ما حكم الشرع بالتأمين على الحياة؟ وما مدى توافقه مع الشريعة؟.. الإفتاء تجيب

الثلاثاء، 18 فبراير 2025 12:55 م
ما حكم الشرع بالتأمين على الحياة؟ وما مدى توافقه مع الشريعة؟.. الإفتاء تجيب دار الإفتاء
كتب لؤى على

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

قالت دار الإفتاء، إن التأمين على الحياة أمرٌ جائزٌ شرعًا، وهو فى جملته تكاتُفٌ وتكافُلٌ وتعاوُنٌ على البِر والإيثار، وجارٍ على أصول مكارم الأخلاق التى تتلاقى معانيها ومقاصدها معَ ما وردت به الشريعة الإسلامية من مواقف وتوجيهات تَجلَّى فيها روح التعاون والمواساة عند توقع الخطر والتماس طرق الوقاية منه.


جاء ذلك ردا على سؤال ما حكم الشرع فى التأمين على الحياة؟ وما مدى توافقه مع أحكام الشريعة الإسلامية الغَرَّاء؟.


حث الشرع الشريف المسلمين على التعاون والترابط حثَّ الشرعُ الشريفُ المسلمين على التراحمِ والترابطِ والتعاون فيما بينهم، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» متفق عليه مِن حديث أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه، إلى غير ذلك مِن النصوص الواردة فى هذا الباب، و"فائدة التعاون: تيسير العمل، وتوفير المصالح، وإظهار الاتحاد والتَّنَاصُر حتى يُصبح ذلك خُلُقًا للأُمَّة"، كما قال شيخ الإسلام الطاهر بن عَاشُور فى "التحرير والتنوير".

وقد وضعَ الشرعُ للناسِ نظامًا اجتماعيًّا قويمًا، يُسهِمُ فى سدِّ حوائجِ المحتاجين وتفريجِ كرباتهم، فأوجبَ الزكاة مثلًا وجعلَهَا مِن أركانِ الدِّين، وحثَّ على الصدقات وبيَّن أنها مِن أعظمِ أبوابِ الخيرِ وأفضل صور التكافل والتعاون.

بيان المراد بالتأمين

من صور التكافل والتعاون فى عصرنا الحاضر: ما يُعرف بـ"التأمين"، وهو عبارةٌ عن "عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدى إلى المؤمَّن له أو إلى المستفيد الذى اشترط التأمين لصالحه مبلغًا من المال، أو إيرادًا مرتبًا، أو أى عِوَضٍ مالى آخر، فى حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المُبَيَّن بالعقد، وذلك فى نظير قسطٍ أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمَّن له للمؤمِّن"، كما عَرَّفَتْهُ المادة (747) من القانون المدنى المصرى رقم 131 لسنة 1948م.

حكم التأمين على الحياة والأدلة على ذلك

من جملة أنواع التأمين: ما يُعرف بـ"التأمين على الحياة"، والتكييف الفقهى المختار لهذا النوع أنه عقدُ تبرُّعٍ قائمٌ على التكافل الاجتماعى والتعاون على البِرِّ، وليس بعقدِ معاوَضة، حيث يتبرع المُؤَمَّن له بالقسط المدفوع، فى مقابل تبرع المؤمِّن بقيمة التأمين.

والتأمين على الحياة بهذا الوصف عقدٌ جائزٌ شرعًا بعموم الأدلة الشرعية من الكتاب والسُّنة:

أمَّا الكتاب فقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، وكلمة "العقود" عامةٌ تشمل كلَّ عقد، ومنها عقد التأمين على الحياة وغيره، ومن المقرر أن الأصل فى العقود والمعاملات الإباحةُ، ما لم يأتِ دليلٌ شرعى على التحريم، كما فى "المبسوط" لشمس الأئمة السَّرَخْسِى الحنفى، و"حاشية الإمام الدُّسُوقِى المالكى على الشرح الكبير"، و"كفاية النبيه" للإمام ابن الرِّفْعَة الشافعى، و"شرح منتهى الإرادات" للإمام أَبِى السعادات البُهُوتِى الحنبلى.

وهذا الأصل هو ما يتوافق مع مقاصد الشرع الشريف مِن تحقيق مصالح العباد والتيسير عليهم ورفع الحرج عنهم، ولا فرق بين كون هذه العقود موروثةً منصوصًا عليها، كالبيع والشراء والإجارة وغيرها، أو كونها مستحدَثَةً لم تتناولها النصوص بالذكر والتفصيل على جهة الخصوص كما فى عقد التأمين، ما دامت تلك العقود خالية من الضرر والغرر، وتُحقق مصالح أطرافها.

وأمَّا السُّنة: فقد روى عن عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِى الضَّمْرِى قال: شهدتُ خُطبة النبى صلى الله عليه وسلم بمِنًى، وكان فيما خَطَب: «وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إلا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ» أخرجه الأئمة: أحمد فى "المسند"، والدارقطنى والبيهقى فى "السنن".

فجَعَل سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم طريقَ حِلِّ المال أن تسمح به نفسُ باذِلِهِ من خلال التراضى، والتأمين يتراضى فيه الطرفان على أخذ مالٍ بطريقٍ مخصوصٍ لا غرر فيه ولا ضرر، فيكون حلالًا.

وقد جرى العرف على التعامل بهذا النوع من العقود، وكما هو مقرر أن العرف معتبرٌ شرعًا ومصدر من مصادر التشريع، قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [الأعراف: 199]، ولما ورد فى الأثر عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: «مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ سَيِّئٌ» أخرجه الأئمة: أحمد فى "المسند"، والطبرانى فى "المعجم الأوسط"، والحاكم فى "المستدرك".

كما أن عقد التأمين ليس من عقود الغرر المُحرَّمة؛ لأنَّ مبناه على التبرع ابتداءً وانتهاءً، فالمؤمَّن له يتبرع ابتداءً بالأقساط التى يدفعها، والمؤمِّن يتبرع انتهاءً بقيمة مبلغ التأمين الذى ارتضاه بالعقد ابتداءً، ويترتب على ذلك ثبوت حقِّ الوفاء بالالتزام على المؤمِّن تجاه المؤمَّن له، والمُؤَمَّن له تجاه المُؤَمِّن؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» أخرجه الأئمة: الحاكم فى "المستدرك"، والدارقطنى والبيهقى فى "السنن" من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.

ومِن المقرر شرعًا أن عقود التبرعات يُتهاوَن فيها عن الغرر الكثير، بخلاف عقود المعاوضات فإنه لا يقبل فيها إلا الغرر اليسير، كما فى "الفروق" للإمام شهاب الدين القَرَافِى (1/ 151، ط. دار إحياء الكتب)، و"القواعد" للإمام الحافظ ابن رَجَب (ص: 233، ط. دار الكتب العلمية، القاعدة الخامسة بعد المائة).

على أن الغرر يُتصوَّر حينما تكون الحقوق والالتزامات فى العقد مُبهَمَةً، أما وقد صار كلُّ طرف فى عقد التأمين يعرف مقدَّمًا مقدارَ ما سيدفعه ومقدارَ ما سيحصل عليه، فحينئذٍ لا يتصور وجود الغرر الفاحش المنهى عنه أصلًا.

كما لا يوجد فى عقد التامين شُبهة القمار؛ لأن المقامَرَة تقوم على الحظ، فى حين أن التأمين يقوم على أسسٍ وقواعد منضبطةٍ وحساباتٍ مدروسةٍ ومحسوبةٍ مِن جهة، وعلى عقدٍ مبرَمٍ من جهة أخرى.

يضاف إلى ذلك: أن التأمين بصوره المتعددة قد صار ضرورةً اجتماعيةً تُحَتِّمُها ظروف الحياة، ويَتحقق به التكافُلُ والتضامُنُ والتعاوُنُ فى رفع ما يصيب الأفراد من أضرار الحوادث والكوارث، فهو على هذا النحو ليس ضريبةً تُحَصَّل بالقوة، وإنما هو تكاتُفٌ وتعاوُنٌ على البِر والإيثار المأمور بهما فى الإسلام.

وهو جارٍ بذلك على أصول مكارم الأخلاق التى تتلاقى معانيها ومقاصدها معَ ما وردت به السُّنَّة النبوية المطهرة من مواقف تَجلَّى فيها روح التعاون والمواساة عند توقع الخطر والتماس طرق الوقاية منه، كأن يُجمع ما لدى الرفقاء من مالٍ أو طعامٍ من أجل إباحة بعضهم بعضًا بموجوده، وإنفاقه بينهم شراكةً وقَسْمًا، كلٌّ بحسب حاجته وكفايته، على الرغم مِن أن فى هذه الرُّفقة مَن لم تكن له بقية طعام وليس لديه مالٌ، فيما يُعرف بالتَّنَاهُد، وهو تخارُجُ الطَّعَام وَالشرَاب على قَدْرٍ فِى الرُّفْقَة، كما أفاده العلامة ابن سِيدَه فى "المحكم والمحيط الأعظم".

قال العلامة محمد أنور الكَشْمِيرِى فى "فيض الباري" : [النَّهدُ: أن يَنْثُرَ الرُّفقةُ زادَهم على سُفْرةٍ واحدةٍ ليأكلوا جميعًا بدون تقسيم، ففيه شَرِكةٌ أوَّلًا، وتقسيمٌ آخِرًا، ولا ريبَ أنه تقسيمٌ على المجازفةِ لا غير، مع التَّفاوُتِ فى الأَكلِ.. وقد مَرَّ معنا الجواب أنها ليست من باب المعاوضات التى تجرى فيها المُمَاكَسَةُ، أو تدخلُ تحت الحُكْم، وإنَّما هى من باب التسامح والتعامل] اهـ.

ومِن جملة ما جاءت به السُّنَّةُ النبوية المطهرة فى ذلك: ما رواه أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إذا أَرْمَلُوا فِى الْغَزْوِ، أو قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوا بَيْنَهُمْ فِى إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، وَهُمْ مِنِّى وَأَنَا مِنْهُمْ» متفقٌ عليه.

قال الإمام شرف الدين النَّوَوِى فى "شرحه على صحيح الإمام مسلم" : [وفى هذا الحديث: فضيلة الأشعريين، وفضيلة الإيثار والمواساة، وفضيلة خَلْط الأزواد فى السَّفَر، وفضيلة جَمْعِهَا فى شيءٍ عند قِلَّتِها فى الحَضر ثم يُقسم، وليس المراد بهذا القسمة المعروفة فى كتب الفقه بشروطها ومَنْعها فى الرِّبويات، واشتراط المواساة وغيرها، وإنما المراد هنا: إباحة بعضهم بعضًا، ومواساتهم بالموجود] اهـ.

ومما يجدر التنبيه عليه: أن إقدام المكلَّف على أى تصرفٍ حال حياته يفيد ورثتَه أو مَن هُم فى نفقته بَعد وفاته يُعد من الأمور التى رغَّب الشرعُ الشريفُ فيها، بل قد يَفضُل الصدقةَ إذا قصد به أن يترك لهم من المال ما يُغنِيهم مِن بَعده عن تكفُّف الناس والاحتياج إلى صدقاتهم، ويَفضُل كذلك وصيَّتَه بشيءٍ من ماله لغيرهم أن كان ما يتركه من المال قليلًا، وهو مَلْمَحٌ شرعى أشار إليه سيدُنا النبى صلى الله عليه وآله وسلم بقوله لسعد بن أبى وَقَّاص رضى الله عنه: «إِنَّكَ أن تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أن تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» متفق عليه.

وعن سيدنا على أمير المؤمنين رضى الله عنه أنه دخل على رجل من بنى هاشم يَعُودُهُ، فأراد أن يوصى، فنهاه، وقال: "إِنَّ اللهَ يَقُولُ: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ [البقرة: 180]، وَإِنَّكَ لَمْ تَدَعْ مَالًا، فَدَعْهُ لِعِيَالِكَ" أخرجه الإمام ابن أبى شيبة فى "المصنف".

وعن السيدة عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: قال لها رجلٌ: إنى أريد أن أوصى، قالت: "كَمْ مَالُكَ؟" قال: ثلاثة آلاف، قالت: "كَمْ عِيَالُكَ؟" قال: أربعة، فقالت: "قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ [البقرة: 180]، وَإِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يَسِيرٌ، فَاتْرُكْهُ لِعِيَالِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ" أخرجه الإمامان: ابن أبى شيبة فى "المصنف"، والبيهقى فى "السنن الكبرى" واللفظ له.

قال الإمام أبو الحسن بن بَطَّال فى "شرح صحيح الإمام البخاري" :[ولم يكن لسَعْدٍ إلا ابنة واحدة كما ذكر فى هذا الحديث، فدَلَّ هذا أن تَرْكَ المال للورثة خيرٌ من الصدقة به، وأنَّ النفقة على الأهل من الأعمال الصالحة... قال ابن المُنْذِر: فدَلَّت هذه الآثارُ على أن مَن تَرَك مالًا قليلًا، فالاختيار له تَرْكُ الوصية وإبقاؤه للورثة] اهـ.

الخلاصة

بناءً على ذلك وفى واقعة السؤال: فإن التأمين على الحياة أمرٌ جائزٌ شرعًا، وهو فى جملته تكاتُفٌ وتكافُلٌ وتعاوُنٌ على البِر والإيثار، وجارٍ على أصول مكارم الأخلاق التى تتلاقى معانيها ومقاصدها معَ ما وردت به الشريعة الإسلامية من مواقف وتوجيهات تَجلَّى فيها روح التعاون والمواساة عند توقع الخطر والتماس طرق الوقاية منه.









الموضوعات المتعلقة


مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة