مع أول ظهور لكوكب الشرق أم كلثوم على شاشة التليفزيون العربي سابقا- المصري حاليا- رأى الناس سيدة تقف شامخة باسقة كأشجار السنديان رغم أمراض العمر، فقد كانت على مشارف العقد السابع من عمرها، وصوتها الذي كان ينطلق ويصهل كخيل الصباح ورنات الذهب من أجهزة الراديو أول كل شهر قبل ظهور التليفزيون لم يمنح الفرصة للمستمعين أن يتخيلوا هيئة هذه السيدة التي بلغت أوج الشهرة والعظمة.
رأيت فيها سيدة ذات وجه حاد خال من الزوايا وعيون واسعة جاحظة وجسد أقرب الى الامتلاء ذات هيبة ومهابة لا تضحك أو تبتسم الا مع دخولها صومعة التألق والتوهج والغناء.
كنت أسأل -وأنا المتيم بحليم والساكن على شطأن صوته وكلماته وأحزانه وأفراحه- لماذا لا تضحك هذه السيدة مثلما يضحك حليم ويداعب جمهوره..؟ هل هي سيدة عادية تفرح وتبكي وتضحك وتحزن وتسعد وتتألم مثل باقي المصريات خفيفة الظل والدم وبنت نكتة وصاحبة قفشة.؟ أم أنها سيدة لا تتمايل الا مع غناءها ولا تضحك الا مع آهات جمهورها وسلطنة عشاقها والمتيمين بفنها وصوتها وأغانيها وقصائدها.
مع كل حفلة أشاهدها يترسخ اليقين بأنها مطربة تسكن في معبد ولا تغادر محراب صنعه لها جمهورها العاشق، يرضي غرورها التصفيق الحاد والعجاب والحب وصيحات المعجبين التي أصبحت أيقونات التشجيع في صالات الغناء بعدها "عظمة على عظمة يا ست" وليس هناك شيء آخر في شخصيتها المقدسة لدى جمهورها الذي لا يحق له الاقتراب من تخومها وحدودها الا من مسافة آمنة. فهي القاعدة وجمهورها الاستثناء، هي المصباح المنير وعشاقها هم الفراشات المحلقة حولها من اقترب احترق وذاب ذوبان المتيم الوله.
بقيت الحيرة والدهشة والتساؤل عن سر غياب الضحكة والابتسامة عن ملامح أم كلثوم حتى قرأت بعد رحيلها بسنوات – رحلت في 3 فبراير 1975-كتاب قديم عن دار أخبار اليوم للكاتب الصحفي الموهوب الراحل محمود عوض الذي كان صديقا شخصيا " للست" رغم اختلاف الأجيال وفارق السن، فعوض مولود في 28 ديسمبر 1942 وأم كلثوم في 31 1898 -كما هو مشا.
يقول محمود عوض في كتابه الذي صدر بعد ذلك في عدة طبعات وحقق أرقاما قياسية في التوزيع والانتشار:" لم تكن أم كلثوم مجرد مطربة يسهر الملايين في أنحاء العالم العربي لسماعها في الخميس الأول من كل شهر. لقد كانت دنيا بأسرها.. كانت موهبة، وشخصية ونفوذاً وسلطة عاطفية وتناقضاَ حاداً بين حياتها الخاصة وحياتها العامة.. فقد اعتادت الست أو أرادت أن تبقى كوكبا يحلق في سماء الفن ينتظر التقدير والحب والشهرة والإعجاب والتصفيق ويشاهده أو يستمع إليه الملايين ليلة كل خميس، أما باقي الأيام فلا أحد يعرف عنها الكثير، وربما تكون هي السبب- هذا ما يفسره محمود عوض- فقد أقامت سورا صينيا حول شخصيتها، سورا عاليا يحجب ما في داخله، تحتفظ فيه بحياتها الخاصة، بأفكارها.. قررت أم كلثوم أن تعيش حياتها بين قوسين لتجعل من فنها هو حياتها وحياتها هي شخصيتها
واقع الأمر أن هذا كله كان معظمه صحيحا- كما يكشف محمود عوض- لكنه ليس كل شيء، فأم كلثوم في النهاية هي إنسانة تحب وتكره.. تحزن وتفرح.. تضحك وتسعد وأيضا، سيدة ظريفة للغاية.. خفيفة الدم بصورة لم يتوقعها إلا كل من اقترب منها وتعامل معها، عُرفت كوكب الشرق، أم كلثوم، بخفّة ظلها رغم مزاجها الحاد أيضا، وكانت كثيرا ما تداعب زملاءها من الفنانين والموسيقيين.
كانت أم كلثوم، إحدى ظرفاء عصرها، وأطلق عليها سيدة الدعابات والقفشات، حتى قال عنها الكاتب الراحل على أمين: «لو توقفت أم كلثوم عن قفشاتها، فإنها تكون قد توقفت عن الغناء".
مواقف وصدف كثيرة أظهرت وجها خفيف الظل ضحوكا... «بنت نكتة» حقيقية... وهذا هو ما قد يدهش الكثيرين من عشاقها ويفتح أمامهم بابا فى سور شخصيتها.
ذات مرة استقبلت في فيلتها في الزمالك- تم هدمها عام 81 لصالح مشروع استثماري وفندقي أحد الصحفيين القريبين منها لإجراء حوار صحفي معها.. كان الصحفي قصير القامة إلى حد ما.
صافحته أم كلثوم وهى واقفة وهى تقول له: «أظن انت الواحد يقعد لك أحسن...!!»
وفى إحدى المرات قرأت مقالا منشورا عنها فى إحدى المجلات الأسبوعية.. كتبه صاحبه بلغة صعبة للغاية.. قالت لمحمود عوض إن المقال لم يعجبها، فسألها عن السبب.. فقالت له: «لأن كل كلمة فيه لابسة عمة..!».
ولا ينسى الجمهور لحظة تجلي عازف الناي الشهير في فرقتها سيد سالم فى فرقة الست فقد خرج عن النوتة الموسيقية فى أغنية «بعيد عنك» فتفاعل الجمهور معه بالصياح والتصفيق فالتفت إليه أم كلثوم تداعبه قائلة له: «ايه ده..!» فاشتعلت الصالة بالتصفيق وأعاد سيد سليمان اللحظة الابداعية مرة أخرى ونسى أنه يعزف خلف أم كلثوم، التي لم يجرؤ أحد على أن يخرج عن النوتة الموسيقية خلال العزف، أو حتى يؤدى بشكلٍ غير مُرضٍ لها، إلا أنه خرج عن النوتة، و«جوَّد» في الصولو الخاص به، وأبدع، وسرق آهات الجمهور، وأدهش أم كلثوم.
وذات مرة قام أحد أعضاء فرقتها بشراء بدلة جديدة، فراح للست يأخذ رأيها في البدلة قالت له بعدم اهتمام «مش بطالة».. الراجل ماقتنعش باللي قالته وحس إنها بتجامله وخلاص، فحب يجيب رجلها فى الكلام أكتر قالها:
طيب يا ست إنتى مش شايفة إنها واسعة شويتين؟! ..قالتله: معلش يا حبيبى خلاص «روح ربنا يضيّقها عليك».. وكانت أم كلثوم أثناء زيارتها، لأحد أعضاء فرقتها الموسيقية بعد أن اشتد به المرض… فقال لها: أنا تعبان أوى يا ست… فردت عليه قائلة: وهى تضع يدها فوق رأسه. أنت بخير.. شد حيلك يا راجل.. بكرة تخف.. وتروح الجنة.
علاقتها بأمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم كانت مميزة فقد غنت لهما العديد من القصائد ... وفى إحدى السهرات كانت أم كلثوم حاضرة السهرة وأثناء تناول وجبة العشاء كان على يمينها أحمد شوقي وعلى شمالها حافظ إبراهيم وكان الشاعران الكبيران فى ذلك الوقت قد بدا عليهما الكبر فنظرت إليهما أم كلثوم ولاحظت إن الاثنين ظهرهما يميل إلى الانحناء من تأثير تقدم العمر ، وكعادتها لم تفوت الفرصة فقالت لهما «أنا مش حاسة إني ماشية بين أكبر شاعرين في الوطن العربي.. أنا حاسة إني ماشية بين قوسين».
جمعت أم كلثوم وأمير الصحافة محمد التابعي الذى يعد صاحب مدرسة تحديث الصحافة المصرية، علاقة صداقة قوية، بل كانت هي وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب يذهبان إلى رأس البر ويجتمعون في غرفة التابعي ويتحدثون فى الكثير من القضايا المطروحة آنذاك على الساحة. فى فترة من الفترات كانت الست زعلانة من محمد التابعي، والراجل كان بيحاول يصالحها بكل الطرق وهى مش طايقة تشوف وشه، فى مرة منهم قرر أن ينتظرها تخرج من البيت ويفاجئها ويطلب منها تصالحه ، التابعي ظل منتظرا أمام الفيلا وأول ما شافها خارجة جرى عليها عشان يصالحها.. فالست حبّت تخلع منه قالتله نتكلم وقت تانى عشان أنا مش فاضية دلوقتى وعندي مشوار مهم قالها: طيب هو مشوارك فين يا ست؟
قالتله: في حدايق القبة
قالها: كويس.. خديني معاكي فى السكة عشان عايز أتكلم معاكي شوية
فقالت له: يا تابعى بقولك رايحة «مشوار حدايق القبة مش حدايق نفسى» لينتهى الحوار بينهما والزعل بنوبة من الضحك.
ومن المواقف الطريفة التى جمعت كوكب الشرق مع الكاتب مصطفى أمين، فقد وقع الصحفي الكبير ضحية مقلب أم كلثوم بعد ما سافر بصحبتها إلى أمريكا عام 1953 ودعاها لأحد المطاعم الفاخرة لتناول العشاء، فقررت أم كلثوم اختيار الأطباق الباهظة من القائمة ليجاملها مصطفى أمين ويختار نفس الأطباق.
أحضر الجرسون الفاتورة التى صدمت مصطفى أمين لكنه لم يكن يريد أن تشمت به كوكب الشرق فقال إن المبلغ بسيط ويمكنه دفعه، وبالفعل أخرج محفظته لكنه تظاهر بأنه لم يجدها.
وبين مراقبة أم كلثوم له بسعادة طلب منها الانتظار حتى يذهب للفندق ليحضر النقود لكنها خشيت أن لا يعود، فطلب منها تسديد قيمة الفاتورة لتبلغه أنها لا تملك النقود أيضاً فمازحها قائلا، إن مدير المطعم سيصحبهما للشرطة ويضعهما بالسجن، فضحكت أم كلثوم بعد أن تخيلت عناوين المانشيتات التي ستتحدث عن القبض عليها ومصطفى أمين بتهمة النصب وعدم سداد فاتورة مطعم.
لكن صاحب أكبر دار أزياء فى واشنطن كان يراقب الموقف وتدخل لإنقاذه خاصة بعدما شاهد أم كلثوم، ومن وقتها ظلت أم كلثوم تردد دائماً نكتة المفلس الذى دعا ضيوفه للعشاء!
فى إحدى الحفلات ربما كانت في محافظة البحيرة وهى بتغنى وملعلة قام راجل من الجمهور وقال بصوت عالى: يا جاموس الفن يا ست
الست غضبت جدًا وتوقفت عن الغناء وقالت بعصبية: إنتَّ بتقول إيه يا راجل إنتَّ؟! وكانت هتنهى الحفلة فعلًا لكن واحد من أعضاء فرقتها الموسيقية قالها وهو بيضحك إن الراجل مش قصده خالص الإساءة وإنه فلاح ودى لغتهم بينطقوا القاف جيم وإن قصده يقول يا قاموس الفن يا ست.. الست ضحكت وبصت للراجل وقالتله: عندك حق بس فين «العجول».. اللى تفهم !
وفى مرة خلال أيام الصيف تقابلت مع إسماعيل ياسين صدفة فى صيدلية فى محطة الرمل بالإسكندرية وأول ما شافت إسماعيل خدت بالها إنه كان لسه بيوزن نفسه قالت له: ها يا سمعة وزنك طلع كام كيلو؟
قالها: طلع 78 كيلو قالتله: مش معقول.. أكيد وزنت نفسك من غير بؤقك..!
أصابت إفيهات أم كلثوم الملحن الكبير بليغ حمدى كثيرا، لكن أكثر طرائفه ما يرويه الشاعر، عبد الوهاب محمد، ففى إحدى المرات، وقت تلحين أغنية «ظلمنا الحُب»، من كلماته وألحان بليغ حمدى، اشترى بليغ وقتها سيارة صغيرة وأخذ صديقه الشاعر، وذهبا إلى الست لتسمع آخر ما توصل لهُ بليغ . لاحظت أم كلثوم أن بليغ يلعب بميدالية المفاتيح بشكل لافت، وعلى وجهه علامات الابتهاج، فبادرته قائلة: «مالك يا بليغ؟»، قال: «مش أنا اشتريت عربية»، فردّت قائلة: «ألف مبروك، هى فين؟»، فأشار لها قائلاً: «تحت»، قامت أم كلثوم ونظرت على سيارة بليغ من النافذة، لتجد سيارة صغيرة إلى درجة لافتة، فمالت إلى بليغ وقالت: «حلوة يا ابنى، مطلعتهاش معاك ليه...!!»
موقف آخر وبعد غناء الست أغنية «بعيد عنك» وكانت أكثر أغنية معبرة عن قصة حب وفراق الموسيقار الراحل بليغ حمدى والفنانة الراحلة وردة الجزائرية. أدركت أم كلثوم بذكائها سر جمال اللحن وإبداع بليغ وسمعت ما تردد عن قصة حبه لوردة.. فقالت له «انت عاملنى كوبرى ياواد عشان توصل الرسالة لحبيبتك».
اشتهر سيد مكاوى وكوكب الشرق أم كلثوم بخفة دم غير عادية وإلقاء نكات تلقائية تصيب من حولهما بهستيريا ضحك، وأشهر ما رواه عنها الفنان سيد مكاوى، عن خفة دمها، حيث قال: أثناء قيامه بتلحين أغنية «يا مسهرنى»، طلبت منه تعديل إحدى الجمل الموسيقية، فرد عليها.. أما نشوف يا ست.. ولاحقته.. وهى تهز رأسها.. يبقى عمرك ما هتعدلها يا سيد.. وضحك سيد مكاوي، وكاد أن يغشى عليه من كثرة الضحك.
وذات مرة أثناء البروفات تأخر الشيخ سيد فاعتذر للست مبررا سبب تأخيره: «كنت جاي سايق فى» الإشارات».
وتذكر السفيرة إيناس مكاوي، كريمة الموسيقار الراحل سيد مكاوى، إن أغنية «يا مسهرنى» التى قدمتها كوكب الشرق أم كلثوم فى 1972 لم تكن اللقاء الأول بينها ووالدها، وقالت خلال لقاء تليفزيونى أن أم كلثوم هاتفت والدها حتى يلحن لها أغنية «أنساك» التى قدمتها فى 1962، فقام بتلحين المقدمة ثم سألها هاخد كام على اللحن ده، قالت له: «يكفيك فخرًا أنك هتلحن لأم كلثوم»، قال لها لا مش هيكفينى لأن البقال اللى تحت بيتنا مش هيكفيه فخرًا أنى أشترى منه».
وذات مرة كانت أم كلثوم تهبط السلالم مع الشيخ سيد وفجأة أحس أن خطوتها اختلت فقالها «فيه إيه «قالت له» النور قطع» قال لها «طيب سيبينى أنا أسندك بقى».
وفى أحد الأيام دعاها الكاتب الساخر، جليل البندارى، كى تشدو بإحدى أغنياتها بمناسبة عيد ميلاده، وكان يقيم فى عمارة تواجه حديقة الحيوان بالجيزة، حيث كان مدخل الوصول إلى شقته طويلا، وجعل من هذا المدخل متحفا خاصا به، ولنجوم الفن، والأدب، والغناء، فقد ملأ الأرفف الرخامية بأنواع من الحيوانات المصنوعة من الخزف، والفرو، والخشب، ووضع فوق كل منها لوحة خطية تشير إلى أحد نجوم المجتمع، والمشاهير.
بداية بعبدالحليم حافظ (الحمار الوحشي المخطط)، ومحمد عبدالوهاب (الأسد)، وحسام الدين مصطفى (القرد)، ومحمد الكحلاوي (الديك)، وفريد الأطرش (الضفدع)، وكمال الطويل (الجمل)، وأم كلثوم (الكروان)، وصلاح جاهين (الحوت)، وهند رستم (سمكة القرش).
وأثناء حضور حشد كبير من أهل الفن، والأدب، والذين علت وجوههم الدهشة، من تصرف الكاتب جليل البندارى، إلا أن عبدالحليم حافظ وما إن وقعت عيناه على اسمه موضوعا فوق الحمار الوحشى، أخذ يسأله فى غضب، وضجر، ما معنى هذا يا أستاذ جليل؟ وقبل أن ينطق البندارى بكلمة واحدة، لاحقته أم كلثوم قائلة: وهى تبتسم.. معناه.. إن سيماهم فى وجوههم يا سى عبدالحليم، وانفجر الجميع فى الضحك حتى دمعت عيون البعض، وعلت حمرة الخجل وجه حليم، وهم بالانصراف، معلنا غضبه، فما كان من أم كلثوم إلا أن أمسكت به من ذراعه وقالت: خلاص متزعلش كده.. تعالى بقى نهق لنا شوية، لم يتمالك حليم نفسه، وسقط على الأرض من كثرة الضحك، وسط تصفيق، وقهقهات الجميع.
كان لأم كلثوم جار ثقيل الظل، بارع فى فرض نفسه عليها، لدرجة أنه طلب منها فى إحدى المرات أن يرتشف معها قهوة الصباح، وأخرى ليحتسى شاى الخامسة مساءً، وذات يوم وبينما كان يؤانسها بطلعته البهية، إذا بمجموعة من الضيوف تصل إلى المنزل، وتبدأ ثومة فى تعريف جميع الأطراف بعضهم ببعض، أستاذ فُلان، أستاذ علان، وحين جاء الدور عليه، قالت أم كلثوم على هذا الجار مازحة: «ده بقى جَرثومة "-أى جار ثومة-
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة