يترقبون.. يتوقعون.. ويتمنون
يتمنون شعاع من نور في ظلمة واقع ضبابي..
يترَجون بصيص من الامل في تحقيق الحلم..
حلم مشروع بل و حق مشروع!
حق لكل مواطن جاء الي الدنيا هُنا .. في "الساحة الكبرى" التي تجلي فيها التاريخ البشري و"الميدان الأعظم" الذي إلتقت فيه الحضارات القديمة لتُرسي قواعد المجد و "الفضاء المترامي الاطراف" الذي يتباهي من عاش في مدده بدُرَرِه و نَفائثه : الاقصي و الكعبة و بابل و آشور و فضاء الصحاري و الوديان وكل ارض خطي من فوقها عيسي و مريم علي ضفاف نيل مصر .. فتعانقت ـ تحت سماء هذه المنطقة ـ الأديان السماوية و ما قبلها من عقائد تلقائية تنُم عن فكر راقي و تَعكِس وسَامة العقل و اناقة الطرح..
حق لكل مواطن وُلِد في هذا الرحاب المقدس، أن يعيش مستقرا و ان يهنأ بنفس هادئة و قلب مطمئن.. او أن "يعيش" ببساطة الطبيعة و ينعم بليله و ضحاه!
واقعنا غريب، ثقيل، مالت فيه كفة الميزان للـ"لاحضارة" و ال"لامنطق" و ال "لا انسانيات"..
واقع غير مسبوق، مترهل، يحمل في ثنايا جسده علامات الإرهاق و تجاعيد المحن و التحديات التي تنذر ببداية زمن قاسي، شفرته حادة، تقطع أواصر الماضي، و تنزف بادآت جديدة لم يعتاد عليها الساسة و الدبلوماسيين فيما درسوه و اصقلوه بالممارسة طوال عقود طويلة.
الكل يراقب المشهد.. الأعين متربصة والأذن صاغية والقلوب مليئة بالرجاء في إيجاد حل لأهل غزة الذين عانوا ويلات الحرب لمدة تزيد عن الخمسة عشر أشهر، بل وتحملوا قضية امة بأكملها "القضية الفلسطينية"، تبحث عن حل في تيهة دروب الحرب والسلام والسياسة، لما يقرب من قرن من الزمان.
حرب غزة اصابت العالم واصابتنا بغصة والم نفسي عميق على إثر المشاهد والاخبار التي تُصَبحنا وتمُسينا وتلاحقنا عبر شاشات الهواتف أو التليفزيونات، كما ألقت بظلال داكنة على حياتنا اليومية، فما أصعب على الإنسان أن يرى ظلمات الظلم وأن يشهد على معاندة الدنيا وعدم اعترافها الا بالكيل بمكيالين!
ما أصعب الايام التي نعيشها!
نصمت أحيانا ونشرد بعيدا لتجتر عقولنا صورة حالمة تعضد من أزرنا وتطمئن أنفسنا، فيأتينا الماضي بكلمات العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ في اغنية" نبتدي منين الحكاية"، ونسمع صوته العذب وهو يقول بشجن
لو حكينا يا حبيبى.. نبتدى منين الحكايه؟
ده احنا قصة حبنا لها أكتر من بدايه
عشنا فيها...ياما عشنا
شفنا فيها...ياما شفنا
لكن مشينا.. وكملنا مشوار الحب...ووصلنا
والدنيا ما قدرت تعاندنا وتفرق بينا وتبعدنا!
عزيزي القارئ
صعوبة الدنيا التي تعاندنا وتفرق بينا ترجع لأسباب كثيرة ومتباينة ولعل أخطرها هو، مغايرة الحقائق وزيف المعلومة المتداولة..
في الحقيقة، بدأت العديد من الدول اللجوء ـ مع بداية الالفية الثالثة ـ لاتباع أساليب ووسائل مبتكرة للـ "تسويق" لنفسها ول"تجميل" صورتها، لتصبح كعلامة فارقة ومميزة على الساحة الدولية..
فعلي سبيل المثال، نشرات الأخبار الواردة من الغرب و البرامج التليفزيونية المعده بمهنية و أفلام المنصات الدرامية المصممة بحرفية ل"تصدير" و"تسويق" الأفكار الأحادية الهوي و الخطط المعدة مسبقا، لأضحت بمثابة "آلة حرب" تتحرك بالفكر و التكتيك الاستراتيجي.
في إطار التنافس المحموم ـ تستخدم الدول "القوة الناعمة" بالتوازي مع "القوة الصلبة" لو اضطرها الأمر، فكل "سلاح " مُباح من اجل الحصول على الهدف المنشود وتحقيق المصلحة المرجوة..
وقد تطور مفهوم «تسويق الدول»، دخل الحيز الأكاديمي في التسعينيات علي يد السياسي البريطاني المستقل "سيمون آنهولت"، الذي يعتبر أحد أبرز الخبراء في هذا المجال على مستوى العالم والذي عمل على تنفيذ استراتيجيات المشاركة الاقتصادية/السياسية /الثقافية بين الدول، واود ان أُذَكِر هنا انه في نفس هذا العقد، أي تسعينيات القرن العشرين، جاء أيضا علي يد المفكر الاستراتيجي الامريكي "جوزيف ناي" مفهوما جديدا في العلاقات الدولية هو "القوة الناعمة".
رب صدفة خير من ألف ميعاد، كما نقول في بلاد المشرق، تلك الصدفة التي جمعت بين الأدوات الجديدة لحرب الالفية الثالثة: "القوة الناعمة"
Soft Power
و"التسويق للدول"
Nation Branding
والاثنين يعتمدان على آلة الهيمنة الثقافية على الشعوب وخاصة في الدول النامية.
وفي سياق متصل، قام "فيليب كوتلر"، الأب الروحي لعلم التسويق الحديث، بإصدار مرجع في منتهي الأهمية بعنوان «تسويق الأمم» و الذي يلقي الضوء في احد فصوله علي نقطة جوهرية وهي فن "تسويق الدول" اعتمادا علي التراث الثقافي، و يعطي الكاتب أمثلة للدول الاستعمارية الكبرى التي تعرض في متاحفها الوطنية الكبرى ما استحوذت عليه ـ بغير حق ـ من آثار قيّمة من مستعمراتها السابقة على أنها «كنوز وطنية لا يمكن التفريط فيها»، وكل ذلك يدخل ضمن دائرة المبرر والمباح لأجل غاية..
عزيزي القارئ
فلنتحلى بـادراك قيمة الوطن و "الماركة المسجلة" له وهي الحضارة والتراث الثقافي..
فلنتباهى بمحتوي عقولنا وليس بمحتوي جيوبنا..
وأخيرا..
كم نحن في اشد الاحتياج الي شخصيات ناضجة، متمرسة، قادرة على مجابهة الكلمة بالكلمة والفكر بالفكر..
فلننتبه الي ما هو قادم.. ولنُدرِك ان ريادَتِنا تكمُن في كلمتنا وفي حضارتنا، ولنَعي ان سلاحِنا الفتاك يكمُن في قوة ردع الانسان المُدرِك لقيمة تاريخه والمُتَحلي بالعقل المستنير والضمير الجمعي..
ولتعيش مصر الحضارة والثقافة دائما وابدا!