إذا سألت أى متابع عربى للشأن الإسرائيلى، عن تحليله وقراءته لما يحدث فى الشأن الداخلى للدولة العبرية، سيجيب برؤيته الخاصة القائمة على قوة الكيان وقدراته الكبيرة، وأن إسرائيل صارت إمبراطورية كبرى قادرة على تنفيذ كل مخططاتها، بما تمتلكه من جيش قوى وتسليح متطور يعتمد على كل وسائل التكنولوجيا الحديثة، بما فيها الذكاء الاصطناعى، علاوة على المساندة والدعم اللامحدود من الولايات المتحدة الأمريكية!
هذه الصورة الذهنية المشكلة، للأسف، عند معظم المتابعين والمراقبين للشأن الإسرائيلى، مستوحاة مما تنشره وسائل الإعلام الإسرائيلية بمختلف مشاربها، وجميعها تتحدث بفخر واعتزاز عن قوة إسرائيل، وقدراتها الخارقة، وجيشها الذى لا يقهر - مع أنه قهر فى السادس من أكتوبر 1973 - وكأن الإعلام الإسرائيلى لا ينطق عن الهوى!
لكن إذا ما قرر المتابع والمراقب للشأن الإسرائيلى، التدقيق والحصول على معلومات موثقة، بعيدا عما تنشره وسائل الإعلام العبرية، سيكتشف أن إسرائيل تعيش تشققات عنيفة فى البنية التحتية للمجتمع، واندثار الرؤية السياسية، والتركيز فقط على الجانب العسكرى والأمنى، والاستثمار فى كيفية تقديم صورة مضللة لا تقترب من بعيد أو قريب عن الواقع الحقيقى، من خلال ما تنشره وسائل الإعلام، وما تبثه السوشيال ميديا.
إسرائيل اليوم، هى صورة لامعة يصوغها الإعلام العسكرى، ويقدمها للداخل والخارج، كدولة مستقرة، متماسكة، تمتلك رؤية وتتحرك بثقة، عكس الواقع الحقيقى، فهى دولة تركض وراء سراب وتتحكم فيها أساطير، وتهرب من واقع مأزوم إلى صناعة مؤامرات، فى مقابل انهيار الرؤية السياسية.
وبالعودة لكتالوج التاريخ، تكتشف أن المشروع الصهيونى وُلِد كبوصلة معلومة وواضحة، تأسيس وطن قومى آمن لليهود، وبعد مرور أكثر من 75 سنة، انحرفت البوصلة عن اتجاهها، ودخلت فى دائرة مغلقة لا تشير إلا إلى نفسها فقط؛ ففى السنوات الأخيرة سيطر اليمين الإسرائيلى بنسخته الدينية المتطرفة المفتقدة للرؤية والحلول السياسية، على المشهد برمته، سيطرة كاملة.
هذه الرؤية ليست من بنات أفكارى، وإنما وفق ما دشنه المؤرخ اليهودى، آفى شلايم، مؤخرا، حيث وصف - فى أكثر من مناسبة - هذا التحول بـ«الانزلاق من مشروع قومى إلى إدارة أزمات ممتدة، دون أى أفق سياسى، وأن الإيمان بنظرية المؤامرة وإحياء فكرة العالم المعادى والحرب الوجودية، كأداة حكم بديلة عن السياسة، هو المسيطر على عقول ونهج الحكومة والأحزاب اليمينية».
أيضا، عالم الاجتماع الإسرائيلى باروخ كيمرلنج، أشار إلى نقطة جوهرية تحمل حيثيات حقيقية فى توصيف النهج الإسرائيلى الحالى، مفادها أن صناعة الخطر الدائم كانت ولا تزال الآلية الأهم لإنتاج الإجماع داخل إسرائيل؛ وحكومة بنيامين نتنياهو الحالية تعتاش على هذه الفرضية لاكتساب شعبية قائمة على تصدير الوهم والخداع!
ولترسيخ هذه العقيدة، كان لا بد من وضع استراتيجية هندسة الإعلام بحيث يتحدث عن الدولة الإسرائيلية القوية التى لا تقهر، وأن المجتمع متماسك، والاقتصاد لا يتأثر، وجيش يخيف الأعداء ويحمى عرين الشعب؛ هذه الهندسة الإعلامية تتقاطع بالكلية مع الواقع الفعلى للمجتمع الإسرائيلى، حيث الانقسامات الطبقية والعرقية الحادة، وتراجع كبير للثقة فى الجيش، وزيادة طلبات الهجرة خاصة العقول، وفى أحدث تقارير عن قضية الهجرة كشفت أن ما يقرب من 100 ألف إسرائيلى من أصحاب العقول البارزة فى مختلف المجالات، هاجروا تل أبيب بالفعل، ناهيك عن حالة الزيادة الكبيرة للاستقطاب الدينى ما يهدد بقوة استقرار الكيان، من خلال دفعه الدائم نحو الحروب والجرى وراء الأساطير لتنفيذ مشاريع وهمية.
وإذا جاء الاعتراف من بين الذين فى دائرة الهندسة الإعلامية، فإنها تكتسب أهمية أكبر، من التحليل القائم على ما تنشره الصحف، إذ أكد الصحفى الإسرائيلى جدعون ليفى، أن الجيش الإسرائيلى لم يعد جيشا، بل ناطقا باسم أسطورة تحتاج إلى تجديد يومى حتى لا تتهاوى.
تأسيسا على ما سبق يمكن الجزم وبأريحية منطقية، أن إسرائيل تدار حاليا بمنطق اللحظة، وتركل المستقبل بأقدامها، وتعيش حالة استقطاب داخلى عنيف حتى بين المؤسسات، مع زيادة مفرطة فى التدين القسرى وصناعة الوهم، وغياب تام للرؤية والأهداف السياسية والقدرة على تقييم المخاطر فى ظل أنها تخوض معارك على كل الجبهات.
وربما يسأل سائل، إذا كانت إسرائيل تعانى من كل هذه المخاطر الداخلية، لماذا تقف على أقدامها، تخوض حروب إبادة، وتهدد بفرض سياسة الأمر الواقع فى المنطقة؟ والإجابة تتلخص فى أن الدول لا تنهار فجأة، وإنما تتآكل ببطء.