جيهان زكـى

كم من كلمة شيدت وأخرى هدمت!

السبت، 08 فبراير 2025 03:36 م


الكلمة..

ما أعظم مسؤولية الكلمة!
فهي حصاد الانسان، وهي أيضا سيرته بعد مسيرته في هذه الدنيا..
فالقلوب التي تحمل الخير تنطق بالكلمة الصادقة، أما الكلمة الكاذبة، فهي كاشفة لمخبئات النفوس، تضلل، تزرع الضغينة وتنشر بذور الفتنة.
عرف المصريين منذ آلاف السنين أهمية الكلمة وشأنها الخطير في مجتمعهم بكل شرائحه، وامتلأت سجلات التاريخ القديم بِلُغة منمقة سَطرَت متون مقدسة على جدران المعابد والمقابر، وعَبَرت بسياقات متفردة عن إجادة فنون الكلمة و المهارة في ممارسة استخدم معانيها.
عزيزي القارئ، عليك ان تفتخر بان اجدادنا هم اول من برعوا في فن "صناعة الكلمة" و"دبلوماسية القول"، وهنا، الشئ بالشيء يذكر، استرجع مقولة نطقت منذ أكثر من أربعة آلاف عام، من اب، الحكيم و الفيلسوف «بتاح حتب» لابنه ليعظه ويحثه على مكارم الأخلاق..
"يابنيّ .. كن صانعا ماهراً للكلام.. قوياً، فان قوة الانسان في لِسانِه"
هذه  المقولة تأتي ضمن لوح ورقي محفوظ في المكتبة الوطنية بباريس، و هو لوح ملفوف بدقة تحت اسم "بردية ايبرس" و يحتوي علي مجموعة من النصائح الي باتت منارة يُستَضاء بنورها فى معايير الأخلاق للبشرية جمعاء، و دليل يهتدي بوهجه الانسان علي درب الحياة..
تلك الالواح/السجلات الثمينة لـلحكيم «بتاح حتب» و غيره من رجال النخب الفكرية في الالفية الثانية قبل الميلاد، استطاعت ان تمر فوق آلاف السنين  و تظل نضِرة وكلماتها ساطعة بكامل معناها و رونقها كما أشار بوضوح علماء علم المصريات و رموز الفكر في القرن العشرين أي في الالفية الثانية بعد الميلاد مثل العالم المصري سليم حسن فى موسوعته عن الأدب المصرى القديم و من بعده الرائع أحمد فخرى و هو اقدر من كتب عن الحضارة المصرية وافضل من استعرض تاريخها وثقافتها وتطورها عبر العصور في كتاباته عن "مصر الفرعونية".
اكد هؤلاء جميعا ان سجلات التعاليم والمواعظ المدونة من قِبل النُخَب المصرية في مصر القديمة هي بمثابة نَبْع مُتَدفق لما نُعَرِفه اليوم بـ "فن السلوك"
Savoir vivre
والذي كثيرا ما يؤخذ علي انه "ابتكار غربي " الا انه في الحقيقة، مصري الولادة و النشاءة و التكويين.

و في سياق متصل، اهتمت  العقائد التي توالت علي البشرية في كل ربوع العالم القديم علي حَث الانسان علي أن تكون الكلمة التي ينطق بها تحمل الخير والصدق والحق، وألا تكون كلمة زور، وبهتان، وفرقة و قداكدت أيضا الديانات السماوية الثلاث فيما بعد، علي ضرورة الحفاظ علي سلامة اللسان في إظهار الحُجة و البُرهان و اكدت ان سلامة اللسان من سلامة الانسان، والسلامة لا يعادلها شيء فهي المبتغى و الرجاء في الحياة الدنيا.
ففي سورة طه، قال موسى -عليه السلام- سائلا ربه
  "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي"
وجاء في سورة القصص "وأخي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي"
وكما قال أيضا السلف من المفسرين، ان سيدنا عيسى عليه السلام، وصف بانه كلمة
ولعلنا جميعا نسمع هنا صوت "عبد الله غيث" في مسرحية "الحسين ثائرا" وهو يقول:
عيسى ما كان سوى كلمة
أَضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم
الكلمة زلزلت الظالم
الكلمة حصن الحرية
إن الكلمة مسئولية
إن الرجل هو الكلمة
شرف الرجل هو الكلمة
ومن ظلال ما ذكرته في صدر هذا المقال عن مسؤولية الكلمة، يبدو مؤكداً انه حتى ولو طال زَمن الظُلم وحتى وإن خيل للبعض أن كلمات الشر تزاحم كلمات الخير في هذه الدنيا، الا ان كلمة الحق تظل هي الأعلى، لا تقوى عليها معاول القهر والطغيان، فهي شامخة، راسخة لا تزعزعها الرياح والاعاصير، ولا تعصف بها ظلمات الباطل..

وانا اكتب هذا المقال عن أهمية الكلمة والكلمات، اكاد اسمع في اذني لحن اغنية ماجدة الرومي الشهيرة
عن ابيات"نزار قباني" بعنوان "كلمات" و التي تعبر عن خذلان حبيبة امام وَهْم كلمات قد تبخرت و عهود قد تَلاشَت - و بشكل غير مباشر- رَسَمت الاغنية حال دنيانا و ما نعيشه من "صدمات سياسية" في الآونة الاخيرة..
"كلمات" ينطق بها اللسان.. تُصبح واقع .. ثم تَنطلق في الأفق بلا عودة للوراء، فتسبح في فضآت العالم حتي تهبط علي الممرات الممهدة للأرواح و تصيغ النفوس..
فكم من كلمة أفرحت وأخرى أبكت الاعين..
وكم من كلمة فرقت الاخوة وأخرى لمت الشمل..
وكم من كلمة شيدت وأخرى هدمت، وكم من كلمة آنست القلوب وكم من كلمات استوحشت منها القلوب
وانقبضت منها النفوس..
وكلها كلمات..
و في يوم من أيام زمان غريب فاقد لعقله، جاءتنا كلمات من هناك..من قلب الحداثة و التقدم، ، فاصابتنا بالغصة واوجعتنا. كلمات انطلقت من البيت الأبيض فنَفَذَت كالسِهام المحمومة في قلب البشرية جمعاء فعَبرَت البحار و المحيطات و قَلَبت التاريخ و زيفته، علي مرئ و مسمع من العالم اجمع..
فانتشرت هذه الكلمات المغايرة كالنار في الهشيم ..
و كأن نزار قباني كان يصف هذا المشهد..
كلمات ليست كالكلمات..
كلمات تبني قصرا من وهم..
بالفعل، فان الكلمات التي صدرت من "البيت الأبيض" حول انشاء ريفييرا علي ارض غزة هي كلمات تبني "قصرا من وهم"، و لكن ناطقها لن يسكن فيه سوى لحظات تَشَدُقه بها و سَيعود بعدها لطاولته ـ تماما مثل الحبيبة في اغنية نزار قباني ـ لا شيئ معه و لا معها..  إلا كلمات!
أما هنا، من قلب فلسطين، فنسمع كلمات اخري..
كلمات صدق صدرت من افواه أهل غزة وهم يمشون بخطي ثابتة على طريق العودة إلى ارضهم/موطنهم الأصلي في مشهد مهيب تَفَرد بعمقه الفلسفي و جمال الوانه الوطنية وسط كثير من المشاهد الباهتة التي تحفنا على مدار ما نحياه من أيام.
هذا المشهد الذي اهتزت له الوجدان و تزلزلت له النفوس ..
مشهد تاريخي لمجموعات بالآلاف و هم جميعا علي قلب رجل واحد و تحت مظلة قضية واحدة ، ينطقون بكلمات حق و عدل،  تضوي كالمصابيح و تنير دروب التيهة للكثير بل و تحمل في طياتها عبق تاريخ طويل لهذه الأرض، مهد الحضارة و احد لحلقات المؤسسة للوجود البشري.
عزيزي القارئ،
في ختام هذا المقال، اود ان أنوه ان مشهد البيت الابيض ومشهد اهل غزة َلهُما ـ وبدون أي شك ـ من المشاهد الاستثنائية، التي سيحتفظ بها التاريخ في سجلاته، غير انه، أعنى "التاريخ" ،كائن وفي، مُحتَرِف، يمتلك فن الفرز، فسيفرق بموضوعية بين صاحب الحق والظالم و سيفصل بميزان عدل بين الكلمة الطيبة و كلمة الباطل ـ مهما تعالت وخُيّل للبعض أنها اصدق وأقوى زيفا و بغتانا.. فلا قرار لها و لن يكون لها بقاء.
انما "التاريخ" هو سيبقي دوما قارئا جيدا للمواقف..
و سيبقي الانسان دوما علي المحك امام فنون الحياة: فن ضبط المسافات وفن ادارة التوقيتات وفن منح الثقة وفن الاعتماد على الذات في بعض المواقف وفن فرز البشر حسب مواقفهم!
و ستستمر الحياة و تصنع من الكلمات و المواقف..تاريخ!




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب