"بحياتك يا ولدي امراءة "..
ما اجمل هذه الجملة الغنائية من قصيدة "قارئة الفنجان" لـ"نزار قباني"!
و جُمَل اخري كثيرة في السرديات المصرية علي خلفية مفردات أغاني او مقولات شعبية او عناوين لأفلام او أيضا روايات المشاهيرا من اساطير و حكايات التاريخ.. جمل مؤثرة تحمل كلمة "امراءة" مثل "رسالة من امراءة مجهولة"..
و "امراءة فرعون".. و"فتش عن المراءة"..
و "عدو المراءة" فتحَولت الي اكليشهات انطلقت كالـ"ترندات" بلغة العولمة الحديثة.
فإذا بكلمة " امراءة " باللغة العربية تجاور كلمتنا المصرية القديمة "سِت" المنبثقة من "ايست" و التي تعود جذورها لاسم الإلهة إيزيس"سيدة الحياة"، و واهبة الروح و الباعثة علي البهجة و السعادة و ربة الحب و الوفاء في مصر القديمة.
و"سِت" في زمننا الحديث، لا تقال إلا تبجيلا وتقديراً في النساء مثل "الست ام كلثوم" او الاشارة لضريح السيدة زينب باسم "ضريح الست / مقام الست". وفي المجتمع المصري المعاصر، يشار بها إلى كبيرات السن، و أيضا المبجلات ذوات الحسب والنسب، كما تقال بعفوية للنداء والمخاطبة، وفي بعض الاستعمالات تكون للسخرية و الدعابة "يا سِت انت"!
أعرف أن كثير من الذين يقرؤون مقالاتي هم من نسل "ايست" اللاتي تحملن الحياة أينما تذهبن، منذ فجر التاريخ و حتي اليوم ..
و بما اننا نحتفل في شهر مارس بيوم المرأة العالمي والذي يتعانق مع عيد الربيع حيث البعث الرباني للنباتات والزهور و عودتهم الي الحياة وأيضا عيد الأم حيث الخلق الرباني و ولادة النشء وخروجه الي نور الحياة..
فارتأيت ان اكتب هذا السرد لاشارككم سؤال طالما شغلني : هل المطالبة بالمساواة في بدايات القرن العشرين قد حققت للمراءة "السعادة"؟ وهل نجحت المراءة في إحكام التوازن في معادلة الحياة الاسرية و المهنية لتكون كما أراد لها الله بالفطرة "رمانة ميزان" المجتمع ؟
و اليوم و نحن نخطو بثبات فوق دروب الالفية الثالثة ، يبقي هذا السؤال قائما : هل المراءة سعيدة و متوازنة بعد كل ما حصلت عليه من مكتسبات و كل ما تخيلت انها حققت منذ تحررها في بداية القرن العشرين ونزولها ميدان العمل بل وتبوئها أعلى المناصب واختراقها لمهام ومهن كانت حكر على الرجل لعقود و قرون من الزمان.. ام كان ذلك علي حساب متانتها النفسية و قدراتها الإنسانية و سعادتها الذاتية؟
نتوقف امام كلمة "السعادة" و نفكر ثم ننظر الي السماء الواسعة و نتنفس بعمق نسايم الربيع..
لا يعني سؤالي هذا إنني ضد نزول المرأة ميدان العمل و تحقيقها للنجاح في حلبة صراعاته.. لاني ككثير من نسل "ايست"، خضت غمار العمل و مستمرة في رحابه حتى اليوم بالتوازي مع الالتزامات الاسرية والواجبات الاجتماعية.
هذا بجانب مكتوب الاقدار - بنعمة او نقمة - الذي اراد ان يفتح لي آفاق واسعة و نوافذ متعددة حول العالم، فقابلت كثير من "نسل حواء" و تبادلت احاديث الحياة معهن .. سيدات كُثر من مختلف الوجهات الاجتماعية، من أوروبا لافريقيا، من الهند للبرازيل، و في وادي نيل مصر حيث ولدت ، ارادت الاقدار ان اطرق أبواب الدلتا و الصعيد بطبيعة عملي في مجال التاريخ و الحضارة، واتعرف علي البدو و اهل الصعيد والفلاحين و اتعمق في قلوب وعقول اهل النوبة، كما جالست و آنست شرائح مختلفة من الاعمار، فحادثت البنات اللاتي تتفتحن كالشمس التي تسطع علي وجه الوطن و كذلك سيدات الحكمة ذوي الخمسين ربيعا، مرورا بشابات الثلاثينيات و الاربعينيات، و كنت دائما ما استقرأ ثمة شعور مشترك بين كل هؤلاء .. إفتقاد "السعادة"!
قلب ثقيل وكأن وزنه يغلب الجسد ذاته، روح باهتة و وجدان متصدع بعد مغالبة معارك لحياة ، تيهة و انعدام "مصدر" النصيحة/الالهام في محكات الحياة المصيرية ، التقلبات النفسية و تأرجح الأمل بين الشروق و الغروب و في أحيان كثيرة، الشعور بالندم علي قرارات نصف الحياة الأول و التي قد تتحول - مع مرور الزمن – الي جزء اصيل من قوام المراءة، يصعب التخلص منه او استئصاله، إلا بجرأة القرار..
و يعلم الله كم هو صعب الإقدام علي عمليات تصحيح مسار!
فقادني شغفي الي البحث عن أسباب هذا الشعور لمعرفة كيف و لماذا يسيطر الحزن على البنات والشابات والسيدات وهن يتمتعن بالحرية و كثير من المكتسبات بالمقارنة مع امهاتهن وجداتهن؟
لا اعرف..
