ما يزال مشهد الإقليم غامضا، وإن اجتهدت عواصمه الكبرى فى إجلاء الصورة، ووضع النقاط على الحروف، وسط واحدة من أعقد الأزمات التى تعيشها القضية الفلسطينية منذ بدايتها؛ لا لأن الاحتلال كان أقل بطشا فى السابق، أو لنزاعات فصائلية من خارج قاموس الانقسام المُعتاد؛ إنما لأن الصراع يُراد تحريفه عن مُرتكزاته الأصلية، وتعريفه على خير حقيقته.
والأصل أن المُشكلة فى الاحتلال، وأن انسداد أُفق التسوية السياسية الباعث الوحيد وراء إنتاج الحروب، وتكرارها على فواصل زمنية مُتقاربة، وتغييب فرص السلام والمساكنة الهادئة فى فلسطين التاريخية. بينما المُستجدّ أن قوّة مُهيمنة تنقل المسألة من الأرض إلى البشر، وبدلاً عن حسمها بترسيم الحدود، تتقدّم إلى شطبها بتحريف الحدود.
وبعيدًا من المُهدِّدات الحاضرة راهنًا؛ فالخطورة وراء الأطروحة الجديدة أنها تقدمة لصرف الأنظار عن جذور المُشكلة، والقفز بها إلى نطاق لن يتوقف عن تخليق الأزمات؛ لأنه لا ينطلق من اعتراف بالحقوق المشروعة، ولا من التسليم بأن إعادتها لأصحابها السبيل الوحيد إلى مُغادرة المتاهة الأبدية.
تلتئم اليوم قمة خماسية فى الرياض، على الطريق إلى القمة العربية الطارئة بالقاهرة الثلاثاء بعد المقبل. ومحورهما التصوّر المصرى محل الإعداد بشأن إعادة إعمار غزة بدون تهجير، بديلاً عن خطة الرئيس الأمريكى لإزاحة السكان والسيطرة على القطاع.
وإذا كانت الأسابيع الأخيرة قد امتلأت صخبًا، وأفرطت واشنطن فى استهلاك حلولها التلفيقية دعائيًّا؛ فإن الحركة الإقليمية الدؤوب قد تمكّنت عمليًّا من كبح الاندفاعة الأمريكية، وترقيم النقاط الحمراء على الخرائط بما يُعسِّر مهمة القفز من فوقها، أو يترك منفذًا مفتوحًا إلى الاستطراد فى الجدل، والاستدراك على الرفض النهائى الحاسم.
والقصد؛ أن صلابة القاهرة طوال الأيام الماضية، أكدت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنها خارج أى مشروع إحلالى يُعيد هندسة الديموغرافيا فى فلسطين التاريخية، ولن تكون شريكًا فى اقتراحات تُذيب القضية، وتُخلّص إسرائيل من محنتها على حساب الآخرين، ناهيك عن التغاضى عن وجوبية إدانتها بجرائم الإبادة والتطهير العرقى.
وإلى ذلك؛ فإنها بدت صارمة فيما يتّصل بأبعاد أمنها القومى، وليس انطلاقا من حُرمة الجغرافيا المصرية فحسب، وهى أصل راسخ لا فصال فيه بالقطع؛ إنما بالعطف أيضًا على أن تفريغ الأرض المُحتلة من أهلها يحمل تهديدًا لا يُمكن التغاضى عنه، بجانب المسؤولية التاريخية والأخلاقية إزاء القضية، وحراستها والذود عنها، أكان فى الأمر مساسا بها أو سِيق من مسار بعيد.
والفكرة؛ أن الإرادة المصرية تنصرف بالإجمال إلى تثبيت الفلسطينيين على أرضهم، واعتبارهم أصلاً طبوغرافيا لا يختلف عن وديان غزة أو تلال الضفة الغربية. أى أنها ترفض التهجير من بابه، عنوانًا ومَتنا، وسواء كان المطروح أن يُزاح الناس إلى سيناء وشرقىّ نهر الأردن، أو أن يُمرّرهم الاحتلال من موانيه ومطاراته إلى منافٍ فى أقاصى الأرض.
وعليه؛ فالخماسية العربية تلتقى اليوم وقد قُطِع الشوط الأصعب فى المُطاردة التى لا تخلو من نزقٍ وعدم استيعاب لجوهر الصراع. ولم يعد الحديث مُثارًا تقريبًا عن خطّة ترامب والتداول فى تفاصيلها؛ إنما عن مُقترح بديلٍ يترقبه البيت الأبيض، وسيُجادل فيه بالضرورة، لكن لن يكون بمقدوره الزعم بأن تصوّره السالف يلقى قبولاً، أو أنه يجأر وحيدًا بالحل فى فراغٍ عميم.
وعناوين المُقاربة المصرية معروفة بالبديهة؛ إذ لا تخرج عن تثبيت الغزيّين فى أماكنهم، وصياغة برنامج زمنى للتعافى المبكر وإعادة الإعمار، مع إنتاج إدارة مدنية فلسطينية تتعهّد اليوم التالى، وتُشرف على مسار الإنقاذ والتأهيل الذى لن يكون قصيرًا أو يسيرًا فى كل الأحوال.
وفى التفاصيل، يُمكن أن يشتمل الطرح على تجهيز مناطق آمنة لاحتواء المتضررين من دمار الحرب، ثمّ تقسيم القطاع إلى نطاقات تتوزّع فيها المهام بمنطق زمنى أو نوعى، بحيث تتدرّج العملية المُتوقّع لها أن تستغرق عدّة سنوات، بما بتقديم حلول مبتكرة وسريعة للمجموع السكّانى العام، جنبًا إلى جنب مع إرساء وترقية معالم المشروع الإحيائى فى مراحله المتلاحقة.
والقمة الخُماسية تأتى مبكرًا عن النسخة العمومية الطارئة لأغراض سياسية واقتصادية واضحة. بمعنى أنها ليست تقسيمًا لحالة الإجماع لدى الكُتلة العربية، بل أقرب إلى التمهيد النيرانى المبكّر، يتبعه انتشار القوات على نطاق أوسع، وقد يؤازره لاحقا سياق أكثر اتساعا عبر منظمة التعاون الإسلامى، بجانب ما يُدار فى القنوات الدبلوماسية لجهة بناء سياق عالمى مُساند للقضية أولا، وللخطة العقلانية المُعدّة من داخل فضاء الصراع.
وفلسفة التكوين فى لقاء اليوم؛ إنما تنبع من الاتصال المباشر بالهم الفلسطينى وما يُطرح من جهة الإدارة الأمريكية، كحال مصر والأردن، بجانب الصلة الوثيقة لقطر مع حركة حماس، وما تلعبه من أدوار ضمن الوساطة الدائرة بشأن وقف إطلاق النار، ثمّ ثِقَل الرياض وأبو ظبى المادى والمعنوى، من جهة علاقاتهما مع واشنطن، ومصالحها الاستراتيجية معهما، وقُدرتهما على حشد الجهود المطلوبة لتمويل خطة التعافى والإنعاش باهظة التكلفة فى القطاع.
والرسالة أن المَعنيِّين المباشرين يرفضون الطرح الأمريكى، ويقدّمون البديل، ولديهم من وسائل تفعيله وضمان تحققه عمليًّا ما يكفى للاطمئنان إلى الخطة المُقترحة. والحاضنة العربية مطلوبة لاعتبارات استراتيجية وجيوسياسية؛ لكنها تُكمل العناصر الأساسية الركينة فى مشهد الاعتراض والاستبدال، وبدلاً من أن يلتحق الجميع بالقافلة كأنهم ينزلون الحلبة أمام ترامب، ستكون الصورة أقرب إلى أنهم يُفاضلون بين تصوّرين، ويدعمون الأوفق منهما.
أى أنها المجال الإقليمى ينظر فى عناصر قوّته، ويفرزها ويعيد ترتيبها، بما يسمح لها بتوظيفها على الوجه الأكمل والأكثر فاعلية. العُمد الأساسية تتقدّم المواجهة اعتراضًا واقتراحا، وبقيّة العائلة تُوفّر المَدد وصيغة الإجماع، وتصنع زخمًا يتلاقى مع الاستهجان الدولى المُتصاعد، ويُشكّل مشهدًا تبدو فيه واشنطن وتل أبيب بمفردهما؛ إزاء فلسطين وحاضنتها القريبة، ومن ورائهم جميعًا تيّار هادر من أرجاء المنطقة والعالم.
والفاصل الزمنى مع القمة العربية الطارئة؛ إنما يترك هامشًا للإدارة الأمريكية أن تُقلّب الصورة على الوجوه كُلّها، وأن تُعيد حساباتها بين ما تعدّه منافع فى أطروحة التهجير، وما تحمله لها رياح الرفض من نُذر خطر ومصابيح حمراء، لا تتّصل بمصالح واشنطن الحيوية فحسب؛ بل تنفتح على خيارات عِدّة تمس السلم والاستقرار فى المنطقة، وتنعكس سلبًا على إسرائيل نفسها؛ من حيث تتوهَّم أنها تُعزّزها بالخيارات القصوى، وتُسلّمها مفاتيح الشرق الأوسط مرّة وإلى الأبد.
وكل ما فات لا يعنى أن الرئيس الجمهورى المُعبّأ بنشوة الفوز إلى الآن، والمأخوذ بحالة أفلام الغرب الأمريكى وبطولات رُعاة البقر، أو استعاراته الإلهامية من توسعات ويليام ماكينلى، وجنون ريتشارد نيكسون فى مفاوضاته، سيتراجع سريعًا عن خياله الذى يتوهّم فيه طاقة إبداعية خلاّقة لتصفية صراع وجودى عتيق؛ لكنه سيصطدم لا محالة بجدار صُلب، لن يكون سهلاً ثقبه أو القفز عليه، فضلا على ما وراء ذلك من إشارات تتصادم مع منطقه النفعى بصيغة الصفقات التجارية المُربحة، ولن يحتاج وقتًا طويلاً قبل اكتشاف منافع كل صفقة ومساوئها.
يصح القول إن خطّة التهجير وُلِدت ميّتة، انطلاقًا من صلابة الغزيّين واستمساكهم بالوطن الضائع دون ارتضاء بديل عنه، ثم الحسم القاطع من جهة الدولة المصرية، وقد كانت سبّاقة فى إثارة المسألة وتفنيدها منذ اندلاع الحرب، وجدّدت الرفض مع تجديد الدعايات، وجمّدت زيارة رئاسية متوقّعة لواشنطن؛ طالما ظل الملف مطروحًا ضمن أجندة الأعمال.
وبهذا؛ يُمكن القول إن القاهرة وعوام غزة أفسدوا فكرة ترامب فى مهدها، لكن إطلاق رصاصة الرحمة عليها لا يتحقق من دون تنشيط خيال مُضادّ، وابتكار خطة شمولية صالحة للإنفاذ على وجه السرعة، وقادرة على سدّ الثغرات المُتّسعة، وليس فى تلرواية الأمريكية وحدها، بل فى سردية اليمين الصهيونى الحاكم فى تل أبيب، وما بين الفصائل الفلسطينية، واتّصالاً بالنزاع الطرفى المشتعل على أطراف القضية، بين محور الممانعة بخياراته الفوضوية الحارقة، وجبهة الاعتدال بما تجترحه من خيارات أكثر انسجاما مع سياقها، وقادرة على قراءة الوقائع واستشراف المُتغيّرات، والتعاطى معها جميعًا برويّة ومنطق محسوب.
محنة فلسطين افتُتحت بالأيديولوجيا، وتضخّمت تحت غطائها. حل المستوطنون الغزاة بمشروع صهيونى يتغذّى على بقايا الامبريالية الأنجلوساكسونية، ويُوظّف الالتباسات التاريخية العميقة بين الشرق والغرب فى تجذير حضوره وترقية مكاسبه؛ ثم انتقلوا منه إلى سرديّة توراتية تُفكِّك الحاضر على إيقاع الماضى، وترد النزاع قرونًا إلى الوراء.
وإذا كان الارتباك مقبولا فى الزمن القديم، وما عرفت المنطقة صيغة الدولة الوطنية أو وقعت على تعريف للهُويّة خارج العِرق والدين؛ فإنها آخر ما يحتاجه الساعون إلى التحرّر اليوم، إذ لن يُفضى اختصام الاحتلال على أرضية عقائدية نصوصيّة إلا لجدالات بيزنطية لا تقبل الحسم، ولن يقود الاشتباك معها من منطلق القضية العروبية سوى للمآل نفسه، وقد حوّلوا اليهودية جِينًا ونسبًا، والحل ليس فى تصفية الخطاب الفلسطينى من رواسب الشعارات الكُبرى فحسب؛ بل الاستماتة فى إفساد التوظيف العبرىّ للعناوين نفسها، وسحبهم من نطاق حروب الهُويّات، إلى الحق والقانون، وقوّة الأمر الواقع أوّلاً وأخيرًا.
لا شىء أنجع من وجود الملايين على أرضهم فى الضفة والقطاع، ولا سلاح يُزعج إسرائيل أكثر من الديموغرافيا واختلال المُعادلات السكانية بين النهر والبحر. صحيح أن المُقاومة تظل حقًّا مشروعا، ووسيلة لا يُمكن إنكارها فى التصدّى للتوحُّش ومشاريع الإفناء؛ لكن العمل المقاوم يتّخذ صورًا شتّى، أهمها أن تظل الجغرافيا محل النزاع محتفظة بتعدّد ألوانها، وقادرة على مخاطبة العالم بلغة غير العبرية.
طُرح التقسيم شبه المتساوى فى أول الأمر ورفضناه، ثمّ أضافت مصر مقعدًا للأشقاء فى بداية مسار التسوية بعد أكتوبر 1973 وغابوا بضغوط إقليمية معروفة، والفكرة أن ما كان فى اليد ولو على صفة الاحتمال، بدا لاحقًا أنه فى عداد المُستحيل، ثم انتعشت الآمال فى مدريد وأوسلو، وخبت مرة أخرى، وإذا كان المجال مظلما اليوم فلعلّه يُضاء غدًا، والضمانة الوحيدة الباقية فى كل المحطات تتمثّل حصرا فى الوجود الفلسطينى، وفى استبقاء من يحرسون الأرض راهنًا، ويُناضلون لمنع ابتلاعها، ولا يُمكن بدونهم إبرام أى اتفاق، فى أى مستقبل قريب أو بعيد.
خُذ وفاوض، هكذا تحرّك الرئيس السادات ولو اعترض البعض، وثبت أنها الآلية الوحيدة المُثمرة بالنظر إلى طبيعة الصراع، ووظيفية إسرائيل، وفوارق القوّة التى لا تُحسب معها وحدها؛ بل مع هيئة أممية عريضة من دول وثقافات شتّى؛ حتى الذين ينتقدون ممارسات الاحتلال منهم، سيكونون على رأس الميدان معها إزاء أية تهديدات ماسّة بوجودها. هذه حقيقة الأمر؛ وعلينا أن نستوعبها، ونُدير مُحركاتنا ونضالاتنا فى إطار الوعى بها، ومن دون إغراق فى الرومانسية أو افتراضٍ لإمكانية تمرير حلول نهائية من فوق الرؤوس؛ حتى لو امتلكنا ما تتطلّبه من مقدرة وإمكانات.
والإيجاز الذى لا معنى للرطانة بعده؛ أن اللحظة الأبوكاليبسية القائمة ما تزال الخيار الوحيد، ومعروضة على التكرار بين وقت وآخر، طالما أن فريقًا مِمّن ينضوون تحت لواء القضية يتعاطون معها بمنطق انتحارى لا إحيائى، وبوصفة عقائدية لا وطنية، وبمُبالغة ساذجة وغير مفهومة فى تقدير الذات، وافتراض الهشاشة فى عدو مُسلّح حتى الأسنان، ولم يُخلف موعدًا واحدًا مع اختبار قُدرته على التوحّش، وإثبات مُعتقده فى النازية وإفناء الآخر.
وبالمنطق نفسه؛ فالمنطقة اليوم أمام سؤال الإنقاذ لا المُناطحة، وإن ذهبت إلى الأخيرة فلأجل الوجود لا العدم، أى لغاية إنقاذية أيضًا وليس لاستعراض العضلات أو المُكاسرة على المشاع. والصورة الضدّ عن أطروحة العقل، ما تُسوّقه «حماس» وشيعتها بشأن النصر، ووضع الفصيل فوق القضية، والتصلُّب فى الوقوف على الأطلال بكامل عدّتها القتالية؛ ولو كان المقابل أن تذوى القضية أو يُلقى القطاع بشرًا وحجرًا فى مياه المتوس؛ على المعنى لا المبنى بطبيعة الحال.
والنضال اليوم؛ إنما ينحصر فى انتشال ما تبقّى من أصول القضية، وترشيد الخسائر بدلاً من استمراء النزف المتواصل، ومن الاحتماء بدعايات عاطفية تُدغدغ المشاعر، ولا تستقرّ على أرض صُلبة بالنظر إلى ما حاق بالقطاع، وما أورثه الطوفان والإدارة الشعبوية لتداعياته من ضربات ثقيلة على رأس فلسطين، وتسريع ما كان متباطئا أو مخبوءًا من أجندات الاحتلال بشأن التطهير وابتلاع الجغرافيا وإنهاء مسار حل الدولتين.
وحدث اليوم إذ يتصدَّى لطرحٍ من خارج العقل أصلاً؛ فيجب ألا ينساق البعض وراء خِفّة المُقاربات وخُطب المنابر التى حكمت المجال الإقليمى طوال الفترة الماضية، ولا أن يكون عُرضة للمكايدة والتشغيب؛ أوّلاً لأن الفصائل ليست بعيدة عن أجوائه لجهة أنها لصيقة بخطاب الوساطة المصرية القطرية، ولأن بلدين من الحضور ممسوسان بالمخاطر التى يتطاير شررها، والبقيّة إمَّا لديهم أوراق سياسية يُمكن توظيفها مع واشنطن وتل أبيب، أو يُوفّرون الغطاء المطلوب لتأمين نجاعة الحل من داخل البيئة الإقليمية، وبحيث يُقدّم لترامب صفقة لا تُكلفه، وتصرف نظره عن بديلها باهظ التكلفة على كل الأطراف.
ليس منطقيا أن ينقسم الحماسيون على أنفسهم؛ بعدما انقسموا على القضية ومشروع النضال المشترك أصلا؛ فيقول فريق إنهم جاهزون للخروج من المشهد وفاء بمتطلبات الإنقاذ؛ ثم يستمرئ آخرون فائض التعبئة وألاعيب العواطف فى تمرير أنهم باقون على قارعة القطاع، ولن يُسدّدوا فواتير هزيمة غير مُتحقّقة أصلاً؛ وليس أردأ من زعم النصر فى سياق نكبوى لا وفرة فيه إلا للدم والردم ومآسى البشر والحجر.
سد الذرائع مقدم على جلب المنافع وفق الفهم الشرعى؛ والحال الراهنة أحوج ما يكون إلى تلك القاعدة من منطلقات سياسية واعية، ولأجل تطويق اللوثة المتسلطة على عقل إسرائيل، وإتاحة مسرب جانبى لتصريف فائض السخونة؛ إذ لا فرصة فى ميدان القتال للحديث عن شىء سوى إسكات البنادق وانتشال الجرحى، على أن تنشط السياسة بعدما يرتاح غبار المعارك، وتنزاح فكرة التهجير من واجهة الصورة، ولا تكون موضوعا للنقاش أصلا على أية طاولة مرتقبة.
لن تغير إسرائيل عقيدتها؛ لكن المتغير اليوم أن خياراتها شديدة اليمينية تساق من قناة واشنطن. وعليه؛ فالنزاع اليوم مع الأصيل لا الوكيل، وعلى إعادة القضية لمواضعها الأصيلة لا مغامرة القفز بها إلى مأمول يغلفه المجهول. وبمجرّد ترويض السيد ترامب وردّه عن أفكاره الطارئة؛ ستعود عصابة الليكود أو أى بديل مستقبلى عنها إلى الحدود السابقة، ويُستعاد خطاب «حل الدولتين» عمليا من دون مجهود مضاعف. قد تتبدّل الوقائع نسبيا حال الإقدام على الاعتراف بضم الضفة الغربية؛ لكن علينا ألا نتجاهل أن قانون العدو غير ملزم لسواه، وهو اليوم يسيطر فعليا على فلسطين، وكان مسيطرا قبل عقود على سيناء وطُرد منها فى نهاية المطاف.
عقلية البيزنس مان لدى سيد البيت الأبيض لن تصمد طويلا فى لعبة الربح والخسارة. التهجير يهدد باشتعال إقليمى لا حدود له، والرؤية المصرية تقود إلى إعمار يستعيد الهدوء ولا يكبده الأعباء. مع وجوب ألا ينصرف الإجماع العربى عن قوة الوصم والإدانة، ومنطق الدفاع هجوما، أكان ببناء موقف عربى ودولى مضاد للأطروحة السخيفة، أو تحميل الاحتلال مسؤولية الدمار وعدم التوقف عن مطالبته بالترميم وتعويض الضحايا؛ بل يمكن الذهاب إلى مقاضاته عن تلك المسألة، بحيث لا يبدو أن مشروع الإنقاذ الإقليمى يفتقد لأوراق القوة، أو أن مجرد التسليم به سيُؤخذ بارتضاء كامل على أنه تنازل منهم، وغاية المراد من جانبنا والفلسطينيين.
قمة الرياض فرع على الأصل، وجناح تحلق به رؤية القاهرة انتظارا لاكتمال الفواعل الإقليمية فى القمة العربية الطارئة. إنها رسالة الوساطة المصرية القطرية التى أوقفت الحرب، والصلابة المصرية الأردنية التى أعاقت مداولات التهجير، والحاضنة اللصيقة بالقضية رفضا لتصفيتها أو الهروب منها على حساب الآخرين، ومقدمة فى كل الأحوال لمسار إنقاذ تجترحه العواصم الفاعلة بعقل بارد، وتضعهم أمام العدو والصديق على السواء؛ ليكون الخيار لدى الرؤوس الحامية من تيار الأصولية بين فلسطين والأيديولوجيا، وللصهاينة بين صراع منضبط أو منفلت، وللأمريكيين بين التعثر الآمن أو وضع الإقليم على برميل بارود.. رسالة أسمعتها مصر للعالم كله منذ فاتحة الحرب، ويترصص العرب جميعا لتردادها معا، فى نفس واحد، وبإيقاع لن يختلف من القاهرة للرياض ذهابا الآن، وعودة بعد اثنى عشر يوما.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة