د. نظير عياد

دروس فى التسامح من شهر المغفرة

السبت، 22 مارس 2025 07:35 م


فى الأفق الرمضانى حيث تسطع أرواح المؤمنين بنور الطاعة، وتنهمر نفحات الرحمة كالغيث على القلوب المتعطشة للمغفرة، تتجلى أعظم معانى التسامح فى هذا الشهر الكريم، وكأنما هو ميدان رحب لتصفية النفوس، ومساحة طاهرة يرتقى فيها الإنسان فوق أدران الأحقاد، متجردًا من كل ما يعكر صفو الروح، وهل من صورة أبهى لهذا المعنى من عفو سيد الخلق «ص»، وهو الذى لم يكن فى حياته كلها إلا مدرسةً قائمةً على الصفح، يبنى بها صروح المحبة، ويهدم بها جدران العداء، فيغدو التسامح فى سيرته منهجًا راسخًا، وسلوكًا مشهودًا، فإذا جاء رمضان ازداد ذلك العفو بهاءً وصفاء، وكأن هذا الشهر العظيم، جاء ليشهد على أن التسامح هو جوهر الصيام وروح العبادة.

لقد كان النبى «ص» رمضانيَّ القلب على الدوام، لا تثور نفسه انتصارًا لها، ولا تأخذه العزة برد الإساءة بمثلها، بل كان عفوه سموًّا لا تدركه إلا الأرواح الطاهرة، وصفحُه زادًا لا يتذوقه إلا من ارتوى من معين النبوة، كيف لا، وقد وقف يوم الفتح الأعظم، وأمامه رجالٌ كانوا بالأمس أعداءه، يملأون الدنيا حقدًا عليه، ويصبّون الأذى على أصحابه، فينطق بلسان الرحمة التى لا يحدها زمان ولا مكان، «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

لم يكن يوم الفتح فى رمضان، لكنه كان فتحًا رمضانى الروح، عظيم الدلالة، يعلن فيه النبى «ص» أن التسامح ليس موقفًا عابرًا، بل هو منهجٌ يحرر الإنسان من أغلال الحقد، ويرفعه إلى آفاق الصفاء، وكأنما رمضان كله رسالة مفتوحة، يخاطب بها القلوب أن سامحوا كما تحبون أن تُسامَحوا، واغفروا كما ترجون مغفرة الله، وكيف لا يكون العفو من تمام الصيام، وهو الذى يعلّم الإنسان ضبط النفس، ويجعله يسمو فوق إساءة الجاهلين، ويرتقى على صغائر النفوس، ألم يقل النبى  «ص»: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إنى صائم»، وكأن الصيام ليس مجرد إمساك عن الطعام والشراب فحسب، بل هو درع يحمى القلب من الانزلاق فى متاهات الغضب، ودرس عملى فى فن التسامى على الإساءة، ولقد كان النبى «ص» فى رمضان يفيض حلمًا على من جهل، ورحمةً على من أساء، وابتسامةً فى وجه من أغضبه، فإذا جاءه رجل يسبه قال لأصحابه وهو يفيض نورًا وسكينة «إنى صائم».

لم يكن صيامه عن الطعام فحسب، بل كان صيامًا عن كل ما يعكر صفاء الروح، وعن كل ما ينال من نقاء القلب، وكأنما أراد أن يعلّم الأمة أن رمضان ليس موسمًا للعبادة فحسب، بل هو فرصة لتجديد النقاء الداخلى، ومحو ما ران على القلوب من شحناء، ولعل أعظم ما يزكى هذا المعنى فى القلوب هو أن العفو لا ينقص من قدر صاحبه، بل يزيده رفعةً وعزةً، ويمنحه سكينةً لا يعرفها إلا من سامح بصدق، فالنفوس التى تحمل الأحقاد تعيش فى أغلالها، أما القلوب المتسامحة، فهى تلك التى تحلق فى آفاق الطمأنينة والرضا، ولقد علمنا النبى «ث» أن القوة الحقيقية ليست فى رد الإساءة بالإساءة، بل فى القدرة على تجاوزها، كما جاء فى حديثه الشريف «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب». وما رمضان إلا تدريب على هذه القوة العظيمة، قوة التحكم فى الغضب، وكبح جماح الانتقام، ومد يد الصفح لكل من أساء، فإن لم يكن ذلك فى رمضان، فمتى يكون؟!


ومن هنا كان رمضان شهر العفو بامتياز، فمن أراد أن يغفر الله له، فليبدأ بأن يجعل العفو ديدنه، والصفح نهجه، ألم يقل الله تعالى «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ»؟ فكيف نرجو عفو الله ونحن نبخل به على غيرنا، وكيف نطمع فى الرحمة ونحن نضن بها على من أخطأ فى حقنا، إن رمضان مدرسة، فمن أراد أن يكون من أهلها، فليتخلق بأخلاق سيدها، وليجعل من صيامه جسرًا يعبر به إلى رحمة الله، وليجعل من تسامحه مفتاحًا يفتح به أبواب المغفرة، فما أجمل أن ندخل العشر الأواخر بقلوب خالية من الضغينة، وأرواح نقية لا تحمل إلا الخير، فمن أراد أن يذوق حلاوة رمضان، فليبدأ بأن يردد كلما ثار فى صدره الغضب: «إنى صائم»، وليتذكر أنه فى شهرٍ كان فيه الحبيب «ص» عنوانًا للعفو، ونبراسًا للصفح، فهنيئًا لمن جعل من رمضان بوابةً لعفو الله، بأن جعل قلبه موطنًا للعفو عن الناس.
وللحديث بقية.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة