أمام فرن طينى، تعلوه قطعة نحاسية دائرية، بجانبه قدر واسع مملوء بعجين طرى، يطوع محمد حسن على، بأنامله "الكوز"، لتنسدل من فتحاته عجينة الكنافة، التى سرعان ما تنادى زبائنها بمجرد أن تلمس صينية الفرن الدافئة، بنسيمها الذى يعبق برائحة الشهر الكريم، فى طقس ريفى ارتبط بشهر رمضان منذ مئات السنين.
يُصنع الرجل الأربعينى الكنافة البلدي بطعم وريحة زمان، وسط أجواء محببة للأطفال والكبار فى محيط سكنه، فرغم التطور الكبير الذى شهدته صناعة الكنافة سواء عن طريق الأفران البلدية أو الآلية، من إيقاد الفرن البلدى بالحطب إلى استعمال أنابيب الغاز، وصولًا لاستعمال الفرن الكهربائى، إلا أن ابن قرية ترسا بمحافظة الجيزة لا يزال متمسكًا بأصل الصنعة فى مهنة موسمية تظهر مع قرب حلول شهر الصوم.
فرن الكنافة البلدي
صناعة الكنافة البلدي
وبينما كان يفرد العجين بطريقة دائرية، حتى تتداخل خيوطها وتنضج، ويحملها بيديه فى سرعة فائقة، لبيعها لزبون يعشق طعمها، تحدث محمد عن تلك المهنة التى ظلت محتفظة بتفاصيلها القديمة حتى يومنها هذا، قائلًا: " تاريخنا فى المهنة يزيد عن 60 سنة، ورثت المهنة أبًا عن جد، وعيت على الدنيا ووالدى كان اتوفى واخواتى البنات بيرشوا كنافة، وأخويا اتعلم الرش وبعدها علمني".
بدأت حكاية "محمد" مع صناعة الكنافة البلدى، منذ طفولته، فتشرب المهنة من أشقائه، وأصبحت عادة سنوية يحرص عليها كل عام: "بدأت أرش كنافة من وانا عندى 12 سنة، كانوا يجيبوا ليا قفص عشان أطول الفرن واعرف أرش بالكوز، فضلت 3 شهور اتعلم ماسكة الكوز والرش، والحمد لله اتعلمت وكملت فيها لحد النهاردة، وبقت عادة سنوية بتكمل فرحتنا بشهر رمضان".
محمد حسن علي صانع الكنافة
يعمل "محمد" طباخ وفى رمضان يغير نشاطه إلى الكنافة وصنعها، كمهنة شجعته والدته عليها، لمواصلة مسيرة الأسرة فيها، فزبائنهم كثر، ويأتون إليهم خصيصًا بحثًا عن الكنافة البلدى لسعرها المنخفض ومذاقها الشهى مقارنة بالكنافة آلية الصنع: "والدتى الله يرحمها أكتر حد كان بيشجعنى أصنع كنافة وأبيعها للناس بسعر يناسبهم ومازعلهمش فى رمضان، كانت تحب تتفرج على والدى وهو بيرش الكنافة، وهى اللى علمتنى وعلمت اخواتى الرش، أنا ماقدرتش أعلم ابنى عشان عنده ضمور فى الأعصاب، لكن علمت بنتى إزاى تقف على الفرن وترش كنافة وتظبط العجين".
عاد "محمد"، بذاكرته للوراء، إذ كان فى مثل هذه الأيام يبنى الفرن الطينى مع شقيقه، ينتظران حلول الشهر الكريم لبيع الكيلو بجنيهين: "أنا شغال بنفس طريقة زمان، الفرق الوحيد إننا كنا بنولع الفرن بخشب، ولما نلاقيه غالى كنا نتصرف ونقطع الشجر عندنا وننشفه ونشتغل بيه، لكن دلوقتى شغالين بأنابيب الغاز، مضيفًا: "لما بدأت اتعلم زمان كنا بنبيع كيلو الكنافة بـ2 جنيه، والنهاردة ببيعها بـ40 جنيه.
صناعة الكنافة
فرن الكنافة البلدى لا غنى عنه لأهل الريف، يبنى بخطوات بسيطة متوارثة، اعتادوا عليها من قديم الزمن: "بجهز الفرن البلدى على أصول زمان وبرش الكنافة قبل رمضان بشهرين، بمراحل بسيطة يُبنى الفرن بشكل دائرى باستخدام الطين والطوب والجبس، فى البداية بجهز الطين بخلط كمية من التراب مع التبن، وأسيبه فترة يخمر، بعدها بجيب الطوب، حوالى 150 طوبة، وأرصهم بشكل دائرى، واثبت صينية فى الأرض، لحد ما يتشكل جسم الفرن، بغطيه بالطين وأسيبه ينشف وفى النهاية باثبت الصينية النحاس وأغلف الفرن بالجبس عشان الشكل العام وكمان بيساعد على تثبيت الفرن وعزل حرارته المرتفعة".
تعتمد جودة الكنافة وقوامها ومذاقها على المقادير ونسبها وخبرة صانعها فى صنع حلقات ودوائر منتظمة من خيوط العجين: "العجين ليه ظبطة، ماينفعش الكنافة تكون تقيلة، لازم الطرحة تبقى خفيفة وتترفع من على النار بعد 3 ثوانى، والرش نفسه ليه أصوله، مش أى حد يمسك الكوز"، مضيفًا: "الكنافة البلدى هى الأساس، تاكلها فريش من غير أى مواد مضافة، خفيفة وطعمها مميز وجميل، وممكن تاكلها مخروطة بشعرية، صينية، بلبن، بسمنة بلدى، عمرك ما تشبع منها، زى أكل الكانون بتاع زمان بالظبط".
محمد حسن صانع الكنافة
الكنافة البلدى سر من أسرار السعادة فى الشهر الكريم، تعيد ذكريات الماضى الجميل لعشاق مذاقها الشهي: "الكنافة البلدى بتكمل فرحة الأهالى برمضان، بيفرحوا بمجرد ما يشوفوا الفرن، ويبدأوا يحجزوا طلبيات قبل رمضان بفترة، والأطفال بتيجى وأطلع لهم لفة كنافة ياكلوها وأنا بصنع، ويقولوا ليا انت اللى بتفكرنا برمضان، اخواتنا المسيحيين كمان بيستنوا الكنافة البلدى من السنة للسنة، بيستنونى اشتغل، وبيفرحوا أوى لما يشوفونى بابنى الفرن وباستعد لرمضان، وعشان كدة بفضل شغال لبعد العيد بشهرين".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة