حازم حسين

الغباء فى اختبار غريزة البقاء.. درس قاسٍ ستستوعبه إسرائيل مع سقوط نتنياهو

الأربعاء، 19 فبراير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يعلم نتنياهو أكثر من أى شخص آخر أنه سفّاح فاشل. يستميت فى إنقاذ صورة «الملك اليهودى» خلال أمتاره الأخيرة، ويضغط على الأعصاب العارية فى بيئته، للوصول إلى أهدافه الشخصية.

وإذا كان بالإمكان النظر فى خطايا الطوفان، وترتيبها بحسب الأسوأ منها؛ فسيأتى على رأس السلبيات أنها انتشلت الشارع العِبرىَّ من انقسامٍ كان يتسلّط عليه، ووحّدته وراء قائده النازى، ويسّرت للأخير أن يخوض معركته الخاصة تحت راية الدولة.

انطلقت مُغامرة حماس بينما كانت البيئة الإسرائيلية فى أعلى مراحل فورانها، والائتلاف الحاكم فى مواجهة صاخبة مع المعارضة والجمهور، بأثر مشروع الإصلاح القضائى، ورغبة الحكومة فى ابتلاع المجال العام وتحييد أدوات الرقابة على أنشطتها.

ذابت التناقضات فى غضون ساعات، وتحوّل التشظّى إلى حالة إجماعية. واستطلاعات الرأى اليوم لا تُثبت إلا حقيقة واحدة؛ أن العملية التى دُبِّرت للطعن فى المفاصل الرخوة، أعادت بناء جبهة العدوّ وتصليبها، وضخّت فى شرايينها الوقود المطلوب لبلد يُدمن سردية «الحياة على حدِّ السكّين».

أجاد زعيم الليكود فى توظيف الأيديولوجيا ضد الخصوم، واستثمر فى الأُصولية الفلسطينية ليُسيِّد دعاية غياب الشريك، وانعدام صلاحية الربط بين غزّة ورام الله فى كيانيَّة واحدة، بما يُوفّر رافعة لإنجاز أية مقاربات سياسية، أو تقديم صورة مُقنعة عن الدولة المُنتظَرة فى أية تسوية مُقبلة.

وفى المقابل؛ استبدّ الخلاف بالفلسطينيين، وتوزّعت قواهم الهشّة على عناوين شتّى، وبدلاً من أن يُوظّفوا الآليّة البنيامينية ضد عدوّهم، اعتمدوها فيما بينهم، وأعانوه على أنفسهم، ومكّنوا لمشروع التفرقة والتقسيم فى بيئة لا تنقصها المُنغّصات.

والحال؛ أن القضية أحوج ما يكون إلى التضامّ والمكاتفة، وإلى ترميم الخلافات مهما بدت ضخمة ومُتعاظمة، لا لمُجرّد بناء جدار واحد فى مواجهة أجندة إلغائية تستهدف إزاحتهم مرّة وإلى الأبد؛ بل لاختبار بدائل نضالية أكثر فاعلية، لعل أهمّها أن يطعنوا العدوّ بما طُعنوا به فى العقدين الأخيرين.

لن أكون رومانسيًّا لدرجة الرهان على الضمير فى إسرائيل، أو أن ثمّة قوى سياسية ومدنية يُمكن التعويل عليها، وبناء شراكة إنسانية وأخلاقية معها، تقود لاحقا إلى عمل سياسى مُتّزن وخلّاق. إنها بلد يمينى بالكامل، حتى يساره لا يخلو من مُحافظةٍ وتوحُّش، ولا شىء فى كتاب الفاشية يتجاوز سرقة أراضى الآخرين، والسعى إلى اقتلاعهم منها.

الفكرة كلها أن نشتغل فى المساحة النفسية المُهتزّة أصلاً داخل الكيان الصهيونى، وأن نُجرّب محاولة إرباك الصفوف واستثمار الشكوك المُتبادَلة بينهم، مثلما يختبرونها معنا، ويُجيدون توظيفها لتعلية أسوارٍ معنوية تُجَزّئ القوَّةَ الواحدة، وتتخطّى أثر تطويق الجغرافيا والديموغرافيا بالبطش والأسوار الحديدية.

والقصد؛ ألا تُخاض الحربُ دومًا من مُنطلَقٍ وجودى تحت عناوين كُلّية صارمة، وبصيغةِ «إمّا نحن أو هُم» فحسب. وعلى الأقل فى الجولة الحالية، لا ينبغى أن نُعين نتنياهو على بناء جبهة مُوحَّدة، بالإصرار على تغليف برنامجه السياسى بغلافٍ قومىٍّ عقائدىٍّ من جانبنا، وتصوير المُنازعة على أنها صراعٌ شُمولىٌّ مع دولة الاحتلال؛ ولو كان هكذا فعلا، إذ الأوفق راهنًا أن نمنحها طابعًا شخصيًّا قدر الإمكان، وأن نصوّب مَرحليًّا على الشخص بدلاً من الجماعة.

ولمزيدٍ من التوضيح، لا أتقصّدُ إطلاقًا الإيحاء بأنها ليست مسألةً وجودية بالنسبة للأرض المُحتلة بين النهر والبحر، ولا أنَّ تل أبيب يمكن أن تستيقظ ذات صباح بمشاعر آدمية كالتى يعرفها عموم البشر، ولكن أنَّ الذهاب إلى صدام الكُل مع الكل، لا يترك للآخرين إلَّا خيار الإلغاء وفق حدوده القصوى، ويغلق الباب على البدائل المُحتمَلَة، بما يُمكِنُ أن تنطوى عليه من خياراتٍ أكثر اتّزانًا، أو أقلّ صَخبًا بالحد الأدنى.

والصورة قد تتّضح أكثر بالعودة شهورًا إلى الوراء. إذ لو افترضنا مثلاً أنَّ عناصر القسّام فى غزوتهم الطوفانية قد وجّهوا طاقتهم إلى التمركزات العسكرية فقط، وحصروا الاقتتال والأَسْر بين الضبَّاط والمُجندين؛ لكان بالإمكان تسويق العملية على أنها رسالةٌ مُباشرة للحكومة اليمينية، واستهدافًا لنتنياهو الذى استبقَ «حماس» نفسها فى التصويب على الجيش، وهذا بجانب أنها ستظلّ طبعًا فى النطاق التعريفى الصافى عن المُقاومة المشروعة.

وحتى ما بعد الخَرق الذى اتّسع على الراتق، وهجمة الغلاف التى تضخّمت بعشوائية طارئة، وعلى خلاف ما أراده السنوار أو خطَّط له. كانت الفرصة مُتاحة أيضًا لتعديل المسار، وإعادة بناء السردية، أقلّه من جهة المُبادرة بإطلاق سراح المدنيين، وتحبير بيان سياسى واضح بشأن طبيعة النزاع، وأسباب الهجوم، وحصر المطالب فى حدودٍ معقولة، يكون أبرزها سحب البساط من تحت أقدام الحكومة، وإعانة التيَّارات الغاضبة منها فى الداخل على تطويق أغلبيتها الضئيلة داخل الكنيست.

أخطأت حماس فى أنها هاجت وهيّجت مجال الاشتباك دون رؤية حربية واضحة، ولا خطوط رجعة سياسية مُعتدلة وقادرة على التعاطى مع التداعيات وامتصاص تأثيراتها. وما تزال تُخطئ فى أنها باقية على عهد الانقسام والنزاع مع منظمَّة التحرير، وأنها تستمرئ صيغة المواجهة بين كيانين مُتضادّين، بدلاً من حصرها فى نطاقها الحقيقى، لناحية أنها صدامٌ بين سُلطتين أُصوليَّتين بالأساس، أو شخصنتها بحيث تنتقل من مربَّع فلسطين وإسرائيل، إلى حماس والليكود، أو السنوار ونتنياهو.

وبالنظر إلى الانتقادات المُطَوِّقة لخطَّة ترامب، بشأن تهجير الغزِّيين والسيطرة على القطاع؛ فالمأخذ الأساسى أنه لا سبيل لإزالة شعب كامل من جغرافيا تألفه ويتمسَّك بها، ولا افتراض إمكانية أن تُدَار عمليَّةٌ بهذا الحجم دون مُقاومة، أو فى إطار باقة الردود المُعتادة فى سابق المواجهات. عند نقطةٍ مُعينة تصير الخسائر غير مقبولة، وتنفتح الأبواب على كل الاحتمالات الحارقة.

والمسألة نفسها فيما يخصُّ العدوّ؛ إذ إننا فى النهاية نتحدث عن مُجتمع بشرى، وعن كيانية حتى لو كانت غاصبةً ومُلفَّقَة؛ فإنها صارت دولةً شبه طبيعية، وأنَّ قطاعًا عريضًا من سكّانها لا يعرفون لأنفسهم وطنًا آخر، وقد يَسهُل دفعهم نحو توازناتٍ تضمن التعايش الحَرِج مع الخصوم؛ إنما لا يُمكن الرهان إطلاقًا على ترحيبهم بخطابات التصفية والإلقاء فى البحر.

وعليه؛ فإنَّ ما ينطبق على أهل فلسطين، وهُم أصحابُ الأرض الأصليِّون، ينطبق وإن بدرجة مُختلفة قليلاً على ملايين مثلهم فى الجانب الآخر. التأجيج لن يُفضى إلى تفاهمات، وفارق القوّة سيصبًّ دومًا فى صالح الطرف المُهيمن، والتصويب عشوائيًّا قد يقتل أفرادًا؛ لكنه لا يُصفّى القضايا الوجودية؛ سواء كانت عادلة أو ظالمة، ويُغامر بإنتاج بدائل أشدّ توحُّشًا وشراسة.

والمَخرجُ المطروح اليومَ أن تتنحَّى حماس عن واجهة المشهد فى غزّة؛ إنما لا تكتمل المُقاربة إلَّا بتنحية نتنياهو وعصابته فى الطرف المُقابل. صحيح أنَّ الفصائل ضيّعت فرصةً ذهبية للتصويب عليه طوال الشهور الماضية؛ لكن ما يتوجّب الآن أن تنصرف الجهود كلُّها لحصاره عالميًّا، وتطويقه فى بيئته، والرهان على أن تكون الترتيبات الاضطرارية لمستقبل القطاع، مُقدِّمةً لتغيير التركيبة الحاكمة فى دولة الاحتلال.

لا يُمكن أن يكون الحماسيِّون جزءًا من اليوم التالى؛ لأجل أن يكون هناك يومٌ تالٍ أصلاً. وينبغى أن تنظر الحركةُ فى تغيير وسائلها الانتحاريَّة؛ لتصير أكثر فاعليَّةً بالنسبة للقضية ومسارها النضالىِّ، وأن تبحث فى أوفق السبل لتفخيخ نفسها فى نتنياهو وحكومته، وضمان أن ترحل عن المشهد مشمولةً برحيل لاحقٍ لعصابة الليكود ودائرته التوراتيَّة، وإعادة إنتاج سلطة جديدة فى تل أبيب؛ حتى لو جاءت يمينيَّةً قريبةً من سابقتها؛ فلن تكون قادرةً على مواصلة الخطّة بحذافيرها، وستجد نفسَها أمام استحقاقات تُوجِبُ التراجع، أو إدخال تعديلاتٍ ملموسة على الخطاب.

تلقّف رايخ الصهيونية الثالث خطّة ترامب، ويستعصمُ بها بديلاً وحيدًا عن أية أطروحات موضوعية لمُغادرة أجواء الانسداد، وإرساء ركائز مُحدّثة للتهدئة الوقتية، والتسوية طويلة المدى. ولا حلَّ لإجهاض المشروع نهائيًّا إلَّا بإسقاط الحكومة القابضة عليه، لا سيَّما أنها تعتبره الحلَّ النهائى لترميم صورتها، وإنعاش أحزاب الأُصولية الدينية فى مَواتها السريرى، ووضع إسرائيل على طريق لا عودة منها فى أىِّ مدى قريب.

أعلن وزير دفاع الاحتلال عن تشكيل لجنة لتشجيع الخروج الطوعى، ومع إغلاق المسألة من جهة مصر؛ فسيسعون على الأرجح إلى فتح مساراتٍ بديلة من خلال الموانى والمطارات الإسرائيلية، واللعب نفسيًّا ودعائيًّا على وتر النكبة المُطوّقة للغزّيين فى بيئتهم، وتسويق خطَّة الترانسفير من زاويةٍ إنسانية، كما يطرحها الرئيس الأمريكى بتشغيبٍ واضح على العقل والضمير والقانون.

واليقين فى ثبات الفلسطينيين على أرضهم، أو فى مناعة الدائرة العربية وامتناعها على محاولات الابتزاز والتطويع، لا يكفيان وحدهما لوضع نقطةٍ حاسمة فى آخر سطر التطلُّعات الإفنائيَّة، ولا لنزع أجندة التهجير عن الطاولة اليوم وإلى الأبد. إذ يتطلّب صَرف الأذهان عنها أن يقتنع طارحوها بأنها خيارٌ غير عملىٍّ، وتهديداته أكبر من مزاياه، وأن يَسقُط المُراهنون عليها فى أقرب فرصةٍ مُمكنة؛ ليترفع حاجزُ ردعٍ نفسىٍّ لدى أىِّ بديل آخر عن الاستثمار فى الفكرة ذاتِها مُجدَّدا.

والحال؛ أنَّ خطابَ الوَصْم مطلوب فى مواجهة إسرائيل بكاملها، لكن مع التكثيف وتخصيص جانب من الجهود لنتنياهو ودائرته الحيويَّة، ووضع المجتمع الإسرائيلى أمام باقة مُركّبة من الأفكار والخيارات، يُدان فيها المجموع بقدر إسنادهم لسلطتهم الحاكمة وسلوكياتها المتوحشّة، ويُفتَح لهم بابٌ جانبىٌّ للإفلات من جرائم الإبادة والتطهير، يكون واضحًا أنه محكومٌ بالمُساءلة الداخلية، ونبذ المجرمين المُباشرين؛ بدلاً من احتمال الإدانة جماعيًّا.

والمعنى؛ أنه ينبغى على القوى الإقليمية الفاعلة، النصّ فى مُقاربتها مَحلّ الإعداد على مسؤولية نتنياهو الفردية أوّلاً، وطبقته السياسية الرديفة بالتضامن، عن كلِّ ما انطوت عليه الشهور الماضية من جرائم وخروقاتٍ على الناحيتين، أكان فى الطوفان أم فى حرب القيامة وتداعياتها الثقيلة، وأن تُوضَع تنحيةُ حماس باعتبارها مُبادرةً لكَبْح مسيرة الجنون، وتوسعة أُفق العقل والسياسة، مع وُجوبيَّة أن تتبعها عملية هيكلة وتغيير حقيقية على ضفة الاحتلال، تنطلق من عدم صلاحية من كانوا طرفًا فى الحرب أن يصنعوا التسوية، وعدم أخلاقية أن يكون النازيون الصهاينة شركاءَ فى جهود التعافى، وشَقّ منفذ لمصالحة المجتمعات على أنفسها، تمهيدًا لإجلاسها إلى طاولة الحوار والحل.

إنها فرصةُ العجوز بيبى الأخيرة، وعلى الأرجح لن يكون قائدًا لائتلاف الحُكم فى أقرب انتخابات مُقبلة.. لهذا يستميت فى إبقاء الميدان مُشتعلاً، ويُناور الأطراف جميعًا بغرض الخروج من الهُدنة، والعودة إلى القتال. وبينما تنحاز الولايات المُتّحدة لإسرائيل بوضوح؛ فإنها راغبةٌ فى بقاء الاتفاق ساريًا على ما يبدو، ومن هُنا تحديدًا تنبع محنة اليمين الحاكم فى تل أبيب؛ إذ تتهدّده التهدئة بالتفكُّك والانحلال، ولا يعرف سبيلاً لاستنقاذ بقائه الهَشّ بعيدًا من صخب الدعايات الساخنة، والتلطّى وراء رسائل مُتشدّدة سرعان ما تفقد بريقها.

ولا غايةَ لديهم الآنَ إلا تعطيل الانتقال إلى المرحلة الثانية من الصفقة؛ حتى لو تحايلوا عليها بتمديد الأُولى، أو بمنح الجولة المُقبلة تسميةً بديلة. وإرخاء الحبل من الجانب الفلسطينى قد يُحدث أثرًا لناحية تبريد الرؤوس الحامية فى الكابينت، وسحب الذرائع، وتنشيط موسم المُحاسبة الداخلية فى إسرائيل، والأهمّ أن يكتشف ترامب أنه يُبدّد طاقتَه فى إسناد سُلطةٍ مُلتاثة وعديمة الخيارات فى الداخل والخارج، وأنها لا تطرح بدائل مُقنعة عن تأجيج النار والمُغامرة بانفلات حرائقها على امتداد الإقليم.

وإذ يستشعر نتنياهو حجمَ الضغوط فى المجال الفلسطينى؛ فإنه يسعى لنقل المواجهة إلى جانب إيران، أو استبقاء عوامل الإشعال جاهزةً فى جنوب لبنان، بحسب ما استقرّ عليه مع الراعى الأمريكى فيما يخصُّ البقاء فى خمس نقاطٍ عالية وراء الخط الأزرق.

ومع حقيقة أن ترامب غير راغبٍ فى خوض مزيد من الحروب؛ ومهما زَمجَر وصعَّد فى الخطاب؛ فسيكون أوَّلَ العائدين بمُجرّد أن تلتمع شرارة القتال، ما يعنى أنه قد لا يتوافر أىُّ منفذ لحكومة الليكود نحو الهروب من استحقاقات التهدئة الاضطرارية.

والفكرة السابقة لن تتغيّر حتى بإفساد الهدنة الحالية فى غزّة؛ إذ لن يُوفّر له الرجوع للقتال سوى فاصلٍ زمنى عن الوقوف أمام الخيارات نفسها، ولا فارق بين أن يطول أو يقصر؛ لأن الثابت الواضح أنه لا سبيلَ لإزاحة الكتلة الديموغرافية الضخمة عن القطاع، ولا لإحكام السيطرة الكاملة والنهائية عليه، أو الوصول لتفاهماتٍ إقليمية خلاف ما أعلنته القاهرة منذ شهور طويلة، ولن تتنازل عنه ولو تضاعفت المُربكات وهوامش الوقت الضائع.

نجحت الوساطة المصرية فى تقويم مسار الاتفاق، وتفعيل البروتوكول الإنسانى بصيغته الكاملة. دخلت المعدّات الثقيلة والمساكن المُتنقّلة، وعاد الإعلامُ العِبرىُّ لحديث إبعاد حماس عن الحُكم، وتثبَّتَ عَمليًّا خيار أنه لا تهجير ولا تصفية للقضية، ولا بديل عن الاعتراف بالحقائق الجغرافية والتاريخية الماثلة.

قمة الرياض الخماسية غدًا ستُؤمِّنُ على التصوّر المصرىِّ، ثم القمة العربية الطارئة فى موعدها الجديد بالأسبوع الأوَّل من مارس. وما يتبقّى بعد ذلك يخصُّ الساعات أو الأيام التى سيحتاجها الطرفُ الآخر للاقتناع، والتحلُّل من دعاياته القديمة بعدما فقدت صلاحيتها، وانسدّت أمامها المسارات.

ولا أستنكف القول إنَّ حماس ونتنياهو مربوطان بخيطٍ واحد؛ لا على معنى أنهما شريكان فى مشروعٍ يتدَاعى أمامهما اليوم، ولكن لناحية أنهما يلعبان بالورقة نفسها؛ وإن من مُنطلقات مُتفاوتة.

وأهم ما رسّخته الحربُ الأخيرة أنه لا مجال للمُناطحة الأيديولوجية، ولن تقود النزعاتُ الأُصوليَّة إلا لفواصل صدامية، يعود الطرفان بعدها لنقطة الصفر.
صحيح أن هذا لا يعنى وجوبا أنهما سيعقلان الصورة ويُغادران ملاعبهما القديمة، ولا أن المستقبل مأمونٌ لجهة الانقطاع عن حماقات الماضى؛ لكنَّ الحقائق بطبعها تتأكَّد بالتكرار، وتفرضُ نفسها دومًا رغمًا عن الحماوة والإنكار.

لسنا فى وارد إزالة الراديكالية الدينية من مشروع النضال التحرّرى بالكامل، ولا لإعادة إنتاج رابين أو لحظة بيجين العقلانية، وكلاهما نازى متوحش مثل نتنياهو تمامًا، ولا فارق سوى الوعى وانتهاز الفرص؛ لكن لن تعود البيئة الفلسطينية أسيرةً للخُطَب المنبرية الحَرّيفة وحدها، ولن تتخطّى إسرائيل محنتَها النفسية إلَّا بغربلة البيئة السياسية، وإعادة إنتاج سياقٍ بديل لن يكون مُتحرّرًا تمامًا من ميراث سابقيه.

الرادعُ النفسى لدى الفصائل الغزّيّة يتجسّد على امتداد جغرافيا القطاع، وفى قوائم الشهداء وتلال الرُّكام، وتآكُل حصيلة أربعة عقودٍ من العمل الإسلاموىِّ المُقاوم، وعقدين على الأقل من الانخراط فى مَعيّة الشيعيَّة المُسلّحة وتحت لوائها المُلوَّن.

ولا تقلُّ الضغوط عن ذلك لدى الطرف الآخر؛ لكنها مُتحقّقة فى الوعى بالدرجة الأكبر، وفى الخيال الذى بشّر بالسيادة على كامل الأرض فغُزِىَ من داخله، وافتتح الحربَ برغبة الإفناء فعاد بوَصْمةٍ أخلاقيَّة وفشلٍ عارم، وبُمجرّد تثبيت الاتفاق بمراحله الثلاث سيكونُ الاعتراف النهائى بالفشل العميم، والشرخ الروحى الذى لن يبرأ منه الناخب، وسينقله إلى النائب والوزير بالانتقاء أوّلاً، وبالانتقاد على طول الخطّ.

الحرب الوجوديَّةُ مع إسرائيل؛ إنما الجولة الوقتية منها مع نتنياهو، ويجب أن تُدَار وفق هذا الوعى، ولغايةٍ واحدةٍ لا محيد عنها، وهى ألَّا يخرج الذئبُ من الميدان منتصرًا بالنار والدم، ولا أن يعود إلى السياسة مُسلَّحًا بما أمَنته له المدافع، ومُستفيدًا من مردود جرائمه على تعزيز سُلطته، وابتزاز الإدارة الأمريكية المُنحازة أساسًا لإسرائيل، بما يسمح له بتجريب نزواته فى اتجاهات شتّى لا تقلّ جنونًا عمَّا فات.

لم تَعُد صورةُ حماس فى بيئتها كما كانت. تآكَلَتْ شعبيَّتُها كثيرًا، ولا يتطلّب التأكّد سوى جولةٍ عابرة على حسابات الغزّيين ومنشوراتهم؛ رغم أن الخوف يمنع كثيرين من التصريح. نجح نتنياهو فى توظيفها ضدّ رام الله؛ ثم وظّفها ضد نفسها فيما بعد.

والحال؛ أنَّ صورتَه هو شخصيًّا مُشوّهةٌ عالميًّا، وصار رديفًا لكلِّ نقيصةٍ وانحطاط أخلاقى، وينبغى الاستثمار فى تلك الحالة وتعزيزها، ونقلها إلى بيئته الداخلية، لتأليب حاضنته المُغرقة فى يَمينيَّتِها عليه، وهو ما لا يُقوّض حضورَه الخاص فحسب؛ بل يخصِمُ من وَهج اليمين المُتطرّف نفسه على المدى البعيد.

الأكيد أنَّ إسرائيل لن تصير سويسرا، ولا حتى دولة طبيعية عاقلة فى أىِّ مستقبل منظور؛ لكنَّ الفارق عريضٌ بين أن تُطَوَّق بالسياسة أو تُستَدْعَى لميدان الحرب، بكلِّ ما يُرافقه من إسنادٍ أمريكى كاسح، وكذلك بين أن تكون فى قبضة اليمين القومىِّ والتوراتى فى أشدّ صُوَره رداءةً، أو مع تيّارٍ أقلّ صَخبًا وإقدامًا على الخيارات الحارقة، وأكثر ارتداعًا إزاء المخاطر ومُغامرات خَلط الأوراق مع الإقليم ودُوَل الطوق.

جَردةُ حساب «الطوفان» كلُّها خسائر حتى الآن؛ وربما يكون الربح الوحيد أنْ يسقُطَ «هتلر الليكود» عن عرشه، وأن يعرف جمهورُه بالمُمارسة العَمليَّة أنَّ الجنون لا يُفضى إلَّا للعار أخلاقيًّا، والانتحار سياسيًّا، فضلاً عن تهديد البلد فى الأمن والوجود، وأنَّ تكرار التجارب المُشينة سيرتدُّ عليهم بأضعاف ما يُحقّق لهم، ولا مفرَّ من الاختيار بين ترويض نزواتهم الهائجة، أو استنفار أقصى ما لدى الآخرين من غضب مكتوم.

الغباء كلّه فى اختبار غريزة البقاء؛ إذ لا حصافة فى تخيير الناس بين الوجود والعدم؛ طالما أنك لا تُريد الفناء أيضًا؛ والأكيد أنهم سيكتشفون ثِقَل الجولة، ويستوعبون درسَهم القاسى، بمُجرّد الخلاص من شيطانهم الممسوس بوَهْم الجلوس على عرش داود.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة