ما زلنا مع بعض أشهر الأكاذيب التاريخية والرد عليها.. فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة من المقالات.
17 المرأة قبل الإسلام كانت مهانة
من أشهر الأكاذيب عن التاريخ العربى قبل الإسلام أن المرأة كانت مجرد «شىء» يباع ويشترى، لا مكانة لها ولا قيمة سوى كونها مصدرا للمتعة الجنسية ووعاء للإنجاب.
الحقيقة هى أن الإسلام قد احترم المرأة وعزز من مكانتها- وأنا أتحدث هنا عن الإسلام وليس ما يحاول المتشددون والمتطرفون إقناعنا بأنه الإسلام- ولكن هذا لا يعنى صحة تلك الصورة الغريبة التى يروج لها البعض.
فأولا، ينبغى أن أشير لأن الإساءة للمرأة عادة ما كانت تصدر عن رعاع القوم وأولئك الذين لا أخلاق لهم، وليس عن عقلائهم وأصحاب الشرف فيهم، وكان متمثلًا فى ممارستين:
الأولى كانت قيام ابن المتوفى بالزواج من أرملة أبيه عنوة، وحبسه إياها ومساومتها على حريتها مقابل تنازلها له عن نصيبها فى إرث أبيه أو استمرار مضايقتها حتى تموت فيرثها هو.
كان العرب قبل الإسلام يمتعضون من تلك الممارسة ويسمونها «زواج المقت»، ويرون فيها انعداما للمروءة، فلما جاء الإسلام حرمه، لما فيه من إكراه ولأكل الحقوق بالباطل.
والممارسة الثانية كانت الوأد، أى دفن الرضيعة وهى حية، والقصة الشائعة غير المؤكدة تُرجِع ذلك لسيد إحدى القبائل العربية، الذى أسر أعداءه بعض نساء قبيلته، فلما استشفع فى إطلاقهن وخُيِرَت كل منهن بين أهلها وأسرها، اختارت ابنته أن تبقى مع آسرها «ولا تذكر القصة سببها لذلك»، فأقسم أن يدفن كل أنثى تولد له وهى حية.
وبغض النظر عن تلك القصة ونصيبها من الحقيقة، فإن عادة الوأد-وقتل الأبناء بشكل عام- كانت مقصورة على الفقراء والطبقة الأدنى شأنًا، ولم تكن لأسباب مرتبطة بالنوع، ذكر أم أنثى، بل كانت مرتبطة بالضعفاء ومن لا يمثلون طاقة بشرية نافعة، فكان بعض الآباء من تلك الطبقات يقتلون المولود المعاق والمشوه والطفل المريض بشكل مزمن وضعيف البنية، وهذا لأنه كان بالنسبة للفقير يمثل فمًا يطلب الطعام وذراعا لا تنفع بالقوة، وهو ما يوصف بقتل الأبناء خشية إملاق.
ولذلك كان عقلاء العرب يسارعون لإنقاذ هؤلاء الأطفال المساكين ويقولون للأب: «لا تقتله/تقتلها، أنا أكفيك نفقته/نفقتها».
وأما عن مكانة المرأة فى المجتمع العربى قبل الإسلام، فلم تكن بالمهمشة ولا المهمَلة، فأول ذكر للعرب فى وثيقة تاريخية ترجع للقرن التاسع قبل الميلاد، تضمن ذكر قتالهم ضد الأشوريين تحت قيادة ملكتين عربيتين هما شمس وزبيبة.. وقد حكمت ملكات عربيات مثل بلقيس فى اليمن وزنوبيا فى تَدمُر بسوريا، وشاركت كل من الملكتين شقيلة «التى لعبت السيدة فيروز دورها فى مسرحية پترا» وجميلة، وزوجيهما الحكم فى مملكة الأنباط فى الأردن.
واشتهرت النساء بأنهن يعلقن فى بيوتهن سيوفًا لعشرات الرجال كلهم من محارمهن، علامة على العزة والمنعة، أو أنهن يشاركن الرجال القتال والحشد، كهند بنت عتبة قبل إسلامها، واشتغلت بعضهن بالتجارة وأثرت منها وزاحمت الرجال فيها، كأم المؤمنين السيدة خديجة، وكانت بعض النساء يشترطن على الرجال عند الزواج أن يكون أمرها بيدها، فإن شاءت طلقت نفسها منه.
فكل ذلك يتعارض مع الصورة النمطية الشائعة عن المرأة العربية قبل الإسلام.
18 عمر بن عبدالعزيز يستجوب قاتله
فى بعض كتب التاريخ نرى مشهدًا غريبًا، الخليفة الأموى الثامن-والملقب «خامس الخلفاء الراشدين»- عمر بن عبدالعزيز، راقدًا فى فراشه يحتضر إثر وعكة طارئة، يستدعى خادمه ويطلب أن يغادر الجميع الغرفة ما عدا كلك الخادم، الذى يسأله عمر إن كان قد وضع له السم، فيعترف الخادم بأنه بالفعل قد وضع السم للخليفة الذى يسأله عمن أمره بذلك، فيقر الخادم بأن بعض أمراء بنى أمية قد رشوه بمبلغ من المال مقابل أن يضع له السم، فيطلب منه الخليفة كيس النقود الذى أعطوه إياه، ويأمر بوضعه فى بيت المال، ثم ينصح الخادم بالفرار كيلا ينكشف أمره فيهلك.
أصف ذلك المشهد بالغريب لسبب أراه واضحًا، نحن أمام حوار دار بين قاتل ومقتول فى غرفة مغلقة غادرها أحدهما هاربًا وتركها الآخر ميتًا، فمن نقل عنهما ذلك الحوار؟
إن كان الاتهام الحائم حول بنى أمية أن بعضهم قد دبر اغتيال عمر بن عبدالعزيز بالسم يحمل بعض المنطق، لحدة من تسلطهم وانتقاصه من مخصصاتهم، فإن قصة استجواب الخليفة لقاتله غريبة.. فهل خاطر الخادم بسلامته وباح للبعض بسره مع علمه بانتشار عيون وآذان الحكام فى كل مكان؟ وهل يخاطر كذلك بنقمة الناس عليه لقتله خليفتهم المحبوب؟ ولو فرضنا بوحه بالسر لبعض أهل بيته.. هل يفشى هؤلاء السر ويحملون أنفسهم عار جريمة أبيهم؟
بل وثمة تساؤل آخر: فخدم الخليفة عمر بن عبدالعزيز كان عددهم محدودًا، فلو فرضنا أن أحدهم قد اختفى فجأة، ولا بد أنه سيرحل حاملًا أهل بيته، وهذا أمر يصعب إخفاؤه، أفلم يكن ذلك ليثير الشكوك؟ وهل كان كبار رجاله ليسكتوا عن ذلك؟
أنا لا استبعد الشبهة الجنائية فى وفاة عمر بن عبدالعزيز، ولكن تأييدها بهذه القصة لا يصح لهشاشتها الواضخة.
ختام..
لماذا يؤلف الناس هذه الأكاذيب ويصدقونها؟
لتلك العادة أسباب عدة، بين من يهوون إضافة «التوابل» على القصة لتحمل مزيدًا من الإثارة بغض النظر عن مصداقيتها، ومن يسعون لملء فراغات الأحداث بما «يرونه» مناسبًا تقبله عقولهم بغض النظر عن نصيبه من الدقة التاريخية، لرفضهم ما قد يعترى بعض أحداث التاريخ من غموض، ومن يحاولون لَى عنق التاريخ لخدمة أفكارهم ومواقفهم، سواء كانت سياسية أو دينية، ومن اتخذوا القصص الشعبية والأدب والدراما مصادرًا لمعارفهم دون تمييز.. فبين ألسنة وأقلام كل هؤلاء تولد الأكاذيب ويُهدَر دم الحقيقة.. على أية حال، فإن تلك السلسلة من المقالات هى بمثابة دعوة لإعادة النظر باستمرار فى قناعاتنا التاريخية، و«غربلتها» من تلك الشوائب.
تم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة