مها عبد القادر

جهاد النفس والصيام.. سر الانتصارات الخالدة عبر التاريخ

الإثنين، 17 مارس 2025 05:29 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يُعد من أصعب التحديات التي يواجهها الإنسان جهاد النفس، فهو معركة داخلية تتطلب إرادة صلبة وقدرة على ضبط الغرائز والسيطرة على الشهوات، وهو ما يجسده الصيام كفريضة إيمانية تهدف إلى تهذيب النفس، وتعزيز قوة التحمل، وبناء الإرادة الصلبة؛ فالصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو تدريب روحي وبدني يُعدّ الإنسان لمواجهة التحديات، ويمنحه القدرة على التحكم في رغباته، وتقديم إرادة العقل والروح على نزعات الجسد، مما يجعله أكثر استعدادًا لمواجهة أي معركة، سواء كانت ضد نفسه أو ضد أعدائه.


ولقد كان شهر رمضان عبر التاريخ سرًا للانتصارات الكبرى، حيث شهدت الأمة الإسلامية أعظم الفتوحات التي غيرت مجرى التاريخ، فكان رمضان شاهدًا على أولى المعارك الإسلامية في غزوة بدر الكبرى، التي شكلت نقطة تحول فارقة في مسار الدعوة الإسلامية، ثم فتح مكة الذي كان تتويجًا للجهود النبوية في إرساء أسس الدين، وكذلك فتح الأندلس الذي مهّد لحقبة ازدهار حضاري امتدت لقرون، ومعركة حطين التي استعاد بها المسلمون القدس، وعين جالوت التي كسرت شوكة المغول، حتى وصلنا إلى العصر الحديث حيث سجلت مصر نصرًا تاريخيًا في العاشر من رمضان خلال حرب أكتوبر المجيدة، التي أظهرت قدرة الجيش المصري على استعادة الأرض وكسر أسطورة الجيش الذي لا يُقهر.


فقد استطاع الجيش المصري في يوم العاشر من رمضان، أن يحقق تحولًا استراتيجيًا غير مسبوق في الصراع العربي الإسرائيلي، حيث سطّر جنود مصر أروع ملاحم البطولة والفداء، وتمكنوا من تحطيم خط بارليف المنيع، الذي وصفته التقارير العسكرية العالمية بأنه أقوى خط دفاعي في التاريخ، وهو ما أثبت للعالم أن الإيمان الراسخ والإرادة والعزيمة القوية قادرة على تحقيق المستحيل؛ فلم يكن هذا النصر مجرد انتصار عسكري، بل كان نموذجًا للدروس المستفادة في التخطيط الاستراتيجي، والإعداد النفسي والمعنوي، والتنسيق بين القيادة السياسية والعسكرية، وهو ما جعله واحدًا من أعظم الانتصارات في تاريخ الأمة العربية والإسلامية.


ولقد كان السر وراء هذه الانتصارات يكمن في القوة الروحية التي يمنحها الصيام، والتي تدفع الإنسان إلى تجاوز ضعفه الجسدي والانتصار على نفسه أولًا، مما يؤهله ليكون قويًا في ميادين القتال والتحدي؛ فالصيام يُعلّم الإنسان الصبر، والانضباط، والقدرة على تحمل المشاق، وهي الصفات التي يحتاجها أي مقاتل في ساحات المعركة، لذلك ظل شهر رمضان على مر التاريخ شهرًا للفتوحات والانتصارات، وشهرًا تجتمع فيه الإرادة الإيمانية مع القوة الجسدية لتحقيق أسمى الغايات وأعظم الإنجازات.


ويظل شهر رمضان شاهدًا على أعظم الانتصارات التي سطّرها التاريخ، فقد ساهم هذا الشهر الكريم في رفع الروح المعنوية للشعوب العربية قاطبةً، إذ جسّد قيم الولاء والانتماء، وأكد عمق الشعور القومي والعزة الوطنية، ورسّخ الثقة في قدرة الأمة على تحقيق الانتصارات مهما كانت التحديات. كما أظهر أهمية الوحدة العربية، وعمق الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية، حيث أدرك العالم آنذاك ضرورة إيجاد حلول عادلة للصراع العربي الإسرائيلي، خاصة بعد الانتصار الكبير الذي حققته مصر في العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر عام 1973.


وقد توالت نتائج هذا الانتصار بمسارات تفاوضية مكثفة بين مصر وإسرائيل تحت إشراف الولايات المتحدة، بهدف التوصل إلى حل سلمي للصراع، وهو ما تُوج بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، التي مهدت لاحقا لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وقد ساهمت هذه الاتفاقية في إنهاء حالة الحرب بين البلدين، وإحلال السلام وإقامة علاقات دبلوماسية مستدامة، مما أدى إلى تغييرات سياسية وأمنية واقتصادية واسعة في المنطقة.


وبما لا يدع مجالًا للشك، فقد أحدثت حرب أكتوبر تحولًا جذريًا في العلاقات المصرية الإسرائيلية، ليس فقط على المستوى العسكري، بل أيضًا على المستويات السياسية والاستراتيجية، وأثبتت قدرة الجيوش العربية، وعلى رأسها الجيش المصري، على استعادة الأرض والكرامة وسيظل هذا الشهر الكريم رمزًا للعزة والفخر، ومصدر إلهام للأجيال القادمة، حيث يذكرنا ببطولات العسكرية المصرية التي حوّلت مسار التاريخ، ويظل هذا النصر العظيم وسامًا على صدور المصريين وكل عربي حر، يفخر بتاريخه وأمجاده.


وفي ذكرى العاشر من رمضان، نرفع أسمى آيات الشكر والتقدير والاعتزاز إلى بلادنا العربية قيادةً وشعبًا، وإلى مصر العظيمة التي كانت ولا تزال مهد الحضارات وصانعة المعجزات، كما نوجه تحية إجلال وإكبار إلى قواتنا المسلحة المصرية الباسلة، درع الوطن الحصين، وسيفه الذي يحميه في كل العصور، كما نثمّن دور القيادة السياسية الرشيدة التي واجهت التحديات الجسام بحكمة وشجاعة، ساعيةً إلى حفظ الأمن والاستقرار، وتحقيق التنمية والازدهار.


وفي هذا الشهر المبارك، لا ننسى أن نتذكر بكل فخر واعتزاز شهداء العزة والكرامة الذين بذلوا أرواحهم الطاهرة دفاعًا عن الأرض والعرض، ووهبوا حياتهم فداءً للوطن، ليبقى مرفوع الهامة، عزيزًا شامخًا بين الأمم، هؤلاء الأبطال الذين جسدوا أسمى معاني التضحية والفداء، وخلّدوا أسماءهم بحروف من نور في سجل المجد والبطولة، مصداقًا لقوله تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) "سورة آل عمران: أية 169".


فطوبى لهم وحسن المآب، فقد خطّوا بدمائهم الزكية طريق النصر، وكانوا نورًا وقدوة للأجيال القادمة، ورايةً خفّاقة تعلو في سماء العزة والإباء، فذكراهم لا تمحى، وأثرهم باقٍ في قلوبنا ووجداننا، وحكايات بطولاتهم تظل درسًا لنا تجسيدًا لمعاني الإخلاص والتفاني من أجل الوطن، إنهم خالدون في ضمير الأمة، تتردد أسماؤهم في كل لحظة عز وفخر، ونستلهم من تضحياتهم معاني العزيمة والإرادة الصلبة، لنبني وطنًا يليق بدمائهم التي روت ترابه، ونحفظ أمانتهم التي استودعوها بين أيدينا، حتى يظل هذا الوطن شامخًا بأبنائه المخلصين.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر


الرجوع الى أعلى الصفحة