إذا كانت الأيام تمضى فى مجراها المألوف، تتشابه فى ساعاتها وتتوالى فى إيقاعها المعتاد، فإن العشر الأواخر من رمضان تأتى كأنها لحظةٌ من الزمن انفلتت من حساب الأيام، وارتقت إلى مقامٍ أعلى، حيث يصفو الهواء، وتتلألأ الأرواح وتستيقظ القلوب من سباتها الطويل، فإذا الكون كله يتحول إلى محرابٍ كبير، وإذا الزمن، الذى كان بالأمس يمضى على مهل، يصبح اليوم يتسارع كأنما يسابق العابدين إلى رحمة الله، فى هذه الليالى لا يعدّ السهر تعبا، ولا يُحسب التبتل عزلة ولا يكون الانقطاع إلى الله إلا أنسا وسكينة، كأنما الأرض تتخفّف من أثقالها، والسماء تفتح أبوابها على مصاريعها، والعابدون يُسابقون إلى النور الذى لا يخبو.
وكان النبى «ص»، وهو الذى عرَف أسرار القرب، وأدرك أن لحظات الصفاء لابد أن يحرص المؤمن على اغتنامها، أشد ما يكون اجتهادا فى هذه الأيام المباركة، فلا يكتفى بما كان عليه فى سائر رمضان، بل يزيده تضاعفا، ويلبسه همّة لا تفتر، كأنما يودّع الدنيا، أو كأنما يسابق الزمن ليحظى بنور ليلةٍ تَعدل عمرا بأسره، ليلة القدر، التى قال فيها الحق سبحانه«لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» «القدر: 3» وكان «ص»، وهو الرحمة المهداة، يعلّم أمته بالقول والعمل كيف تُستثمر هذه الأيام فكان إذا دخلت العشر الأواخر، شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، كما روَت عنه أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها.
ولنا أن نتأمل هذه الكلمات القليلة التى حملت من المعانى ما لا تحمله الأسفار الطوال؛ فشدّ المئزر كناية عن الاجتهاد وترك الملذات، وإحياء الليل تعبير عن السهر فى الطاعة، أما إيقاظ الأهل فهو دعوة لأن يكون الخير مشتركا، فلا يقتصر الفضل على فرد دون آخر، بل تمتد بركته ليشمل البيت كله، وكأنها دعوة لكل أسرةٍ أن يكون الليل عندها وقتا للأنوار لا للغفلة، وللذكر لا للسهو، وللبكاء بين يدى الله لا للغرق فى ملذاتٍ زائلة، وكان «ص» يعتكف فى المسجد، متجردا من مشاغل الدنيا، منصرفا إلى محرابه، حتى إن فراشه لا يكون إلا هناك، بعيدا عن ضوضاء الحياة، قريبا من أبواب السماء، وكأنما كان يعلمنا أن فى الحياة لحظاتٍ لا يصلح أن تُشاركها الدنيا، ولا ينبغى أن يزاحمها شيءٌ من همومها، فالموعد مع الله، والمكان هو المسجد، والقلوب وحدها هى التى تحضر بلا حجاب.
فلو تأملنا هذه الصورة لرأينا النبى «ص» وقد خلا بنفسه، يتنقل بين ركعاتٍ تغسل القلب، وسجداتٍ ترفع الروح، ودعواتٍ تُفتح بها أبواب الرحمة، فلم تكن عبادته «ص» طقوسا جوفاء، بل كانت روحا تفيض بالمعاني، كانت صلاة تُبكى الجبال، ودعاء يرقّ له الحجر، وخشوعا يكاد يُسمع له صدى، وكأنما هو «ص» بين يدى الله عبدٌ لا يحمل من الدنيا إلا قلبه، ولسانٌ لا يتحرك إلا بالدعاء، وعينٌ لا تجف من الدموع، فإذا رفع يديه، رفعهما بكل جوارحه، وإذا قال «يا الله»، خرجت منه الكلمة وكأنها تَشُقّ عنان السماء، وإن سجد، التصقت جبهته بالأرض كأنما يبحث عن أقرب نقطةٍ توصله إلى عرش الرحمن، إن العاقل إذا علم أن بابا من أبواب الرحمة يُفتح فى زمانٍ محدد، فإنه لا يبرح مكانه حتى يكون أول الداخلين، فكيف إذا كان هذا الباب يُفتح مرة فى العام، وفيه يُغفر الذنب، وتُجاب الدعوة، ويُكتب للعبد من الخير ما لا يخطر على بال، وكيف لعاقلٍ أن ينشغل فى هذه الليالى الفاصلة بأمورٍ كان يمكنه الانشغال بها سائر العام، ويضيع منها دقائق هى أغلى من كنوز الدنيا، بل من رحمةٍ لو علم وزنها لما فرّط فيها لحظ.
لقد كان اجتهاد النبى «ص» فى العشر الأواخر منهجا لكل مؤمن يريد أن يصنع له موضعا فى سجل المقبولين، فمن أراد أن يقتبس من نوره، فليجعل هذه الليالى موعدا مع الله، لا يُفرط فى لحظة منها، ولا يُسلّم قلبه فيها للغفلة، بل يضاعف جهده، ويسابق الزمن، ويتزوّد من أنوارها بما يكفيه لعامٍ كامل، بل لحياةٍ كاملة، فالمغبون حقا من مرت عليه هذه الليالى ولم يشعر أن لها فى قلبه أثرا، ولم يرَ أن لها فى روحه مقاما، ولم يجد فى نفسه شوقا لأن يكون بين الساجدين الذاكرين الداعين الذين ترفع أعمالهم فى الساعات المباركة، فتسجّل لهم عند الله فى صحائفٍ لا تمحى، إنها ليالٍ حين تُضيئها سجدةٌ صادقة أو دمعةٌ من قلبٍ خاشع أو دعوةٌ تُرفع بيقين، فإنها لا تنطفئ أبدا، بل تبقى نورا يرافق صاحبه، يبدّد ظلمات عمره، ويملأ صحيفته بما يسعده يوم اللقاء العظيم، فلا يُغلق باب الرحمة إلا وقد دخلناه، ولا تذهب ليالى القدر إلا وقد تركنا فيها أثرا يرفعنا إلى الله، ولا تُطوى هذه الساعات المباركة إلا ونحن نحمل منها زادا يضيء لنا دروب العمر حتى نلقى الله وهو راضٍ عنا.
وللحديث بقية..