الوجه الآخر للأستاذ هيكل -الذى تمر 9 سنوات على رحيله هذا الشهر- لا يقل بأية حال من الأحوال إثارة ودهشة عن الوجه المعتاد الذى عرفناه عنه بالقراءة والمتابعة ثم المشاهدة واللقاءات السريعة وحتى وقت رحيله.
الأستاذ ظل طوال مسيرته لا يسمح إلا بالنذر اليسير من المعلومات عن حياته الشخصية الذى رآها ملك لصاحبها فقط أو "الوجه الآخر" بعيدا عن السياسة والمعارك الصحفية.
ربما فى آخر سنوات عمره بدا مرحبا لعدد قليل من أصدقائه وتلامذته للاقتراب من تلك المساحة الشخصية، وهو ما ظهر فى كتابات الأساتذة عبد الله السناوى ويوسف القعيد وعادل حمودة.
لكن لم تك كافة الجوانب الأخرى المثيرة فى حياة الأستاذ غير معروفة أو ما زال ممنوع الاقتراب ولم يجتهد أحد فى التنقيب عنها والبحث فيها. كان الأستاذ هيكل يبدو لعدد ليس بالقليل من متابعيه وتلامذته وعشاقه شاعرا وأديبا أقرب منه إلى الصحفى والمحلل السياسى البارز.
الأدب بصورة عامة والشعر بشكل خاص شغل مساحة ليست بالبسيطة أو القليلة فى تربية الأستاذ هيكل وتكوينه الأدبى والسياسى فيما بعد وكيف جاءت لغته فى التحليل السياسى شفيفة ورقيقة وبعبارات أدبية غاية فى الرشاقة والدقة بحيث لا تحيد عن المعنى السياسى ولا تغوص فى بحار الأدب والشعر.
فى حواراته وكتاباته كان شغوفا بالشعر وبتلخيص ما شرحه وفسره طوال ساعة من الزمن فى بيت شعر من الشعر الجاهلى أو الحديث وهى الأبيات التى أحيت قصائدها وأصحابها ومازلنا نحفظها ونرددها ومن ينسى بيت الشعر لقصيدة عمرو بن الأهتم "لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها لكن أخلاق الرجال تضيق" كدليل على ضيق الأفق وغياب الحلم والإرادة لدى من يحكمون.
بحثت كثيرا عن شغف هيكل بالشعر قبل كتابة الموضوع وقبل أن تتسع الفكرة لتتحول إلى كتاب عن "هيكل.. الوجه الآخر". كان حريصاً بشكل كبير على أن يدرب ذاكرته يومياً سواء بحفظ الأبيات الشعرية أو بحفظ آيات من القرآن الكريم ولم يكن يلجأ إلى التدوين كثيراً، وهذا ما ساعده فى يقظة عقله وكان السبب الرئيسى فى قوة ذاكرته طوال أكثر من تسعين عاما.
دائم الحفظ لأبيات الشعر حيث كان يحفظ 10 آلاف بيت شعر من الشعر العربى القديم والحديث خاصة لـ«المتنبي» و«شوقي» للشعراء الانجليز مثل شكسبير، وكان يرددها بشكل مستمر ويواظب على حفظ المزيد لتنشيط ذاكرته ويستعيدها فى أحاديثه العادية "كأنه يتنفسها" فكانت النتيجة أنه احتفظ بقدرات عقلية هائلة واستثنائية حتى اللحظات الأخيرة من وفاته.
يحكى هيكل عن تجربته الشعرية المبكرة مع "بنت الجيران".. كتبت لها أشعارا.. فقد كانت تلبس فستانا أسود وتقف فى البلكونة وكنا نسكن وقتها فى العباسية وكنت أقف أمامها فى شرفة منزلنا ثم دخلت البنت وغيرت الفستان الأسود بفستان أحمر فأرسلت لها ورقة مع الخادمة عليها بعض الشعر أقول فيه..
ماذا بقلبك يا حسناء من وجد يضطرب
أحال الفحمة السوداء إلى حمراء تلتهب
... وقعت الورقة فى يد أمها وحدث ما حدث. علمت أمى وعنفتنى كثيراً، لأن والدة البنت اشتكت لها من أنى أكتب أشعاراً لابنتها، فقررت أن أقلع تماما عن الشعر، ولم تكن هذه الورقة أول أشعارى، فقد كتبت قبلها العديد من الأشعار دونتها جميعاً فى كراسة ولا أعلم الآن أين هى هذه الكراسة وسط كل أوراقى وكتبي
فى سنوات التكوين الأولى بالمدارس الابتدائية تتلمذ على يد شاعر كبير هو «على الجارم»، ساعدته تلك المصادفة على تنمية ذائقته الشعرية. كان قريبا من الأدب والشعر والمسرح، ولم تخطر الصحافة على باله فى البدايات فكما قال "فأنا شاعر مقموع".
تجربته الشعرية فى حب بنت الجيران لم تثنيه عن عشقه الكبير للشعر والشعراء. كان يرى أن افتتانه بالمتنبى وشوقى يرجع إلى أنهما الأقرب للسياسة، فالمتنبى كان سياسياً بصرف النظر عن أى شيء آخر، وشوقى تنطبق عليه نفس القاعدة، بل إنه كان يزور الخديوى ويجالسه فى حديقة القصر ورغم علاقته الخديوى عباس ومدحه له وتعلقه بأسرة محمد على فقد كان شوقى لسان حال كل القضايا الوطنية . فقد واكب بأشعاره كل مراحل الحركة الوطنية المصرية التى حدثت فى حياته، كما أن شعر شوقى يتفرد بتلك المطالع المبهرة.
وبعيدا عن المتنبى وشوقى فقد كان الأستاذ معجبا جداً بأشعار بشار بن برد ذلك الأعمى الذى وصف الجيش وهو يخوض فى مستنقع كما لم يصفه الشعراء المبصرون حيث يقول:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فى العصر الحديث كان أقرب أصدقائه من الشعراء نزار قبانى ومحمود درويش مع اختلاف التجربة الشعرية تجربة كليهما تماما عن المتنبى وشوقى وأيضاً طريقة التناول، كما أن نزار ودرويش يكتبان الشعر بإيقاع حداثى، والشعر هو الكلام الذى يعبر عن الشعور وتستطيع أن ترويه وتحفظه، وبعيداً عن نزار ودرويش وكل الشعراء الكبار فإن الانتقال إلى الشعر الحديث أثّر كثيراً فى الشعر عند الناس، فلا يوجد مثلا إنسان يستطيع أن يحفظ هذا الشعر الحديث ويردده، ولكن الشعر العمودى التقليدى مليء بالموسيقى، مما يجعله أسهل فى الحفظ والترديد، وقد فطن نزار إلى ذلك فتوسع كثيراً فى تقديم قصائده إلى المطربين والملحنين حتى يضمن سرعة انتشار أشعاره.
ويقول عن صديقه محمود درويش: "كنت أتابع أشعاره وهو موجود فى فلسطين تحت حصار الاحتلال، وكانت تصلنا أشعاره وصداها، ورغم ذلك تواصلنا، فقد كان ينظر لى باعتبارى قارئاً حراً أعيش فى عالم طليق وحر، بينما هو محبوس فى قفص الاحتلال . وقد كنت أحد أطراف عملية الترتيب لعدم عودة درويش إلى فلسطين مرة أخرى ليصبح أكثر حرية بعيدا عن الاحتلال، وحدث ذلك عندما كان درويش ضمن وفد فلسطينى يزور موسكو، وكنت ضمن وفد مصرى فى موسكو فى نفس الوقت، وأخذنا درويش إلى السفارة المصرية فى موسكو، وعاد الوفد الفلسطينى إلى الأرض المحتلة، ومن موسكو جاء درويش إلى القاهرة لينطلق بعدها يغرد بأشعاره فى كل العالم، وكان درويش قبل هذا يقرأ مقالاتى ويستمع إليها من إذاعة صوت العرب، وربطت بيننا صداقة الثقافة ثم الصداقة الإنسانية الأرحب، وأذكر أن الدور الأكبر لعملية تهريب درويش من موسكو إلى القاهرة كان للسفير مراد غالب سفير مصر فى موسكو . وكان درويش قبل ذلك يرسل قصائده إلى ويكتب عليها إن القصيدة لا تكتسب شرعيتها إلا بعد قراءتك لها.
ويرى الأستاذ أن سميح القاسم قد يكون أقوى شعرياً من محمود درويش، ولكن سميح آثر أن يظل طول الوقت تحت سلطة الاحتلال، بعكس درويش الذى انطلق إلى العالم الخارجى، فأضفت الحرية الكثير من الحيوية على أشعاره، وأعطته قدرة أكبر على التواصل مع كل العالم، فتفتحت مواهبه أكثر وأكثر والغريب أنه أجاد التعبير عن آلام المحاصرين داخل الأراضى المحتلة ربما بأكثر، مما استطاع المحاصرون أنفسهم، وكل هذا جعل محمود درويش أكثر وجوداً فى الوجدان العربى والعالمى.
أما صلاح جاهين فهو "فنان لا يتكرر"، شاعر، وممثل، وكاتب سينمائى، ورسام كاريكاتير عبقرى، ومثل هذا الفنان كان لابد أن يكون موجوداً فى "الأهرام"، ويكفى أنه رسام الكاريكاتير الوحيد الذى لم يكن يذهب إلى رئيس تحريره للبحث عن أفكار لرسوماته، فقد كان متدفق الأفكار وقادراً على تنفيذ أفكاره بحرفية عالية، وقد هاجمونى كثيراً فى روز اليوسف لأنى أخذت منهم صلاح جاهين.
فى سنوات تكوينه الأساسى تأثر هيكل برجلين لكل منهما شخصية تناقض الآخر، الأول هو «كامل الشناوي» بحياته الصاخبة وطباعه الحلوة والمشاكسة.فى كل يوم قصة حب جديدة وإحباط آخر وقصيدة مبدعة.كان الأستاذ هيكل يبتسم كلما ورد اسم «الشناوي» وتتدفق عليه الذكريات المحببة، ولا يستدعى اسمه فى جلساته الحميمة إلا على النحو الذى كان يخاطبه به: «كمولة».. بينما لا يذكر اسم «محمد التابعي»، ولم تكن هناك حواجز بينهما، إلا مسبوقا بلقب «الأستاذ».
التناقض ما بين شخصيته الانضباطية فى مواقيتها وعملها وتصرفاتها وما بين شخصية «الشناوي» بكل جموحها وعفويتها وليلها الممتد حتى ساعات الفجر سر عمق ذكرياته، فـ«التناقضات تصنع جمال علاقاتها وخصوصيتها.
والثانى هو الدكتور «محمود عزمي» بثقافته الموسوعية وعمق رؤيته، وقد أفضت حواراته المنتظمة معه قبل ثورة يوليو إلى توسيع مدى نظرته إلى حقائق الأشياء والعصور، كان يعتبره: «من بقايا الرعيل الأول لكُتاب مصر العظام». فيما بعد يوليو قدمه إلى الزعيم جمال عبدالناصر، الذى عينه ممثلا دائما لمصر فى الأمم المتحدة وفارق الحياة شهيدا على منبر مجلس الأمن.
صداقته الخاصة مع «الشناوي» تبدو غريبة على صورته النمطية. فـ«الشناوي» أحد الصعاليك العظام فى حياتنا الأدبية والشعرية والسياسية، بينما هو لم يجلس فى حياته على مقهى، رغم أنه ابن منطقة «الحسين»، ولا تعوّد السهر إلى ما بعد التاسعة إلا لظروف طارئة.
"...قلت له يا كمولة يا ريت تسجل ما تقوله على ورق، فالأحاديث الشفهية مهما تكن روعتها وسحرها تنسى مع الوقت ولا يبقى منها شيء".
بروح الفنان البوهيمى كان يحب فكرة الحب ذاتها أكثر من أن تكون شخوصا وقصص حياة.
بدا كل أمله أن يأخذ «الشناوي» منه شيئًا من الانضباط، لكنه لم يتغير. وربما آمل هو أن يأخذ شيئا من حرية أمير الساخرين، لكنه لم يتغير.
كان منضبطا فى علاقاته، فللقاءات قواعد وأصول لا تعرف المفاجآت، أو ضيوفا لا يعرف أنهم قادمون إليه.فوجئ ذات مساء أن «الشناوي» دعا إلى منزله المطربة «فايزة أحمد» على حفل عشاء. طرقت الباب ودخلت إلى صالون البيت، وهو وقرينته لا يعرفان من هى، ليكتشفا بعد عشر دقائق أنها «فايزة أحمد»، وأنها جاءت بدعوة من «الشناوي»، الذى تأخر بالحضور.
آخر ما قدمه الأستاذ هيكل من أشعار هو ديوان الخال عبد الرحمن الأبنودى الأخير "مربعات" حيث قال: "لا يحتاج إلى من يقدمه للناس، لأنه حاضر أمامهم طلعةً وطّلة، وصوتًا هادرًا، وجاذبية مغناطيس يشد ما حوله، ولا يحتاج إلى من يحلل الإنسان فيه، فالخلاصة فى شأن الأبنودى، أنه شراع على النيل جاء من صعيد مصر، مرتحلًا إلى الشمال، حاملًا معه خصب النهر العظيم، ينثره حيث يصل، ويحول الطمى بالفن إلى زهر وورد - وإلى شوك أحياناً، ولا يحتاج إلى من يمهِّد لعمله، فذلك العمل أغنية تتردد صوتاً وصدى فى أرجاء الوطن".
ويقول عن مقدمة المربعات: "حين سألنى «عبدالرحمن الأبنودي» إذا كنت استطيع تقديم مربعاته عندما تنشر على شكل كتاب، فإن طلبه أسعدنى، ليس فقط لأننى كنت أتمنى لهذه المربعات أن تظهر كاملة على شكل كتاب، وإنما سعادتى أن طلبه جاء فرصة متجددة أقرأ فيها المجموعة موصولة ببعضها، بعد أن تابعتها يوما بيوم تنشر متقطعة على صفحات جريدة يومية.هو شاعر عاش وسط الجماهير وهى تحاول بالثورة أن تصنع مستقبلا، وهو لا يغنى لهذا المستقبل من بعيد، وإنما ينشد من وسط الجموع وبلغتها، وهى تتدافع بالزحف أحيانا، وبالتراجع أحيانا أخرى، خطوة بالأمل وخطوة بالإلم، وهى أحيانا صيحة بالفرح تهلل، وفى أحيان أخرى جرح بالوجع مفتوح. والثائر الشاعر فى قلب المعمعان، هو الثائر يوما، وهو الشاعر فى اليوم التالى، هو بالفعل فى الصبح، وهو الضمير فى المساء.
فى لحظاته الأخيرة، لم ينس الشعر أيضا وهو ينازع الروح، فقد أخذ يردد أمام أسرته بعض أبيات شعر تؤكد أنه لا فائدة من معاندة الطبيعة والقدر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة