مباراة حامية الوطيس، تقام على رقعة شطرنج ملتهبة، تضم لاعبين أصحاب مهارة وذكاء حاد، يشاهدها العالم بكل اهتمام وترقب على الهواء مباشرة، وبينما اللاعبون فى أوج تركيزهم، فإن الجماهير مشدودة الأعصاب، وأكثر تركيزا فى المتابعة. اللاعبون يدركون أن تحريك كل قطعة على رقعة الشطرنج، لها حسابات دقيقة، غير مسموح فيها الخطأ، لأن تحريك القطعة الخطأ، خطيئة كبرى، لها توابع حارقة ونتائج خاسرة.
مصر لاعب رئيسى على الرقعة، فى المنطقة، متسلحة بقدرات خاصة، ومهارات محلية خالصة، بينما هناك لاعب محورى أيضا، يستعين بمديرين فنيين وخبراء أجانب من خارج الإقليم، يتمتعون بقدرات كبيرة، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، ويستطيعون الحشد الدولى وتجييشه ضد قضية بعينها، لذلك فإن مصر فى مواجهة صعبة وعسيرة، سلاحها شعبها المتماسك وجيش عقيدته الراسخة الزود عن الأرض والعرض بالأرواح، رجال لا يهابون الموت.
وبما أن مصر لها تاريخ عظيم، وتتمتع بحضارة أثرت بشكل مباشر فى الإنسانية كلها، فإنها تتمتع بنظريات خاصة، وصارت سياستها الخارجية، مدرسة لا يمكن أن تخطئها العين، فيكفى أن المفاوض المصرى الذى دشن أول معاهدة سلام فى التاريخ مكتوبة، فى عهد الملك رمسيس الثانى، مع ملك الحيثيين، وموجود نسخة منها فى الأمم المتحدة، ما يعكس قدرات وعراقة هذه المدرسة.
لذلك فإن المتابع لسياسة مصر الخارجية خلال العقد الأخير على سبيل المثال، سيبدى إعجابا كبيرا بها، فقد أديرت بمهارة وحنكة مذهلة، ورسخت لمصر شكلا ومضمونا، ويوما بعد يوم، يزداد النضوج، وتتراكم الخبرات، فى قراءة الخرائط، وأوراق ملفات المنطقة الساخنة منها قبل الباردة، ووضعت لكل ملف، خططه الخاصة به، وحققت نجاحات مذهلة.
ومن النظريات السياسية التى تفردت بها مصر طوال العقد الأخير، نظرية الصبر الاستراتيجى، وعناصرها التريث الرشيد، والقدرة على ضبط النفس وعدم الانزلاق فى معارك جانبية، تحول دون تحقيق هدفها الجوهرى فى الإعداد والتأهب لمعركة البناء والتقدم والازدهار، كما أبدع النظام المصرى فى خوض معارك النفس الطويل، بوعى ومهارة، وبحسابات منطقية عاقلة، ورؤية وبصيرة فى قراءة الواقع.
هذه السياسة جنبت مصر الانزلاق فى «حروب العاطفة»، متحملة حملات التشكيك والتخوين ما لا يتحمله نظام وشعب آخر، رغم ما تبذله مصر من جهود حثيثة على الأرض بعيدا عن الشعارات البراقة.
الحقيقة أن حسابات العاطفة شىء، وحسابات العقل والمنطق شىء آخر، لذلك لا يمكن اتخاذ قرارات تتعلق بمصير شعب، مثل اتخاذ قرارات إعلان الحرب، دون تحديد أهداف القرار، سياسيا وعسكريا، مع دراسة الوضع الاقتصادى بدقة، والنتائج المترتبة على خوض المعركة، بعيدا عن المغامرات غير المحسوبة. ومن نعم الله سبحانه وتعالى على مصر أنها تمتلك جيشا قويا وعظيما، تاريخه منقوش على جبين الزمن، ومحفور على جدران ذاكرة التاريخ، وتتحدث عن بطولاته الشواهد الأثرية، داخليا لحفظ أمن وأمان واستقرار البلاد، والمشاركة فى عملية البناء، وخارجيا لصيانة الأمن القومى وردع كل من تسول له نفسه انتهاك حدودنا.
السياسات، والقرارات غير المحسوبة بدقة شديدة، وتحريك قطعة الشطرنج الخطأ على الرقعة الملتهبة، عواقبها وخيمة، فإن التاريخ، خاصة المعاصر، يذكرنا بفاجعة نجاح مخططات تفكيك الجيوش والقوات الأمنية، ومحاولة إعادة تشكيلها وتأهيلها وفقا لمفاهيم ومعطيات جديدة، لذلك كل محاولات إعادة بناء الجيوش بعد تفكيكها باءت بالفشل، وكانت لها توابع كارثية، منها ما هو مستمر حتى الآن، رغم كل محاولات البناء، والميزانيات الضخمة المرصودة، ووصلت إلى أرقام فلكية، وهل رأينا ما حدث للجيش السورى مؤخرا؟
المنطقة على فوهة بركان، قابل للانفجار بين لحظة وأخرى، وأن مصر تتعرض لضغوط لم تتعرض لها عبر تاريخها المتجذر فى أعماق التاريخ، لذلك فإن مصر وعلى رقعة الشطرنج المشتعلة، تتحرك بحسابات دقيقة وميزان شديد الحساسية فى وزن القرارات، يعلو فيها المنطق والعقل، وتقديرات الموقف، وقراءة شديدة التركيز للخرائط المشتعلة فى الاتجاهات الاستراتيجية الأربعة، وفى أبعد نقطة للأمن القومى المصرى.
كان الله فى عون مصر، قيادة وشعبا وجيشا، فالمخططات والأطماع وصلت مداها، واللعب صار على الهواء مباشرة، وفى لحظات الجد، كُل يتحمل قراراته، ويسدد فواتيرها بمفرده.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة