بيشوى رمزى

مقامرات ترامب.. والبحث عن "سابقة" دولية

الخميس، 27 فبراير 2025 10:37 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تأثير كبير يتركه "العرف" على العلاقات بين أعضاء المجتمع الدولي، تتساوى في أهميتها مع قواعد القانون الحاكم بين الدول، حال التكرار أو تواتر صيغة معينة، وهو ما يعكس أهميته الكبيرة، ربما على عكس قوانين الداخل، والتي لا يطغى عليها الصيغ العرفية، إلا بصورة محدودة، وهو الأمر الذي يبدو من الأهمية الإشارة إليه في اللحظة الراهنة، في تاريخ العالم، في ظل نزعة متصاعدة إلى إرساء قواعد جديدة، في ظل حالة من المخاض يشهدها النظام الدولي، تضع مصيره على المحك، بين تغيير محتمل، قد يكون جذريا أو انتقاليا، خاصة بعد عودة الرئيس دونالد ترامب إلى عرش البيت الأبيض، ورغبته الملحة في استعادة مكانة واشنطن كقوى مهيمنة، بعدما تراجعت مكانتها خلال سنوات، صعدت فيها قوى أخرى، باتت لديها القدرة على مزاحمة نفوذ واشنطن على عرش النظام الدولي.


رؤية ترامب لاستعادة الهيمنة، لا تقوم على تركيع الخصوم، بل في واقع الأمر على ترويض الحلفاء، كمرحلة أولية، حيث يرى أن تراجع دور واشنطن يرجع في المقام الأول، ليس في صعود روسيا والصين، وإنما في الدور الكبير الذي بات يلعبه شركائه في أوروبا الغربية، بالإضافة إلى تمرد بعضهم، والذي وإن لم يطغى بالكامل على الدور الأمريكي، ولكن على الأٌقل ساهم في إضعاف الكتلة الداعمة للولايات المتحدة، وهو ما يعكس سياسات الولاية الأولى للرئيس الأمريكي الحالي، والذي سعى إلى تفكيك أوروبا الموحدة، كخطوة أولى وتمهيدية لخطوات أخرى، تبدو إرهاصاتها فيما يتعلق بما أثاره حول سياسات الضم، والتي لم تقتصر على أوروبا، في إطار العرض الذي تقدم به لشراء جزيرة "جرينلاند"، وإنما امتدت إلى مناطق أخرى، منها كندا وقطاع غزة.


ولعل الملاحظة الجديرة بالاهتمام، هي أن عروض ترامب لضم أرض لتخضع للسيادة الأمريكية، ارتكزت بقدر ما على تعانيه الدول التي تخضع لها تلك الأراضي من هشاشة، بدرجات متباينة، فكندا على سبيل المثال تتمتع بمزايا أمريكية كبيرة، وستعاني كثيرا على الصعيد الاقتصادي حال الحرمان منها، بينما جزيرة جرينلاند فهي تحظى بحكم ذاتي، وقد تنال الاستقلال عن الدنمارك، في حين يبقى لغزة وضعها الخاص، فهي تخضع لدولة فلسطين المحتلة، وتبقى أكثر مناطق العالم هشاشة، في ظل ما تشهده من دمار كبير، جراء العدوان الوحشي الذي أطلقته إسرائيل لـ15 شهرا كاملة، ل ليصبح مقترح ترامب بضمها إلى السيادة الأمريكية، من وجهة نظره، بمثابة الحل العبقري للأزمة، فمن خلاله يمكن استرضاء العرب، عبر حرمان الاحتلال من السيطرة عليها، بينما يسترضي حليفه المدلل بتهجير سكانها.


الرؤية نفسه تنطبق بصورة ما على مقترحه بشأن جرينلاند، فهناك نزعة متصاعدة للاستقلال عن الدنمارك، ليصبح مقترحه بمثابة "حل وسط" بين تلك النزعة الاستقلالية، من جانب، والبقاء تحت سيادة كوبنهاجن


وبعيدا عن الحالة الدنماركية، في ضوء أن ما يشغلنا بالأكثر ما يتعلق بقطاع غزة، نجد أن الرئيس الأمريكي قد يرى في مقترحه بشأن ضم غزة تحت السيادة الأمريكية حلا عبقريا، وهو محق في ذلك، إن كان الحديث بمنهج رجال الأعمال أو في إطار تجاري، ولكن من منطلق الثوابت السياسية، فهي بعيدة كل البعد عن الواقع، خاصة إذا ما نظرنا إلى الحقائق المجردة الثابتة المترسخة في الأذهان منذ عقود طويلة من الزمن، ليس فقط على النطاق الإقليمي الضيق، وإنما في إطار دولي أوسع نطاقا، فالشرعية الدولية التي ارتضاها القانون الدولي تتجلى في أن الحل الوحيد للصراع العربي الإسرائيلي يتجسد في حل الدولتين، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، على حدود الرابع من يونيو 1967، والتي تتضمن الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس الشرقية.


رؤية ترامب بشأن غزة، في واقع الأمر، ليست مجرد مقترح خالص لحل الأزمة في الشرق الأوسط، وإنما هي امتداد لمقترحاته الأخرى في أوروبا وكندا، والتي تفتقد هي الأخرى للواقعية السياسية، وإن كانت كاشفة عن عقلية رجل أعمال، في ضوء رسوخ منهج السيادة، والذي يبدو واضحا بالنظر إلى ما أشرت إليه في السطور الماضية، حول نزعات الاستقلال عن الدنمارك، لدى سكان جرينلاند بحثا عن السيادة، وهو ما يصب في مجمله في رغبته الملحة في تحقيق سابقة، يمكن من خلالها بناء أعراف دولية جديدة، من شأنها التحول إلى قواعد في إطار القانون الدولي.


ولعل الهدف الرئيسي من وراء مساعي ترامب، ليس حل الأزمات، وفي القلب منها أزمة الشرق الأوسط، وإنما استعادة المكانة الأمريكية، التي يراها تآكلت بصعود نفوذ الحلفاء، وبالتالي يصبح تركيعهم أولوية قصوى، ليس بمجرد حرمانهم من المزايا التي طالما منحتها لهم واشنطن، وإنما أيضا من خلال تجريدهم من سيادتهم تدريجيا، في إطار ناعم عبر صفقات بيع وشراء، وبعيدا عن استخدام القوة العسكرية، لضمان دورانهم المطلق في الفلك الأمريكي ودون مقابل.


وهنا يمكننا القول بأن مقترحات ضم الأراضي التي قدمها ترامب، منذ بداية ولايته، هي مجرد محاولة لتحقيق سابقة دولية، يمكن البناء عليها، وبالتالي فإن مسألة غزة وضمها للسيادة الأمريكية مجرد مقامرة ضمن مراهنات أخرى، وليست معركة تخوضها واشنطن، يمكن من أجلها أن تخسر علاقتها بالقوى الإقليمية المؤثرة في المنطقة،  وهو ما يعكس إبدائه قدرا من الانفتاح على المقترحات الأخرى، والتي ينتظر أن تضع القمة العربية الطارئة المقبلة في القاهرة، والمقررة في الشهر المقبل أطرها.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة