة لانتصار عسكري، وهو الأمر الذي يمثل في جوهره سببا رئيسيا في حالة الغضب العارم لدى قطاع كبير من المواطنين، ترجمته الاحتجاجات، إثر قرار الحكومة بالعودة مجددا إلى ميدان الحرب، دون تحرير باقي الرهائن، مما يعرض حياتهم لخطر داهم، إن لم يكن بسلاح الفصائل، فقد يكون بقنابل الطائرات الإسرائيلية، بينما امتدت دائرة الغضب من الشارع إلى دائرة السلطة، في ظل احتجاج مسؤولين بارزين على سياسات الحكومة المتطرفة، وأحدثهم رئيس جهاز الشاباك رونين بار، ومستشارة الحكومة القضائية وطالتهما عصا الإقالة.
وبين الغضب العارم في الداخل الإسرائيلي، وسياسة التجاهل الحكومي لها، في ظل الإصرار على مواصلة الحرب، والمقامرة بأرواح ما تبقى من رهائن في غزة، تتجلى العديد من الحقائق الهامة، أبرزها طغيان المصلحة الشخصية لنتنياهو والذي يسعى للبقاء في منصبه، ومعها التوجهات الأيديولوجية للحكومة التي يهيمن عليها المتطرفون في إسرائيل على حساب مصلحة المواطن، بينما تبقى الحقيقة الأخرى التي لا تقبل الجدل هي انكشاف أكذوبة الديمقراطية في الدولة العبرية والتي طالما تغنى بها حلفائها لعقود طويلة من الزمن، باعتبارها النموذج الذي ينبغي تعميمه في المنطقة بأسرها، حيث تبقى الإجراءات القمعية التي تمارسها سلطات الاحتلال دليلا دامغا على هشاشة الحالة الديمقراطية في إسرائيل، واختفائها حال تعارضها مع مصلحة الحاكم أو أيديولوجيته.
والواقع، أن جوهر الأيديولوجية التي تحكم الأحزاب السياسية في إسرائيل، لا يختلف كثيرا، فالنزعة التوسعية عقيدة مشتركة للجميع، إلا أن كيفية التطبيق يبقى الخلاف الرئيسي فيما بينهم، في ضوء العديد من الثوابت، أهمها حماية الداخل في مواجهة أي تهديد، وهو الأمر الذي فوضته أحداث السابع من أكتوبر، والاحتفاظ بالدعم الدولي، القائم على جناحين رئيسيين وهما الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، وهو ما اعتمدت إسرائيل في جزء كبير منه على تصدير قناع المظلومية، عبر تصوير نفسها باعتبارها الجزيرة المنعزلة عن محيطها الإقليمي تارة، والاستهداف من قبل الفصائل، عبر صواريخ بدائية، مما دفعها إلى إطلاق هجماتها على غزة في مرات سابقة تحت ذريعة الدفاع عن النفس تارة أخرى.
وهنا تتجلى حقيقة ثالثة، وهي انكشاف غطاء المظلومية، في ضوء المقامرة بحياة مواطني إسرائيل المحتجزين في غزة، ليصبح نتنياهو وحكومته التهديد الأكبر لهم، بل ومتورط في مقتل بعضهم بسلاحه الغاشم، ليصاب المعسكر الموالي للدولة العبرية بارتباك عميق، ساهم في تراجع العديد من المواقف الغربية، خاصة في أوروبا، عن تقديم "شيكات على بياض" من الدعم السياسي والعسكري لتل أبيب، حيث تبقى حالة التعنت في الاستجابة لنداءات الداخل والخارج، والتي دارت حول إنهاء الحرب الدائرة لأكثر من 17 شهرا كاملة، ضربة قاصمة لالتزام الحكومة الإسرائيلية بالديمقراطية، والتي تمثل أحد منطلقات الدعم الغربي للحليف الأصغر، بالإضافة إلى تقويض دعاياتها القائمة على المظلومية، في ظل ما ارتكبه الاحتلال من انتهاكات تقشعر لها الأبدان تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان ومبادئ القانون الدولي الإنساني، تجاه الفلسطينيين، ناهيك عن مقامرته غير المحسوبة بحياة مواطنية، مما دفع المعسكر الموالي له نحو مواقف تحمل قدرا من التوازن على غرار ما اتجهت إليه قوى مؤثرة، منها إسبانيا والنرويج وسلوفينيا، والذين اتفقوا ضمنيا على تحميل استمرار الاحتلال للأراضي الفلسطينية، مسؤولية تهديد أمن مواطنيه، بل وتجاوزوا ذلك بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، بينما بقت دولا أخرى على الحياد، إكتفت بإدانات خطابية لما يرتكب في غزة، في صفعة قوية لنتنياهو وحكومته.
المشهد غير المستقر في الداخل الإسرائيلي، يمثل وجها آخر للخسائر الكبيرة التي تتكبدها الدولة العبرية، منذ بدء حربها في غزة، تضاف إلى سجل الخسائر العسكرية والاقتصادية، مما يثير تساؤلات حول مستقبلها، في ظل تصاعد الحالة السلطوية في الداخل والتي قد تدفع نحو حرب أهلية، حذر منها ضمنيا الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ خلال تعقيبه على التظاهرات الأخيرة، على خلفية إقالة رئيس الشاباك، مؤكدا الالتزام بقرار المحكمة العليا فيما يتعلق بالقرار الذي اتخذته الحكومة، وما قد يترتب على تلك الحالة السلطوية من تداعيات دولية، أبرزها خسارة حلفائها من أنصار الديمقراطية، وهو الأمر الذي قد لا يمثل أولوية كبيرة لنتنياهو في اللحظة الراهنة، في ضوء الاعتماد المطلق على دعم واشنطن في ظل إدارة دونالد ترامب، إلا أن رئيس الوزراء ربما يجهل أو يتجاهل حقيقة أن الدعم الأمريكي لن يكون دائما، في ضوء تغير المواقف، وهو ما يبدو في المواقف المتغيرة تجاه العديد من الحلفاء بل والقضايا الدولية.
وهنا يمكننا القول بأن الحرب الإسرائيلية كشفت حقيقة أن الدولة العبرية تعاني كثيرا، ليس فقط في إطار تعاملها مع القضية الفلسطينية، ومحيطها الاقليمي، وإنما في واقع الأمر مع تعاطيها مع الداخل، في ضوء معاناة فئات بعينها من التمييز، مما قد يسفر عن فوضى في الداخل مرشحة للتفاقم إلى مدى أبعد، حال لم تجدي المحاولات القائمة عن تغيير في الرؤى، في الوقت الذي قد لا تجد فيه من يحميها من الحلفاء، في ظل تغير ملموس في المواقف الدولية تجاه الاحتلال والذي تكشفت ذرائعه وتجلت صورته الحقيقية أمام العالم