هل المشكلة تكمُن في عدم الرضا و التمرد أم هي مشكلة مجتمع بأكمله؟
قرأت في حديث شَيق عن المراءة في جريدة الشرق الأوسط " انه لا يمكن أن يتحقق نهوض المرأة و إتزانها الوجداني بمعزل عن النهوض العام بالمجتمع، فهي جزء لا يتجزأ منه" .. هذه الكلمات الثمينة جاءت علي لسان المفكر و المحلل السياسي د.مصطفى الفقي و هو قامة كبيرة تذوق حلاوة الحياة و تجرع من مرارة تحدياتها، و في الحقيقة، اني اتفق معه تماما في وجهة نظره التي تنص علي انه لا جدوي من الحديث عن تقدم المجتمع دون امراء تحمل قلب سليم و عقل مستنير وروح سمحاء، فلا يوجد مجتمع متقدم وراقي تكون المرأة فيه ضعيفة و بليدة المشاعر، فلا و لن يستقيم قوام شعبه!
ومن المؤكد أيضا انه لا يمكن أن يتحقق نهوض المرأة بمعزل عن "السعادة" ..
عزيزي القارئ
الحصىول علي المساواة بين الرجل و المراءة ثم نزول المراءة ميدان العمل الذي كان حكر علي الرجل منذ فجر التاريخ منحها الإحساس بانها حققت إنجازا و انتصرت علي الرجل فباتت تحتفل بـ "اليوم العالمي للمرأة".. هذا اليوم ـ الذي كان في الأساس ـ يطلق عليه اسم "اليوم الوطني للمرأة"، وكان قد نظمه الحزب الاشتراكي الأميركي بنيويورك في ٢٨ فبراير ١٩٠٩ وبعد عقود طويلة، وبالتحديد عام ١٩٧٥، بدأت الأمم المتحدة بالاحتفال به تحت مسمي "اليوم العالمي للمرأة" وفي عام ١٩٧٧ دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول الأعضاء إلى إعلان يوم ٨ مارس عطلة رسمية للأمم المتحدة من أجل حقوق المرأة والسلام العالمي، و نوع من اعلان الانتصار في ملف المساواة الجندرية
يبدو ذلك لأول وهلة انجازا رائعا للمراءة وبالتأكيد هو بمثابة " انفتاح" فكري ومؤسسي على نصف المجتمع الاخر بما ان "المراءة هي نصف المجتمع" وهي ايضا التي تلد النصف الآخر و تسعده بامومتها!
ولكني هنا اتوقف مرة ثانية امام كلمة "السعادة" واكرر سؤالي الذي أصبح ملحا على ضوء ما تعيشه المراءة من ضغوط مجتمعية وما تتكبده من تحديات نفسية، تكسر خاطرها وتحزن قلبها تصعب عليها الوقوف عتية امام المشاكل اليومية وبحثها بين ظروف ظالمة و مظلمة عن النور كي تدفئ ايامها بمشاعر المودة والكرم وحب الآخر..
ترِن في اذني أغاني عبد الحليم حافظ التي طالما غذت وجدان الشعوب من المحيط الي الخليج وتغذي على كلماتها شباب الامة العربية جميعهم، من افتتاحية "اهواك واتمني لو انساك" الي خاتمه قارئة الفنجان "فحبيبــة قلبك ليس لديها أرض أو وطن أو عنـــوان..
أوجز نزار قباني فأنجز.. فبالفعل، ان المراءة ليس لديها أرض أو وطن أو عنـــوان لأنها هي "الأرض والوطن والعنوان"!
تدور عجلة الزمان وتدخلنا جميعا في ألفيتها الثالثة، من كل حدب وصوب، ومازلنا نحاول لاهثين تحقيق مكتسبات على درب المساواة بين الرجل والمراءة، فها هي فرنسا، أكبر وأقوى دول الغرب، تعلن منذ أيام عن انطلاق "استراتيجية تهدف إلى لتعزيز الدفاع عن حقوق النساء في العالم وفي بلاد المشرق، أطلق المجلس القومي للمراءة بقيادة د. مايا مرسي عام ٢٠١٧ الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة المصرية، التي تركز على محاور التمكين السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي..
دعوني في ختام سردي هذا ان اشهد شهادة حق لمصرنا الحبيبة - أرض مولدي - التي عَرِفَت عدالة التمثيل الچندري منذ فجر التاريخ، وصَدَرَت أشهر الوجوه النسائية على الاطلاق للبشرية جمعاء: "ايزيس" سيدة الحياة و"نوت" سيدة السماء و"سشات" سيدة المعرفة و"سخت" سيدة الحقل/الرخاء وعرفت ايضا "ماعت" سيدة العدل والحكمة.
ومن سيدات العرش، صَدَّرت لتاريخ البشرية "ميريت - نيت" اول ملكة تعتلي عرش مصر وأيضا الجميلة المثقفة الراقية "حتشبسوت" وبعدها بعقود طويلة، عرفت "نفرتاري" جميلة جميلات النوبة..
نعم، مصر التقت مع كل هؤلاء الرموز الانثوية..
وكما قال حكماء الزمان.. "اللقاء نصيب، ولكن البقاء قرار"!
البقاء مصدرا للإلهام والتأثير والتنوير للبشرية جمعاء..
البقاء على قمة هرم الفكر والابداع والابتكار..
البقاء في صدارة المشهد الثقافي..
البقاء الحضاري هو قرار سياسي، وإرادة حكومة وشعب، واستراتيجية وطن..
"مصر ولادة " وللحياة بقية..