تبدو سياسة المعسكرات الدولية، في طريقها للتراجع بصورة كبيرة، في ظل نظام دولي، لم يعد يؤمن بفكرة الاعتماد المطلق على حليف، وهو ما يتجلى بوضوح سواء في المشهد العالمي، في إطار سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي تعد بمثابة "انقلاب" على "المعسكر الغربي"، والتي بدت إرهاصاتها في ولايته الأولى، عبر التخلى التدريجي عن الحلفاء، ثم تحولت نحو حالة أشبه بالصراع، مع بزوغ نزعة توسعية طالت سيادة دول الغرب الأوروبي، في مشهد غير مسبوق في العلاقات الدولية منذ زوال الحقبة الاستعمارية، رغم انتهاجه بأداة ناعمة، في إطار صفقات "البيع والشراء"، وهو ما بدا في الحديث الأمريكي عن جزيرة جرينلاند الخاضعة لسيادة الدنمارك، بالإضافة إلى مساعيها لمناطق أخرى، على غرار كندا وقناة بنما، وهي الطموحات القابلة للزيادة حال نجاح الإدارة الحالية في تحقيق أي منها.
والمفارقة الملفتة، هو تزامن المشهد العالمي الكبير مع المستجدات الإقليمية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، في ظل تراجع المحاور التي هيمنت على الإقليم خلال العقود الماضية، ليس فقط على خلفية سلسلة الاعتداءات الإسرائيلية التي طالت أركان محور "المقاومة"، بالمفهوم التقليدي، والتي ساهمت بصورة كبيرة في اختلال بنيتها الأساسية والإدارية، وإنما أيضا بفضل سياسات القوى الإقليمية التي انتهجت سياسة الشراكة كبديل للتحالفات، والتي ساهمت بصورة كبيرة في تضييق الفجوة بين الأطراف الاقليمية المتناحرة وتعزيز حالة التكامل فيما بينها، مما عزز حالة الصمود الاقليمي في مواجهة العدوان، والتي أسفرت عن انتصارات دبلوماسية كبيرة لصالح القضية الفلسطينية رغم الخسائر المادية والدمار الذي لحق بالعديد من الدول.
والواقع الذي لا يمكن أن ينكره أحد، هو أن بقاء المعسكرات، كان سببا رئيسيا في اندلاع الحروب، فالحروب العالمية قامت بين أحلاف دوليين، بينما كان الشرق الأوسط على حافة الهاوية، إن لم يكن قد سقط فيها بالفعل خلال حقب بعينها، في ضوء انقسامه بين محورين، أحدهما "مقاوم" والآخر "معتدل"، وهو ما لعب الدور الأكبر في اندلاع الحروب الأهلية، والتي بلغت ذروتها خلال العقد الماضي، إبان ما يسمى "الربيع العربي"، وما حمله من شعارات، كشفت الأيام زيفها، عندما أثمرت تلك الحقبة عن أنظمة أبدت استعدادها لتصفية القضية الأم، عبر انغماسهم في صفقات من شأنها خدمة مصالح الاحتلال الإسرائيلي.
وبالنظر إلى الحالة الدولية، بصورتها العامة، ومقاربتها بالوضع الإقليمي، نجد أن التغيير الكبير في السياسة الأمريكية التي يتبناها الرئيس دونالد ترامب، تعتمد في الأساس على تبريد الصراع مع الخصوم الأقوياء، عبر إبرام الصفقات معهم، على حساب الحلفاء، وهو ما يبدو في التقارب الكبير وغير المسبوق مع موسكو، والذي يصل إلى حد التحالف، بينما يتبنى نهجا استعلائيا، ويصل إلى حد الاستعداء، تجاه المعسكر الغربي، في إطار سياسة تركيع الحلفاء، وهو ما يعكس حقائق عدة ربما أدركتها واشنطن، أولها أن بقاء إرث الحرب الباردة، لن يحقق السلام العالمي، وهو الأمر الذي قد يمتد إلى تفكيك المؤسسات الناجمة عنها، وهو ما بدا في موقف إدارتي ترامب، سواء الأولى أو الثانية للاتحاد الأوروبي، ناهيك عن حالة عدم اليقين المرتبطة بمستقبل حلف الناتو، والذي طالما تساءلت روسيا عن جدوى وجوده وتوسعه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانحلال حلف وارسو في أوائل التسعينات من القرن الماضي.
بينما تبقى الحقيقة الثانية، التي أدركتها إدارة ترامب، هي أن الصراع مع روسيا لا طائل منه سوى استنزاف قدرات واشنطن البشرية والعسكرية، لصالح قوى أخرى، باتت قوية ومؤثرة، وهو ما يعني خلق منافسين جدد للهيمنة الأمريكية، وبالتالي تبقى الحاجة ملحة لوأدهم، وهو ما يبدو في مساعيه لفك حالة الاتحاد في أوروبا، وصولا إلى إصراره على انتزاع سيادة بعض الدول على أجزاء من أراضيها، وهو الأمر الذي مازال حلفاء واشنطن عاجزين عن مجابهته في ظل اعتمادهم المطلق على الدعم المقدم من أمريكا.
الحالة الإقليمية، في الشرق الأوسط، وإن كانت مختلفة في معطياتها في ضوء خشونة الأحداث التي تشهدها المنطقة، وطبيعة قضيتها وطول أمدها الذي يقترب من ثمانية عقود كاملة، إلا أنه لا يمكننا فصلها عن المستجدات الدولية سالفة الذكر، حيث تبقى قوة أطراف المعادلة الاقليمية، وقدرتها على تحقيق قدر من الاستقلالية، ضمانة مهمة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية، وهو ما تحقق بالفعل في العديد من المشاهد خلال الأشهر الماضية، في إطار القدرة الكبيرة على حشد التوافقات الدولية، والتي أسفرت عن رفض دولي كبير لمخططات التهجير ناهيك عن اعترافات دولية مهمة بالدولة الفلسطينية، ساهمت بصورة كبيرة في توجيه بوصلة الرئيس ترامب نحو الحوار مع الشركاء العرب لمناقشة خطتهم فيما يتعلق بإعادة إعمار غزة، رغم كونها تأتي كبديل لمقترحه القائم على فكرة تهجير سكان القطاع، وهو ما تسعى الدولة العبرية إلى إجهاضه عبر العودة مجددا إلى ساحة المعركة.
وفي الواقع، يبقى الرهان العربي، ومن ورائه الاقليمي، قائما على التحرر تلقائيا من سياسة المعسكرات، والتي تمثل إرثا إقليميا رديئا لحقبة ما بعد الحرب الباردة، ساهمت القوى الدولية المهيمنة في صناعته، عبر اندماج كل اطراف المعادلة الاقليمية في خدمة أوطانها، لتعزيز مواقفها الداخلية، ومن ثم خدمة القضية المركزية وإضفاء الزخم لها، وهو التحدي نفسه الذي يواجه الأقاليم الأخرى، وبالأخص أوروبا والتي تعاني من حالة تنافسية، تمثل تهديدا صريحا ليس فقط لحالة الاتحاد، وإنما أيضا في ارتباك المواقف في مواجهة تهديدات كبيرة بات يمثلها الحليف التاريخي الأكبر لها، تتعلق بسيادة دولها على أراضيها.
وهنا يمكننا القول بأن صناعة الاستقرار في مختلف الأقاليم الجغرافية، لن تتحقق في ضوء الانقسام سواء في داخل الدول، أو عل النطاق الاقليمى، وإنما بالتحرر من سياسة المحاور، والتحالفات، سواء في داخل جغرافيا الإقليم، على غرار الشرق الأوسط، أو على المستوى الدولي الأوسع نطاقا، عبر التحول نحو المزيد من الشراكة، القائمة على أساس المصالح المشتركة، وكذلك التخلي عن لغة الخطابات الرنانة التي كشفت التجارب عن كونها لا تغني ولا تسمن من جوع، حتى يتسنى له الحديث بصوت واحد أمام العالم في حوار مباشر، وهو ما تحقق جزئيا، في نطاق منطقتنا، في إطار الخطة العربية لإعادة الإعمار، ويمكن تكراره في المستقبل فيما يتعلق بالمفاوضات المستقبلية حول القضية الفلسطينية.