بيشوى رمزى

الوساطة الدولية

الإثنين، 10 مارس 2025 11:10 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

مع ارتفاع وتيرة الصراعات الدولية، وامتدادها الزمني وتمددها الجغرافي، باتت الحاجة ملحة إلى وسطاء دوليين، ليس فقط بين أطراف الصراع الرئيسيين، وإنما أيضا فيما يتعلق بتمرير رؤيتهم من "البيت الأبيض"، في ضوء رغبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحقيق إدارة منفردة للأزمات العالمية، وهو ما بدا بوضوح في تداخله المباشر على خط الأزمة الأوكرانية، إلى حد الحديث العلني عن تنازلات مباشرة مطلوبة من الرئيس فولويمير زيلنيسكي، منها إجراء صفقة المعادن مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى التنازل عن أراض لصالح روسيا، ناهيك عن المطالبات المتواترة بإجراء انتخابات في كييف أو تنحي الرئيس، وهي المطالب التي لا تبدو مرتبطة في جوهرها بطرفي الصراع، وإنما في واقع الأمر يراها الامتداد الجغرافي الأوروبي تهديدا مباشرة للسيادة، في ظل ما قد تسفر عنه من سوابق، يمكن تعميمها في المستقبل لتطال أقاليمهم، خاصة مع إلحاح واشنطن لفرض سيادتها على جزيرة جرينلاند الدنماركية، وهو ما يثير حالة من الامتعاض الأوروبي.


الرؤية الأمريكية، التي يتبناها دونالد ترامب، أعادت الزخم لدور بريطانيا، والتي قدمت نفسها كوسيط، بين أوروبا الموحدة وواشنطن، وهو ما تناولته بإسهاب في مقالي السابق، في إطار مساعي لندن للقيادة الاقليمية، على المستوى القارى، بعيدا عن الاتحاد الأوروبي، إلا أن ثمة أبعادا أخرى تتجلى في إطار انتعاشة دبلوماسية لدور الوسيط، خلال المرحلة الحالية، منها العرض الذي قدمه الكرملين للوساطة بين الولايات المتحدة وإيران، ناهيك عن دور المملكة العربية السعودية في الوساطة بين أمريكا وأوكرانيا واستضافتها لجولات من الحوار في هذا الإطار.


التصاعد الكبير في أدوار الوساطة الدولية، وإن تجلى في أبهى صوره خلال اللحظة الراهنة، إلا أنه في واقع الأمر حمل العديد من الإرهاصات خلال السنوات الماضية، ربما أبرزها في منطقة الشرق الأوسط، عندما قدمت مصر نهجا يعتمد مبدأ الشراكة، القابلة للتوسع، ساهمت في خلق مصالح مشتركة بين القوى المتنافسة، لتنطلق منها نحو تخفيف حدة الصراع فيما بينها، عبر أهداف موحدة ذات أبعاد استراتيجية، تقوم في الأساس على القضايا التنموية، مما أسفر عن حزمة من المصالحات الاقليمية حققت قدرا من الاستقرار في الشرق الأوسط وأعادت الزخم بصورة كبيرة إلى القضية الفلسطينية، والتي استعادت مركزيتها الاقليمية، بعد عقد كامل من الفوضى.


النموذج المصري فيما يتعلق بالوساطة، تجاوز في جوهره الدور المعهود الذي طالما لعبته الدولة في إطار محدود خلال عقود سابقة، والذي اقتصر على المستجدات الفلسطينية خاصة غزة، خلال سنوات، حيث كان يتنامي هذا الدور مع اندلاع الاشتباكات الاسرائيلية في القطاع، عبر التواصل المباشر مع الأطراف المعنية، بهدف الوصول إلى هدن مؤقتة، أو وقف مرحلي لإطلاق النار، ولكن دون تحقيق حالة من الاستقرار المستدام، وهو الأمر الذي يرجع في جزء منه إلى العديد من الاسباب أبرزها عدم وجود رغبة حقيقية لدى الولايات المتحدة في إنهاء الصراع في الشرق الأوسط، باعتباره الصراع الأكبر والأكثر زخما على المستوى الدولي، وبالتالي فإن النفوذ الأمريكي مرتبطا في جزء كبير منه باستمراره، خاصة وأن محاولات خلق صراعات أخرى، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، على غرار صراع الحضارات، مرورا بالحروب التي خاضتها واشنطن ضد الارهاب في العراق أو أفغانستان، وحتى الفوضى الاهلية التي عمت الاقليم في العقد الماضي، لم يكتب لها الاستمرارية لمدد طويلة، على غرار مرحلة الصراع بين الغرب والشرق إبان الحقبة السوفيتية، بالإضافة إلى عدم وجود قوى دولية أخرى يمكنها تحقيق أي قدر من التوازن يمكن الاعتماد عليها لتحقيق الاستقرار الإقليمي.


الوساطة من المنظور المصري اتخذت مسارات متوازية، منها المسار المباشر على غرار دورها الكبير في التوصل الى اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في غزة، بينما حملت في طياتها مسارا آخر، غير مباشر، عبر الشراكات التي عقدتها مع قوى أخرى سواء داخل الاقليم، على غرار "الثلاثية" التي دشنتها مع العراق والأردن، والتي أثمرت عن كيان أوسع، هو "مؤتمر بغداد"، شاركت فيه قوى أخرى، بينها قوى متصارعة جلست معا على مائدة الحوار، لتفتح صفحة جديدة من العلاقات القائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وهو ما ينطبق أيضا على "ثلاثية" أخرى مع اليونان وقبرص، والتي ولد من رحمها "منتدى غاز شرق المتوسط"، والذي تتواجد كلا من السلطة الفلسطينية وإسرائيل بين أعضاءه، مما يساهم في لخلق آفاق من الحوار من شأنها الوصول إلى صيغ دولية توافقية، حتى وإن كانت خارج إطار المنتدى، ولكن في إطار ما يجمع أعضاءه من مصالح مشتركة، ولدت من رحمه، ويمكن استثمارها لتحقيق الاستقرار المستدام.

مسار آخر اتخذته الدولة المصرية فيما يتعلق بالوساطة، يتجلى في قدرتها على القيام بدور الوسيط بين الأقاليم، وهو ما بدا في العديد من المشاهد، منها قدرتها استغلال الزخم الناجم عن موقعها الجغرافي، باعتبارها قوى عربية وإسلامية لها عمق إفريقي، خلق لها البحر المتوسط عمقا آخر في أوروبا، مما وضعها في دور الوسيط بين إقليمها المترنح جراء احتداد الصراع، خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة والذي امتد إلى لبنان مرورا بسوريا وحتى اليمن من جانب، وأقاليمها الأخرى من جانب آخر، مما أدى في نهاية المطاف إلى توافقات دولية واسعة النطاق لعبت دورا رئيسيا في الوقوف أماما مخططات التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، بل وتجاوزت ذلك نحو دخولا إيجابيا من قبل بعض القوى المهمة على خط الأزمة، منها جنوب إفريقيا التي تخوض معركتها القضائية ضد الاحتلال، في ضوء الدعوى التي رفعتها أمام محكمة العدل الدولية، أو الدول الأوروبية التي اعترفت بدولة فلسطين، لتحقق انتصارات دبلوماسية لصالح القضية، رغم من تمر به من لحظات صعبة.


وهنا يمكننا القول بأن النموذج الذي تقدمه الدولة المصرية في إطار الوساطة الدولية اتسم بقدر من التنوع، في إطار استحداث صورا جديدة لدور الوسيط، تجاوزت النهج التقليدي، بينما كانت سباقة في تبنيها لهذا الدور خلال السنوات الماضية، مما يعكس قدرة استثنائية على قراءة المشهد مبكرا، وجهوزيتها الدبلوماسية على التعامل مع مختلف المستجدات المحيطة بها، بينما في الوقت نفسه تجاوزت الوساطة نحو أدوار أكبر، في مناطقها الجغرافية، عبر الحديث باسمها والدفاع عن حقوق دولها ومواطنيهم، وهو ما يبدو في عد القدرة على تجاوز دورها فيما يتعلق بالقضية الدولية الأقدم ذات البعد المركزي في منطقتها.

 

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة