بيشوى رمزى

معضلة الحلفاء.. أوروبا نموذجا

الأحد، 23 فبراير 2025 02:17 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

على الرغم من الارتباط الوثيق بين مفهومي السيادة ووحدة أراضي الدولة، إلا أن مقترحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة أثارت الكثير من الجدل، في كل منهما على حدة، وهو ما بدا في مقترحه على سبيل المثال في مسألة ضم كندا لتكون الولاية الحادية والخمسين، فهو وإن كان يتعارض مع مفهوم السيادة، إلا أنه، حال ضمها، ستحتفظ الدولة الجديدة (أمريكا ذات الـ51 ولاية) بوحدة أراضيها، باعتبارها مرتبطان بحدود مباشرة، بينما يبقى الأمر مختلفا، في مقترحاته الأخرى، سواء المتعلقة بجزيرة جرينلاند، والتي عرض شرائها، أو مؤخرا في قطاع غزة، فنجد أنهما يبتعدان جغرافيا عن واشنطن، وبالتالي فتمثل كلا منهما ضربا للمفهومين معا، وتمثل عودة ناعمة لفكرة الاستعمار، الذي عافى عليه الزمن.

وبعيدا عن فكرة الأطماع الإمبراطورية التي تبقى في مخيلة ترامب، والمخاطر الكبيرة المترتبة عليها، وقد تناولتها في مقال سابق، تبدو الأمور ليست بالجديدة تماما، فقد حملت إرهاصات، يعود بعضها إلى عقود ماضية، خاصة في أوروبا، مع تأسيس الاتحاد الأوروبي، مع بداية التسعينات من القرن الماضي، والذي ساهم في انتزاع الكثير من سيادة الدول الأعضاء، لصالح أوروبا الموحدة، وهو ما يبدو في العديد من المبادئ، وأهمها الحدود المفتوحة، ومواقف سياسية واقتصادية موحدة، دارت في معظمها، إن لم يكن كلها، في فلك واشنطن، لتتحول القارة بأسرها، أشبه بأداة تستخدمها القوى العظمى لإضفاء الشرعية على قراراتها ومواقفها، بل ومقامراتها العسكرية، على غرار الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان مع بداية الألفية.

المشهد الأوروبي، والذي نركز عليه باعتباره الكتلة الأكبر والأكثر نفوذا بين حلفاء الولايات المتحدة خلال العقود الثلاثة الماضية، ساهم بجلاء في إذابة سيادة الدول، في كيان الاتحاد، من جانب، في حين أذاب الاتحاد في خدمة ما يسمى بـ"المعسكر الغربي"، وقيادته وهي الولايات المتحدة، من جانب آخر، فتحول التحالف التاريخي، من مجرد علاقة مصالح بين عدة دول، إلى كيان ثالث أشبه بالدولة، تمتلك سلطتها التنفيذية، ومقرها واشنطن، بينما أوروبا الموحدة بمثابة البرلمان، الذي يعزز القرارات الأمريكية، خاصة إذا ما استعصت على التمرير من قبل مجلس الأمن، والذي يعد السلطة الدولية المخولة لإضفاء الشرعية في كل ما يخص القرارات الدولية.

معضلة الاتحاد الأوروبي في الحقيقة، تبدو في عدم قدرته على الاحتفاظ بسيادة دوله بصورتها الكاملة، بينما لم يحظى بها هو نفسه، فلم يخلق كيانا موازيا للدولة، يمكننا أن نطلق عليه "الولايات المتحدة الأوروبية"، في حين ساهم في تقويض القوى القارية الكبرى، التي تحولت إلى مجرد أبواق تهتف لصالح واشنطن.

بينما تعود إرهاصات أخرى في ولاية ترامب الأولى في البيت الأبيض، عندما سعى إلى تفكيك أوروبا الموحدة، عبر تشجيع بريطانيا على الانفصال، ناهيك عن تقديم الدعم الصريح لتيارات اليمين المتطرف في دول القارة، فيما يمثل تدخلا صريحا في شؤون الدول، في إطار محاولة لترويض الحلفاء، وفرض السطوة الأمريكية المطلقة، دون منح أي قدر من الاستقلالية أو الشراكة للحلفاء في عملية اتخاذ القرار المرتبطة بدول المعسكر الغربي، ناهيك عن التهديد المتواتر بالانسحاب من الناتو وغير ذلك من السياسات التي من شأنها تهديد مصالح القارة، لتصبح خطوة السيطرة على جرينلاند، هي بمثابة امتداد طبيعي لتلك السياسات في مجملها.

وعلى الرغم من خروج ترامب من البيت الأبيض، قبل أربعة سنوات، إلا أن دول القارة لم تتخذ منحى آخر، ربما بسبب استبعادهم لاحتمال عودة الرجل مجددا إلى صدارة المشهد، في الوقت الذي هادنت فيه إدارة جو بايدن الحلفاء، وإن كانت لم تتمكن من استعادة الأمور إلى ما كانت عليه في مرحلة ما قبل ترامب.

ولعل الخطر الذي يداهم أوروبا، في اللحظة الراهنة، أكبر بكثير، إذا ما قورن بالوضع قبل سنوات، في ضوء معطيات عدة، منها دخول القارة في دائرة الصراع العسكري، جراء الأزمة الأوكرانية، ناهيك عن المهادنة الأمريكية لموسكو، والقبول الصريح لفكرة احتفاظ الأخيرة بما ضمته من أراض في أوكرانيا، وهو ما يحمل في طياته خدمة رؤية الضم التي يتبناها سيد البيت الأبيض، وإضفاء الشرعية لها، عبر تحقيق سابقة، يمكن البناء عليها في المستقبل.

خطورة اللحظة الحالية بالنسبة لأوروبا تتجلى على مسارين متوازيين أولهما بزوغ أطماع واشنطن في أراضي الحلفاء، بينما يقوم المسار الآخر على المخاوف الكبيرة تجاه الخصم التاريخي وهو روسيا، والذي يرونه جيرانه الأوروبيين مازال حاملا للأحلام الإمبراطورية القديمة والتي انهارت، ربما مرحليا مع نهاية الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفيتي، والذي لم يملأ الفراغ الناجم عنه صورة الاتحاد الذي دشنته أوروبا في ضوء حالة التبعية المطلقة التي انتابتها طيلة العقود الثلاثة الماضية.

ولعل المخرج أمام أوروبا، في مواجهة المخاطر التي تواجهها تتجلى في بناء استقلاليتها، عبر قرارات نابعة من الداخل، يمكن من خلالها مواجهة الهيمنة، لتتحول القارة من مجرد تابع للقوى الكبرى، إلى منافس، يرتبط بشراكات مع كافة أطراف المعادلة الدولية الأخرى، بعيدا عن صيغة التحالف التقليدية، وهو ما يمكن أن يتحقق من خلال تبني مواقف سياسية موحدة ومستقلى، تجاه العديد من القضايا التي تحظى بزخم كبير على المستوى الدولي، ومنها بالطبع القضية الفلسطينية.

وهنا يمكننا القول بأن أوروبا، وربما معها حلفاء أمريكا الآخرين، في حاجة ملحة إلى تبني مواقف موحدة تتسم باستقلاليتها، تعبر عن هويتهم، وتعكس مصداقيتهم أمام المجتمع الدولي، يمكن من خلالها بناء الثقة ومن ثم شراكات، تعتمد مبادئ المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، في إطار القضايا الدولية، لحمايتهم من أقرب حلفائهم، في المرحلة المقبلة.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة