وَمَضَتْ وما انطفأت من يومِها، ومَضَتْ للضفَّة الأُخرى وما زال مقعدُها بيننا دافئًا. الفلَّاحةُ الطالعةُ من الطين، و«الصيِّيتةُ» المعجونةُ بتراث المَوَالد وشيوخ الإنشاد، وسيِّدةُ المجتمع التى ناطحَتْ الصفوةَ فى ملاعبهم، وحازت «وسامَ الكمال» عن استحقاقٍ، واقتنصت مكانًا فسيحًا فى قلوبِ الملايين بجدارةٍ واقتدار، كأنها على البُعدِ عمودٌ فى معبدٍ فرعونىٍّ قديم، وعلى طزاجة الذكرى طيفٌ لامعٌ ما يزالُ يتمشَّى بيننا، ويطبعُ قُبلاته الحَارّة على كلِّ جبينٍ مُتعرِّقٍ، ورُوحٍ حَيرى، وذائقةٍ مُتعطِّشة للجمال. العتيقةُ النَّدِيَّة، والبديعةُ المُبدعة، و«أُمّ كلثوم» أوَّلاً وأخيرًا، وكفى بالاسم عن أىِّ مديحٍ أو ثناء.
تسرَّبَتْ إلى فضاء العاصمة قبل قرنٍ أو يزيد، مخبوءة فى ملابس الصبيان، وتدفسُ أُنوثتَها الزهيدةَ تحت غُترةٍ وعقالٍ بدوىٍّ، قَضَتْ ستّين عامًا على مسارح الدنيا، وألقَتْ حُمولتَها من موفور الإبداع، ثمَّ ارتحلَتْ بهيّةً وفى كامل أَلَقِها، لا شىءَ فى البداية يَشى بما انتهت إليه، ولا حَمَّلتْها الدنيا فى بادئ الرحلة ما يُعينها على دورها الرسالىِّ العظيم.
جاءتْ من الهامش كأبسط ما يكونُ الحضور، وغادرَتْ المَتنَ ولمْ يُغادرها إلى الآن، وتلك آيةُ الاستثناء فى الكينونة والمسار، لأنها بزغَتْ مثلَ سهمٍ نارىٍّ من المجهول، اخترقَتْ كُلَّ الحُجُب وبَدَّدَتْها بالنور لا النار، وتركتْ وراءها دليلاً صاخبًا دون ضوضاء مُزعجةٍ، ودامغًا دون لَجَجٍ أو تأويلات، على أنَّ المواهبَ الكُبرى قادرةٌ على استحداث الدراما من العَدَم تقريبًا، وعلى تغيير العالم، الخاصِّ أوَّلا، ثمَّ العام بكلِّ ما فيه من أُطرٍ وتقاليد وقيودٍ ثقيلة.
على قارعة القرن العشرين، كان الغناءُ ناعسًا ومُثقَلَ الجفن. حلَّ سيد درويش فأوقظَه من سُباته العُثمانىِّ الكسول، وتجلَّت «السِّتُّ» عليه، فمنحَتْه رُوحًا مصريَّةً خالصةً، وجامعةً بين الجمال والجلال فى آن، وإذ يُؤَرَّخُ للطَّرَب الشرقىِّ فى انبعاثه الجديد من محطَّة السكندرىِّ الجوّال بين الشام ومسارح القاهرة، فإنَّ اكتمالَ نُضوجه وريعانَ أُبّهَته ما تحقَّقا إلَّا مع البنت الدلتاويَّة البسيطة.
كان الشيخ سيِّد عنفوانَ الثائر على القديم البالى، وكانت الشيخة فاطمة عقلَ الثورة، وقد هذَّبَ الغضبَ، وانتخبَ منه ما يُؤسِّسُ معمارًا جديدًا لا يتخلَّى عن ثوابته الراسخة، وكلاهما استوى على مقعدِه فى قُمرة القيادة، ولو لم يجمَعْهما طريقُ السَّفَر.
تجمَّعَتْ الجداولُ الصغيرةُ لتصُبَّ فى النهر العظيم، والتَحَقَ أبناءُ الثائر بعقل الثورة، فشقَّتْ الحناجرُ المصريَّةُ طريقَها الصاعدةَ، بعزمٍ وثباتٍ وإبداعٍ إلى المجد والنكهة المحليّة الصافية.
ولا عجبَ أكبرُ من أنَّ القافلةَ الكُلثوميَّة تكبرُ وتزدهرُ، كأنَّ راعيتَها حاضرةٌ بين الجموع، وتُشرِف من موقعٍ قريبٍ على ترتيب البيت وترصيص الصفوف، الساحرةُ التى غادرَتْ قبلَ نصفِ القرن، لا تزالُ قادرةً على إغواء الوافدين الجُدد، وإلحاقهم برَكبِها السيّار بين بهجةٍ وشَجَن.
شبابٌ فى أعمار الوَرد يتسمَّرون أمامَ حفلٍ طويل، أو يُردِّدون أغنيةً لا تُناسبُ إيقاعَ عصرهم، وأهمّ سماته الملل والاستهلاكية العابرة، وطاقةُ الجَذب لا تنبعُ من وسيطٍ فرعىٍّ، كما لدى مُطربين آخرين حفظَتْهم شاشاتُ السينما من الضياع، وأمَّنَتْ لهم عبورًا خفيفًا ودوريًّا إلى الأسماع.
حصيلتُها من الدراما زهيدةٌ، وغير مطلوبةٍ للعَرض بإلحاح، وجهدُ استمرارها يتعلّقُ بالصوت لا الصورة، وبالطاقة الجبَّارة التى تنثرُها بين الكلام والأنغام، وقُدرتها الفرديَّةِ العالية على مُحاربة الزمن، وانتقاء الخُلصاء الطيِّبين.
بذكاءٍ فطرىٍّ حاذق، تدرَّجَتْ سيِّدةُ الغناء العربىِّ على مُرتقَى العظمة إلى مُنتهاه، احترمَتْ مَوهِبَتَها فاحترمها الناس، وأحاطَتْ نفسَها بحاضنةٍ مُنتقاة، مَنحَتْها لآلئَ الإبداع، وعوَّضَتْها عَمَّا افتقدَتْه فى نشأتها البسيطة.
مشروعٌ باذخٌ تعالَتْ طبقاتُه حجرًا فوق حجر، ومُبدعًا إثر آخر، فكأنها كانت تحطُّ على المراحل لغاياتٍ تعلمُها، أو لأدوارٍ انتُدِبَت لها، ولا تكتملُ إلَّا بحظٍّ من كلِّ زهرةٍ ورحيق.
صارتْ العباءةُ فستانًا، والغُترةُ منديلاً، والأناشيد والمُوشَّحات والطقاطيق غناءً حُرًّا هادرًا. رحلةٌ قطعَتْها زحفًا على الشوك، ورَكضًا فى بساتين الأمل، ووصولٌ توَّجَتْه بصوتٍ لا نظيرَ له، وتوَّجَها مَلِكةً أبديَّةً للطَّرَب والمُطربين.
تعثَّرتْ السِّتُّ فى حياتها العائلية، تزوَّجَتْ الموسيقى وأنجبَتْ الإعجاز، وارتضَتْ من الحُبِّ بعد تجارب مُوجعة بأن تكون داعيتَه الأُولى، ومن المشاعرِ أنْ تكون قاسمًا مُشترَكًا بين كلِّ حبيبين.
وإذ نَعُدُّ أُصولَنا القيِّمة، فإنها على رأس الثروة الوطنية، ولها صِفَةٌ عُموميَّة من المحيط للخليج، وحالة كَونيّة يندرُ أنْ تمسَّ غريبًا ولا تخدِشَ روحَه. تحقّقتْ القوميَّةُ العربيَّةُ فى السِّتِّ بأكثر مِمَّا حققَتْها الخرائطُ واللغة، ويختلفُ العَرَبُ على كلِّ شىءٍ تقريبًا إلَّا هى. امرأةٌ بأُمةٍ كاملة، ولها لحمًا ودمًا، وقد صارَتْ رديفًا للثقافة الجامعة، بقدرِ ما يجتمعُ أبناؤها على مُعتَقَدٍ أو كتاب.
خمسةُ عقودٍ مضَتْ منذ انسدال الستار على روحها الطاهرة، سبقها غيابٌ عن عائلة السَّمِّيعة لعامين تقريبًا، لا جديدَ ليُقال عن تجربةٍ تسلَّطت على كلِّ ذائقةٍ حيَّةٍ وعقلٍ نابه، ولا يتقادَم الكلام عنها، أو ينفد سحرُها بقُدرته الفيّاضة على توليد الحكايات.
كتبتُ فى ذكراها قبل ستِّ سنوات، وهى السنوات كُلّها، والستُّ التى لا «سِتَّ» بعدها، ويطيبُ لى فى مقام الوقوف على قبرها اليومَ، والتريُّض فى حدائقِها الغَنَّاء، أن أستذكِرَ منه بضع فقراتٍ لا تُوفّيها حقَّها، وأتشفَّعُ بها أن تلقى قبولاً لديها فى ملأها الأعلى.. ومِمَّا كان فيها أنتخبُ التالى:
لم أكُن أُحبُّ أُمَّ كلثوم حتى بلغتُ العشرين، ولاحقًا أيقنت أنها تعويذةٌ لم يُنشئها مُنشِئ التعاويذ الأعلى لِمَن لم تنضُجْ قلوبُهم وأرواحهم بعد، مَن لم يَسبكْهم تَنُّور التجربة، فلَمْ يُجرِّبوا الفتنة ولم يُجرّبهم السِّحرُ، فظلَّ الغُبار على زجاج عيونهم، ولمَّا يقعَوا بعد على شىءٍ من فيوضِ الله المخبوءة فى الهزائم المُنضِجة، والانكسارات المُرَبّية، وشيخوخة الأرواح كانبعاثٍ جديد فى زواج السماء بالأرض.
أُمّ كلثوم ليست مُطربةً، لا يجوز اختزالُها فى حنجرةٍ ومصفوفة من الأحبال الصوتيَّة، ربما يكون الأوقع اعتبارها تهجئةً مُمتدَّة فى الزمن لميراثِ الوجدان العربى، وحالات شُعوره المُوزَّعة بين التقييد والانفلات، كأنها الموجةُ التى تلوح فى البعيد، كارتجاجٍ عاصفٍ للماء فى دَورَقٍ زُجاجىٍّ مُحكَم الإغلاق، فى ظاهره ارتواءٌ، وفى جوهره ظمأ لا يَحُدّه ماء، وعلى الشطّ نُثَارٌ من سِيَر الصيَّادين والغَرقى والأسماك، وحكايةٌ مفتوحةٌ على مصارين البحر.
اليومَ تدورُ الساعةُ دورتَها الكاملة، وتكتمل «خمسون سنة» على ارتداد الموجة، على قبض الصوت، على مُزاوجة الماء للعَطَش، وما زال البحر عاصفًا والصَّدى صادحًا والنهر يجرى لمُستقَرٍّ له، يَكبُر السَّمَّاعون ويشيبون ويُبعَثون رمادًا وطينًا، والسيِّدةُ الرَّبّةُ على عرشِها، تتبدَّلُ عليها الحكايات، ولا تسجنُها حكايةٌ أو يُؤطِّرها حَكّاء.
بين طماى الزهايرة بالدقهلية «مَولِدًا مُختَلَفًا فيه بتاريخين مُتباينَين «31 ديسمبر 1898 و4 مايو 1906»، وحىِّ الزمالك بالقاهرة «وفاةً لا خلافَ فيها 3 فبراير 1975»، عاشَتْ الفاطمة أُمّ كلثوم سبعًا وسبعين سنة، أو خمسًا وستين، عبرَتْ ما لمْ يَعبُره عُتاةُ السَّيَّارين والرُّحَّل من صروف الأيَّام وعوارضها، وأتَتْ ما لمْ يَأتِه الأوائلُ من أبناء الله الاستثنائيِّين والمُبدعين.
وبينما ألقَتْ السِّتُّ محصولَ أَلَقِها وحصادَ إبداعها فى 6 أفلام سينمائية، و306 أغنياتٍ فقط، مُتأخِّرةً عن طوابير من آباء وصُنّاع الموسيقى والتمثيل والغناء، من أسلافها ولاحقيها، ظلَّتْ فى معارج لا تُدانيها الحناجر، بصوتٍ فَارِهٍ وباذخِ المَقدرة والعطايا، منحوتٍ كأنَّه مُتعَيّن مادىٌّ يملأُ العينَ ولا تُحيطُه، وأثيرىٍّ كأنّه الهواء، رَحْمٌ للبَدَن وجنينٌ فى الصدر، وفُسيفساء مُزركشة كأنّها جوقةٌ من المُغنّين يصدحون لحنًا واحدًا، «بُولوفُونيًّا» متجاورَ الخطوط والمساحات.
كأنَّك فى حضرة الحنجرة النورانيَّة الكُلثوميَّة، على مرأىً ومسمعٍ من جهاز الصوت المعيارِىِّ الذى يَقيسُ اللهُ عليه الأصواتَ، ويُوزِّع الحصصَ والأرزاق منها على الناس.
وفقَ معهود الدراما، ومَطروق السَّبْك والتدشين، كلَّلَتْ العَادِيَّةُ رأسَ السِّتِّ- تمامًا كما اعتاد الاستثنائيِّون- فجاءت على مثالٍ أبلاه الاستهلاك، طفلة فقيرة لأُسرةٍ ريفيَّة، لم تَكُن فارعةَ القامة، ولا منحوتةَ القوام، ولا بارعةَ الجمال.
فاطمة إبراهيم البلتاجى وحسب، ابنة المُنشد ومُؤذِّن القرية، ولو أتعَبَ كُتّابُ سيناريوهات الحياة أقلامَهم، ربّما صادَفوا ألفَ نموذجٍ مُطابق، بفَقرٍ وعَوَز طَبَعَا آلافَ البيوت، ووَشَّيَا ملامحَ ناسِها، وبتَسريةٍ ليليَّةٍ بالإنشاد والغناء وقصائد التصوُّف، وبقوامٍ وسيطٍ بين الطُّول والقِصَر، وبين الامتلاء والاعتدال، وملامح أكرمَها النحّاتُ؛ فكانت مَوفورةَ التشكُّل، مُمتلِئةً ومُتزاحمة، ربما كانت مُتقَنةً فى أُحاديَّتِها، لكنها لا تُجيد الائتلافَ ونسقَ الجوار، وفقَ ما استقرَّ فى كتاب الحُسن والجمال.
هى الأُنثى العارية من كلِّ عَرَضىٍّ طارئ، من كلِّ مَظهرٍ لامع ومناط نظر، فَبِعَينَيْن جاحظتين ككُرَتَين بلاستيكيَّتين فى كأسين مُترعَتَيْن بالماء، ومنخارٍ واسعٍ كقِربَةٍ على أهبّة الانفجار، وبوَجنَتَيْن بارزتين تنحدران بحِدَّةٍ إلى وادٍ ذِى فَمٍ كحافة بئرٍ دارسةٍ، يُدانيه ذَقنٌ بارزٌ وعنيفُ الدوران، خلَّصَ النحَّاتُ تمثَالَه، المنذور للفعل فى الروح لا النظر، من كلِّ ما يَعوقُ الرسولَ عن رسالته، ويسرقُ من بهاء الصوت بأبهاء الصورة.
ولعلَّه وضعَ خُلاصةَ طاقته، وخامَ تعريفه واقتداره على الجمال، فى تشكيل الحنجرة وتَندِيَة أحبالِها الصوتيَّة، ومَسحِها بالسحر والموسيقى، وماء السماء وعسلِها، فجاءت كوكبُ الشرقِ كَوكبًا دُرّيًّا، وحنجرةً مُغلَّفة بالإعجاز، تكاد تضىء ولو لم تَمسَسْها نار.
كان صوتُ أُمّ كلثوم غَنيًّا بإسرافٍ، بإسرافٍ شديدٍ، يحوزُ أجملَ ما فى أصوات النساء، مجدولاً بما يفتقرن إليه وتكنزه حناجرُ الرجال، فكانت تملكُ قَرارًا يَندرُ أن تجِدَه فى آلة صوتٍ نسويّة، وقدرة على ابتداع الحِلْيات والزخارف بشكلٍ يُعجِزُ أشدّ الآلات لينًا وطواعية.
يتجاورُ هذا مع مسارِ إعدادٍ ربَّما رتَّبَتْه المقاديرُ، من الإنشاد الدينىِّ لموسيقى أبى العلا محمَّد، عبّأ روحَها أولاً بالسيكا والبياتى والرست والصبا «المقامات الشرقية المُشتملة على ثلاثة أرباع النغمة» لتنداحَ فى ثنايا صوتها ولو ترنَّمَتْ خارجَها، ثمَّ هذَّبَ شيئًا من الحِدّة والانفلات والرنين المعدنىِّ الذى ظهرَ فى صَوتِها خلال مرحلة العشرينيَّات، لتصل مع الأربعينيَّات إلى المساحة الكُلثومية الخالصة، الصوت الفريد العريض القوىِّ، الحاد فى اتِّزان، واللَيِّن الطَيِّع فى قوَّةٍ وصرامة.
بينما اشتغلت القُوّة الخفيّة التى تُديرُ موهبِتَها السامقةَ، وربما كانت فى رأس الستِّ ذاتِها، على مَزجِ وعىِ المُنشِد برُوح المُطربة، الصوفىِّ بالحِسِّىّ، مُراقصة الذات للموضوع دون التحامٍ أو انفصال، غناء الحكاية والسَّرد الشهرزادىِّ، بثراء التطريب والتجاوب والإعادة والتكرار، هكذا فى نسيجٍ عُضوىٍّ ألَّفَتْ فيه أمّ كلثوم بين كلِّ شىءٍ وأى شىء: عقالها القديم ومنديلها الحديث، البطانة والأوركسترا، الوَجْد الإلهىِّ والنُّزوع الدنيوىِّ.
تسمعُ وكأنك ترى، وترى وكأنك تلمَس، وتلمسُ وكأنَّك تُشارِكُ فى الفعل، ورغمًا عنك تتورَّطُ برغبةٍ «كُلثوميَّة» فى إنتاج السياق، أنت السَّمِّيعُ وقتَها على القُرب، والسامعُ الآن على البُعد، شريكٌ مُباشرٌ فى الأمر، فى المُعجزة التى تتشكَّلُ على عينيك من صوتٍ وصمت، شريكٌ فى إنتاج القصَّة فى الزمن، وتشكيلها كما يتراءى لك أنت ومُنشِدك، الذى ينشدك وحدَك، وحدك فعلاً، حتى لو كنت فى مَلأٍ لا مُبتدأ له ولا مُنتَهى.
إنْ تجاوَزْنا العادىَّ فى الْتِمَاس الإعجاز فى مسار أُمِّ كلثوم غير العادىِّ، فلن نتوقَّفَ طويلاً أمامَ حَيِّزها الصوتىِّ فحَسب، واختزانها لمساحةٍ عريضةٍ تربُط أصواتَ الرجال بالنساء، كأننا إزاءَ حنجرةٍ تأخُذ شكلَ ملك مصر القديم «أخناتون»، بهيئةٍ مُوزَّعَة بين الذكورة والأنوثة، كأنها الكَمالُ المُطلق، والتَّمَامُ الذى لا يُخالِطُه نَقصٌ ولا يَعوزُه شَريك.
ولن نقِفَ أيضًا أمامَ قُدرتها المُبهِرَة على الإمساك بلجام هذه الحنجرة العَفيَّة، وسياستها المُقتدِرَة بين الحالات والمقامات والنَّغَم، ولا قُدرتها الفَذَّة على الغناء لأربعِ ساعاتٍ مُتَّصلة، ولا قُوَّة صوتها التى رأى الناس تجلّيها فى خصامٍ نسبىٍّ مع الميكروفون، بينما فى العميق كان شاهدها الأكثر إدهاشًا أنها تعتمد فى غنائها على الحنجرة، لا من بطنٍ أُوبراليّةٍ، ولا وفقَ تقنية التوظيف للحجاب الحاجز «Diaphragm» فى ضغط الهواء الصاعد نقلاً إلى الأحبال الصوتية، بمقدار مَرَّتين ونصف المرَّة من الضغط الجوى، بدلاً من التحميل مُباشرةً على الحنجرة كما تقول الستّ.
مَسلَكٌ فى الأداء كان يُضاعِفُ حجم الضغط على الجهاز التنفسىِّ والصوتىِّ، بشكلٍ قاسٍ ومُرهقٍ للغاية، لكنَّها كانت تسيرُ وسطَ تلك الغابة من الحُمولات المُضنية كأنها فراشةٌ، بينما تحملُ حنجرةً كأنها جبلٌ عظيمُ من التجاويف والأحبال.
إنْ شِئْتَ أن نتعمَّق فى كتابِ الإعجاز، من جانبه الفسيولوجى، فإليك أيضًا من انفرادات الستِّ وحدها، أنَّ صوتَها يمتدُّ على قِسمَيْن من أقسامٍ ثلاثة لأصوات النساء: كونترالتو وميتسو سوبرانو، لكنّها فى كثير من تجلِّياتها تصلُ لمقامٍ يقعُ وسط مساحة «رى بيمول»، أى عند طبقة «الباريتون» المُتوسِّطة بين الباص والتينور فى أصوات الرجال، فعلتها مثلاً فى تسجيل «يا ظالمنى» من حفل فندق «كابيتول» بالعاصمة اللبنانية بيروت عام 1954، مُتنقِّلةً بين الباريتون والكونترالتو.
يُضاف لهذا أنها النموذجُ الأقوى، وربما الأوحد، على تحدِّى الزمن وقوانين الطبيعة، إذ بدأت الغناءَ بصيغةٍ شِبه احترافيَّة فى الخامسة عشرة من عُمرها، سنة 1913 على أرجح التقاويم، واختتمَتْ رحلتَها على المسارح فى الخامسة والسبعين/ 1973، قبل ارتقائها بعامين فقط، وهى بذلك فريدةٌ فى إكمال سِتَّة عقودٍ من الغناء، وفى تلك الرحلة العريضة، كانت عوارض الزمن وآثاره على حنجرتها أقلَّ وطأةً مِمَّا فعلَتْه مع غيرها، ومِمَّا يُفتَرَضُ أن تفعلَه مع بَنِى آدم على إطلاقهم، فحتَّى شَدوها الأخير كانت أُمَّ كلثوم التى عهدناها أوَّل مرّة، الجبَّارة القادرة على سياسة المقامات والأنغام، من القرار فى مستوى الباريتون، إلى جواب الجواب فى السيكا، بشىءٍ طفيفٍ طفيفٍ من التراجُع، قد لا يلحَظُه العاديِّون وغير المُختصّين.
لا تَكمُنُ عبقريَّة أُمِّ كلثوم وتفرُّدها فى حنجرةٍ طليقةٍ كعَنانٍ على عنقِ مُهرَةٍ حَرون، وقماشةِ صَوتٍ تقطَّعَتْ سُبُل الوِفاق بين أهل العِلم فى فَرزِ لُحمَتِها من سُداها، فقالوا: إنها تمتدُّ ديوانين كاملين «الديوان بالعربية هو الأوكتاف فى الموسيقى الغربية، والديوانان ستَّة عشر مقامًا»، وقال آخرون إنها فى فترة عنفوانها وانفلات صوتِها من كلِّ عقالٍ، حتى الخبرة.
خلال عشرينيات القرن العشرين مثلاً، ارتقَتْ السُلَّمَ الشاهق إلى جواب الجواب فى نغمة السيكا، دون عناءٍ أو ادِّعاء، أىْ وصلَ صَوتُها سبعةَ عشر مقامًا، ولا الحقيقة القاطعة بالأجهزة والقياسات الحديثة بوُصولها إلى 3.6 أوكتاف فى بعض مواضع رائعتها «وحقَّك أنت المُنى والطَّلَب»، التى أنشدتها بلحن معلمها الأول أبى العلا محمد فى 1926، ولا وُصولها فى بعض الأحواز الإعجازية إلى 4 أوكتافات كاملة.. كل هذا ليس سِرَّ عبقريّة ربَّة السحر، وهناك دومًا ما هو أكبر وألمع.
الطُّلوع من رَحْم الفورة الوطنيَّة، ومُواكبة سياق النهضة والتحرُّر، والإسهام فى بَلوَرة نُسخةٍ عصريَّة عن الهُويّة وجذورها الضاربة فى التاريخ. الإطرابُ والإمتاع، والثِّقةُ فى القُدرة المصرية على اجتراح المُعجزات.
يتَّسعُ المقام للحديث عن بصمةٍ فَنيَّة لا تُمحَى، وعن جهدٍ وطنىّ، وانشغالٍ بالمجال العام، وحُنوٍّ على البلد وآلِه بالحميميَّة نفسِها. إنها مُطربةٌ بأثرِ ملّاحٍ وقائدٍ مسيرة، وفنّانةٍ بوَعىٍ مُفكِّر وباعث نهضة، وامرأة بفائضٍ من أُبوّةٍ طافرةٍ، ومشروعٌ تجسَّدت فيه فورة بلدٍ وطموحه، وهى «أم كلثوم» فى البدء والمُنتهى، وكفى بها نعمة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة