ربما كانت منطقة الشرق الأوسط، هي الأكثر استقطابا، بين جميع مناطق العالم الأخرى، لفترات طويلة من الزمن، منذ الحقبة الاستعمارية، حيث تقاسمتها القوى الكبرى الحاكمة للعالم في مرحلة ما قبل الحروب العالمية، ثم بات صراع النفوذ مهيمنا عليها، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، إبان الحرب الباردة، ثم تحول الصراع بعد ذلك إلى القوى المتنافسة داخل المنطقة، بين إيران وتركيا، وإسرائيل، ولكل منهم مشروعه الخاص، وأن اختلفت الأدوات، في ظل اعتماد الدولة العبرية على سياسة الاستعمار التوسعي القديم، عبر احتلال الأراضي العربية، لتوسيع مساحتها على حساب جيرانها، في الوقت الذي اعتمدت فيه القوى الأخرى على لعبة النفوذ السياسي، من خلال وكلاء لهم في دول المنطقة.
ولعل الجانب العربي اكتفى، خلال العقود الماضية، على كونه مجرد رد فعل، فخلال الاستعمار خرجت الحركات التحررية، بينما انقسم على نفسه خلال الصراع الأمريكي السوفيتي، في حين ضاقت دائرة الانقسام، لتسقط العديد من الدول في مستنقع الحروب الأهلية، والصراعات الداخلية، خلال صراع القوى الاقليمية المتنافسة، وهو الأمر الذي تجلى في أبهى صوره إبان ما يسمى بـ"الربيع العربي" خلال العقد الماضي، في الوقت الذي غابت فيه الرؤية التي يمكن من خلالها تعزيز الجبهة القومية، في مواجهة ما يطرأ من تحديات، أو تهديدات، قد تنال استقلال الدول ووحدة أراضيها، والسبب في ذلك، ربما يرجع بصورة كبيرة إلى الاعتقاد الذي ساد العالم، في بداية الهيمنة الأحادية في التسعينات من القرن الماضي، ومفاده أن "زمن الاستعمار ولى وفات".
وحتى مع بعض المشاهد المؤسفة التي مرت بالمنطقة، خلال العقود الثلاثة الماضية، ومنها على سبيل المثال الغزو الأمريكي للعراق، فكانت الرؤية قائمة على أن الأمور ستكون مؤقتة، ستنتهي بمجرد نهاية الهدف من ورائها، سواء في إطار ما أعلنته واشنطن في ذلك الوقت، حول امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، أو ما خفي منها، وليست سيطرة دائمة على الأرض، وذلك بالرغم مما حمله المشهد من إنذار مبكر فيما يتعلق بالرغبات التوسعية للقوى الكبرى، حتى وإن كانت رغبة مؤجلة، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في حالة من الهشاشة، التي تجلت بصورة كبيرة في الهزة الكبيرة التي شهدتها دول المنطقة خلال العقد الماضي، والتي شهدت تآكلاً داخلياً في العديد من الدول العربية، تأجج على يد القوى الاقليمية، والتي سعت الى تعزيز نفوذها، وعلى رأسهم إسرائيل التي توسعت في بناء مستوطناتها في الضفة الغربية بصورة اكبر وأوسع جراء حالة شبه الفراغ التي نجمت عن تراجع القوى الرئيسية في المنطقة العربية.
ومع العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة في أكتوبر 2023، بدت النزعة التوسعية أكثر جلاءً، خاصة مع الدعوات المشبوهة لتهجير الفلسطينيين، بهدف تصفية قضيتهم، والقفز على الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، ثم التوسع في نطاق المعركة، نحو دول أخرى، منها لبنان، واليمن، وحتى سوريا التي تمكن الاحتلال من السيطرة على مساحة من أرضه، في ديسمبر الماضي، بينما اتخذت الرغبات التوسعية المارقة منحى جديد، يبدو واضحا في الحديث عن ضم غزة لتصبح تحت السيادة الأمريكية، تحت ذريعة إعادة الإعمار.
النظر إلى دعوة الولايات المتحدة حول ضم عزة، لا ينبغي أن يكون منفصلا بأي حال من الأحوال عن رؤيتها في مناطق أخرى، بدءً من كندا، مرورا ببنما، وحتى جزيرة جرينلاند في الدنمارك، والتي عرض الرئيس الأمريكي شرائها، وهو ما يمثل "سنة" جديدة، تسعى واشنطن إلى سنها، تعتمد مبدأ الإخلال بمبدئي السيادة، ووحدة أراضي الدولة، في حين يعيد حقبة الاستعمار، بصورة ناعمة، عبر إرساء مبدأ بديل في العلاقات الدولية، يعتمد منهج "البيع والشراء".
وهنا يثور التساؤل حول الكيفية التي يمكن من خلالها تعزيز قدرات المنطقة العربية على حماية نفسها في مواجهة تحد جديد وخطير، قد يصل إلى حد تهديد السيادة والأرض، حيث تبقى الحاجة ملحة إلى "مشروع" من شأنه مجابهة المشروعات الأخرى، والتي باتت تتجاوز الاقليم الضيق، على النحو السالف الذكر مع دخول الولايات المتحدة بصورة مباشرة، على خط الصراع، عبر تعزيز حالة الصمود، سواء فيما يتعلق بالقضايا المشتركة، أو حماية الدول وحدودها.
المشروع العربي في واقع الأمر ليس توسعيا على الإطلاق، وإنما يحمل مسارين رئيسيين، أولهما تنموي، يرتكز في الأساس على تعزيز حالة الاستدامة، وهو الأمر الذي تقوده القوى الرئيسية في المنطقة، وعلى رأسها الدولة المصرية، وذلك عبر تعزيز الشراكات بين دول المنطقة، والعمل على تحقيق حالة من الاندماج فيما بينها، بينما يبقى المسار الآخر سياسيا يعتمد منهجا يقوم في الاساس على إنهاء حالة الانقسام الإقليمي، في إطار حزمة من المصالحات، التي تحققت خلال السنوات الماضية وهو ما ساهم بصورة كبيرة في تعزيز التوافقات التي شهدتها مرحلة العدوان على غزة، بينما حققت من خلالها قدرا من التكامل، ليس فقط في إطار المواقف السياسية، وإنما فيما يتعلق بالبعد الاقتصادي، مما ساهم في تعزيز المصالح المشتركة.
والملاحظ في النهج المصري في بناء رؤيتها الاقليمية هو ارتباط مساراتها ببعضها، بينما استلهمت تجربتها في بناء جمهوريتها الجديدة، عبر الانطلاق من التنمية نحو الحوار السياسي للوصول الى توافقات في القضايا الرئيسية، وهو ما يساهم في التخفيف من حالة الاستقطاب الاقليمي عبر حوار مع القوى غير العربية، على غرار تركيا وإيران، بينما تركت في الوقت نفسه بابا مفتوحا مع إسرائيل نفسها والتي تعد عضوا في منتدى غاز شرق المتوسط جنبا إلى جنب مع قوى اخرى عربية وإسلامية وأوروبية، ناهيك عن وجود فلسطين نفسها بين أعضاءه، وهو المنتدى الذي ولد من رحم الشراكة التي دشنتها مصر مع اليونان وقبرص.
رؤية مصر للقضية الفلسطينية لا تخرج عن الاطار سالف الذكر، حيث لن تخرج خطتها عن البعد التنموي في الأراضي الفلسطينية، وليس مجرد الاعتماد على نهج اعادة الإعمار التقليدي مع العمل مع شركائها الدوليين للعودة إلى المفاوضات على اساس الشرعية الدولية.
وهنا يمكننا القول بأن الحاجة تبدو ملحة إلى تعزيز الجبهة العربية والاقليمية عبر تحقيقي اكبر قدر من التوافق حول الرؤية المصرية التي ستبقى حاضرة بقوة على مائدة القمة العربية الطارئة المقررة في مارس المقبل، والتي تمثل نقطة انطلاق نحو مقترح عربي موحد يحظى بتوافق اقليمي، لمجابهة المقترحات الأخرى التي دارت حول الضمّ والتهجير والتي من شأنها تصفية القضية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة