لماذا رفضت حضور فرح ابن زوجها؟
كيف كشفت قصة حب بليغ ووردة؟
حكاية صفائح التونة المهداة لنجوى ابراهيم
مكانتها تضاهى مكانة الملوك والرؤساء، بل تتفوق عليهم فى الإجماع على محبتها والالتفاف حولها، كوكب الشرق والغرب التى سحرت العالم – ولا تزال- بصوتها وحضورها وفنها، لم تكن مجرد صوت استثنائى، وأسطورة غنائية تعيش فى برج عاجى، بل كانت نموذجاً ل "بنت البلد"، التي تجمع بين البساطة والهيبة، خفة الدم والحكمة، القرب الشديد من الناس والقدرة النادرة على قيادة وجدانهم.
خرجت أم كلثوم من قرية طماي الزهايرة حاملة روح الفلاحة المصرية الأصيلة، ولم تتخلَّ عنها وهي تجلس على عروش الغناء في أكبر عواصم العالم، وبين أرقى وأغنى الطبقات الاجتماعية، لم يرها الناس يومًا سيدة أرستقراطية، رغم مكانتها التى لم تصل إليها فنانة قبلها ولا بعدها، بل ظلوا يرونها فنانة الشعب، القريبة منهم، الشبيهة بنيل مصر في شموخه وصموده وطيبته.
كانت تفهم الأصول كما يفهمها "ولاد البلد الجدعان"، تعرف متى تتقدم ومتى تنسحب، متى يكون الحضور فرضًا، ومتى يكون الغياب احترامًاً، متى تنهى موقفاً بمزحة ذكية وسرعة بديهة، ومتى تتخذ موقفاً حازماً صارماً ينبع من اعتزازها بنفسها أو غيرتها على وطنها، لم تحاول يوماً أن تتقمص صورة لا تشبهها، ظلت فلاحة أصيلة، وامرأة مصرية جدعة صاحبة موقف، لا تفرّط في كرامتها ولا تتخلى عن طبيعتها.
فى هذه السطور نلقى الضوء على مواقف كوكب الشرق "بنت البلد" التى بدت وكأنها تعبر عن كل شارع وحارة مصرية، عن ولاد البلد الأصلاء الذين يمزجون بين الطيبة والذكاء والمرح وقوة الشخصية وعزة النفس.
بنت نكتة وتفهمها وهى طايرة
عرفت كوكب الشرق طوال حياتها بخفة الظل وسرعة البديهة، والذكاء فى الرد، ولم تكن خفة دمها مصطنعة، بل كانت ذكاءً اجتماعياً حاضراً في التوقيت المناسب، رويت عنها طرائف كثيرة مع أصدقائها وغيرهم، من بينها ما حدث مع الشاعر الكبير أحمد رامى، الذى كان يدلل ابنه "توحيد" باسم " توحة"، وذات يوم سألته أم كلثوم عن اسمه، فقال: " توحة رامى" ، فضحكت قائلة " ياسلام ..تو ..حرامى"، وكانت تقصد كلمة "Two" بالإنجليزية.
وكان المعلم " دبشة" من أصدقائها الدائمين الحضور فى حفلاتها، وذات مرة أثناء الاستراحة فى إحدى الحفلات، تزاحم الجمهور حولها، بينما كان يحدثها فى أمر خاص، وكان وباء الكوليرا وقتها على أشده، فأشارت إليه قائلة:" أحب أعرفكم بالأستاذ ده..عمدة القرين"، وكانت القرين أول بلدة ظهرت فيها الوباء، لأول فما إن سمعوا الاسم حتى تراجعوا جميعاً وانصرفوا فوراً.
ونشرت مجلة الكواكب فى عدد نادر صدر فى 15 يناير 1957 موضوعاً بعنوان "اضحك مع ثومة"، روت فيه واقعة دخول الصحفى صالح البهنساوى متأخراً إلى حفلها بسينما ريفولى، وكان قصير القامة، فاستغلت أم كلثوم أثناء غنائها مقطع :"يطولوك ياليل ويقصرروك ياليل"، لتلقى عبارة "ويقصروك" بنظرة مباشرة إليه، وأطالت فى ذلك حتى صاح أحد الحضور:" حا يقصرأكتر من كدة "
وفى أثناء تصوير فيلم "عايدة"، تأخر العمل ليلاً بسبب انتظار "البيبى" – مصباح الإضاءة- فقالت ساخرة، وكانت واقفة تحت وهج الأضواء تنتظر استئناف التصوير: بلاش وقوف بقى ده مجايب البيبى فيها تسعة أشهر"، فضحك الجميع، ولما جاء المصور بالبيبى ظل يحركه مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار ويقدمه ويؤخره حتى يضبط الإضاءة على وجه أم كلثوم ، فقالت له كوكب الشرق:" وليه الغلب ده كله ماتجيب البيبى ده على حجرى أحسن"
ولأنها كانت "تفهمها وهى طايرة"، كان ذكاؤها الاجتماعى حاضراً فى موقفها مع بليغ حمدى حين أدركت أن بعض مقدمات ألحانه، مثل: بعيد عنك، والحب كلّه، وسيرة الحب، وأنساك، كانت رسائل حب لوردة ، فقالت له ضاحكة: "انت عاملنى كوبرى ياواد عشان توصل رسايل لحبيبتك"
تحارب على أكبر مسارح العالم
ورغم خفة ظلها، كانت أم كلثوم قوية وحاسمة فى الدفاع عن وطنها، طافت بلاد العالم تغنى على أكبر المسارح، وتخصص حصيلة الحفلات للمجهود الحربى، بعد النكسة وقبلها، تقاتل بصوتها مع الجنود، وبدأت بجولات فى المحافظات بعد تأسيس هيئة التجمع الوطنى للمرأة المصرية، وقادت بحملات دعت فيها المواطنين للتبرع بالذهب من أجل دعم الدولة فى نقص العملات الاجنبية، ويشير كريم جمال فى كتابه: "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى" إلى أن دور كوكب الشرق كان مشروعاً دائماً ومستمراً امتد من عام 1967 حتى حرب أكتوبر 1973، ولم يوقفه موت الزعيم عبد الناصر، عام 1971، وكان شعار الإذاعة المصرية "أم كلثوم معكم فى المعركة".، كما كان لصوت كوكب الشرق دور فى ترميم وإعادة صياغة العلاقات العربية.
وطبقاً لما ذكره كريم جمال فإن أم كلثوم قدمت ما يقرب من ثلاثة ملايين جنيه مصرى دعمًا للمجهود الحربى، ونصف مليون جنيه بالعملة الصعبة، و مئات الكيلوجرامات من الذهب، خلال جهودها وحفلاتها الداخلية والخارجية ما بين عامى 1967 و1972، فغنت فى دمنهور والإسكندرية وطنطا والمنصورة، وزارت باريس، ثم المغرب، والكويت، وتونس، والسودان، وليبيا، والاتحاد السوفيتى ، والإمارات، كما زارت مدينة بعلبك الأثرية فى لبنان مرتين.
وكانت كوكب الشرق تحصل على أعلى أجر بين كل نجوم العالم اللذين غنوا على أهم مسارح باريس، وتبرعت بكامل المبلغ للمجهود الحربى بعد النكسة، وعندما سألتها المذيعة سلوى حجازى، قالت: "مش كتير على مصر"
وكان لأم كلثوم موقفاً مشرفاً لا ينسى على مسرح الأوليمبيا فى باريس ، يظهر كيف كانت تعتز بوطنيتها وبنفسها ولا تقبل تقديم أية تنازلات أو مواربة فى المواقف، وهو الموقف الذى حكاه الكاتب الكبير محمد سلماوى فى مذكراته" يوماً أو بعض يوم"
وأشار سلماوى الذى كان شاهداً على هذا الموقف إلى أنه فوجئ فى الاستراحة بـ"كوكاتريكس" مدير مسرح الأولمبيا يطلب منه التوجه معه إلى أم كلثوم، حيث كان كثيرا ما يحتاج إلى الترجمة فى حديثه معها لأنها لم تكن تحدثه إلا باللغة العربية، رغم أنها كانت تجيد الفرنسية.
وتابع سلماوى :"كان عازف الكمان الأول أحمد الحفناوى إلى جوارها، وبقية أعضاء الفرقة يستمعون إليها وهى تبدى بعض الملاحظات، فحياها «كوكاتريكس» وقبل يدها، فردت عليه التحية من دون أن تنهض من كرسيها، فأبدى مدير المسرح اعتراضه على طريقة تقديم الوصلة الأولى من الحفل التى «تحدث فيها المذيع حديثا سياسيا ليس هذا مجاله»، على حد قوله، وكان جلال معوض قد قدم الحفل باعتباره نصرا سياسيا للعرب، وقال: «اليوم تشدو كوكب الشرق فى عاصمة النور باريس، وغدا بإذن الله تشدو فى القدس المحررة»، وناشد «كوكاتريكس» أم كلثوم أن تطلب من «المذيع» ألا يقدم الوصلة الثانية بهذه الطريقة الحماسية، مضيفا: "نحن فى حفل فنى، ولسنا فى مناسبة وطنية"
وأوضح الكاتب الكبير أنه شعر بالحرج من الموقف، وتحير كيف سيترجم ذلك لأم كلثوم، لعلمه بأنها لن تقبل هذا الكلام، لكنه وجدها تنتفض واقفة وقد فهمت من دون ترجمة كل ما قاله المدير اليهودى للمسرح، وقالت: «قل له بل نحن فى مناسبة وطنية، وإنى جئت إلى فرنسا من أجل المساهمة فى المجهود الحربى لبلادى، وإذا كان أسلوبنا لا يروق له فليعتبر اتفاقنا لاغيا، ثم التفتت إلى الموسيقيين وقالت لهم "لموا الآلات يا ولاد"
يصف سلماوى رد فعل مدير المسرح ، مؤكداً أنه كاد يغشى عليه، وأمام اعتذاراته المتكررة وتوسلاته المتلاحقة، تراجعت أم كلثوم، وقدم جلال معوض الوصلة الثانية من الحفل التاريخى دون أن تحاول أم كلثوم كبح حماسه الوطنى.
وهكذا كانت كوكب الشرق قوية حاسمة واضحة فيما يخص مواقفها الوطنية، حتى وإن كان الثمن ان تلغى حفلها على أكبر مسارح العالم، رافضة أن يملى عليها شخص اياً كان ما يخالف قناعتها ورسالتها.
كريمة وصاحبة واجب
ورغم ما يدعيه البعض عن بخل أم كلثوم إلا أن الكثير من مواقفها تؤكد عكس ذلك، فكيف لمن يتصف بصفة البخل أن يضحى بكامل أجره فى الحفلات ويتبرع به لبلده، فضلاً عن الكثير من المواقف التى تشير إلى كرم كوكب الشرق، ففى عدد نادر من مجلة الكواكب صدر عام 1951 نشرت المجلة موضوعاً تحت عنوان "أهل الفن بين الكرم والبخل"، وذكرت فيه المجلة أن الروايات اختلفت حول أم كلثوم وهل هى بخيلة أم كريمة؟
وأشارت الكواكب إلى أن المقربين من أم كلثوم أكدوا أنها كريمة إلى أبعد حدود وأنها اذا دعت مجموعة من زميلاتها وزملائها للغداء أو العشاء فى بيتها تصر أن يأكلوا كل ما تقدمه إليهم من أصناف الطعام ، وتعتبر ترك بقايا طعام على المائدة إهانة كبيرة لها.
كما كان منزلها يمتلئ بالحركة والزائرين خلال شهر رمضان ، حيث اعتادت أن تلتقى كل ليلة بجميع أفراد أسرتها على مائدة الإفطار التى تمتلئ بكل أنواع الطعام، بالرغم من أن كوكب الشرق كانت لا تأكل من هذه الأطعمة وتكتفى بما أوصاها به الطبيب، وكانت تدعو أقاربها القادمين من الريف وأحياناً تدعو أصدقائها المقربين للإفطار وقضاء السهرة فى بيتها بين جلسات الأدب والفن والشعر وتبادل القفشات والنكات.
وأكدت المجلة أن أم كلثوم تخصص مرتبات ثابتة شهريا لعائلات الفانين الذين ساعدوها فى بداية حياتها الفنية، وأنها تحرص على إخفاء أسماء هؤلاء الفنانين الذين تساعدهم.
وأضافت الكواكب أن أبغض شيئ تكرهه أم كلثوم هو دفع بقشيش للخدم، ولها رأى فى البقشيش حيث ترى أنه عادة جلبها الاستعمار معه، لكى يسهل عليه إذلالنا.
ورغم كرمها إلا أن كوكب الشرق وبروح الفلاحة المصرية الذكية كانت لا تحب أن يستغلها أحد، وهو ما يتضح من موقف رواه الكاتب الصحفى مصطفى أمين حدث قبل ثورة ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢، جيث أشار الكاتب الصحفى الكبير إلى أن أحد أفراد فرقة أم كلثوم، والذي كان يعمل معها منذ ١٥ عاماً، طلب منها أن تقرضه ٥ جنيهات، لأنه ليس لديه قرش يطعم به أولاده فرفضت، فتعجب مصطفى أمين وسألها: لماذا رفضت، فردت كوكب الشرق: لأنى بخيلة، ثم ضحكت وقالت:من مصلحتي أن يقول الناس عني بخيلة حتى يبتعد عني النصابون والأفاقون"
وبعدها عرف مصطفى أمين أن هذا الموسيقي خسر على مائدة القمار ٣٠٠ جنيه، فأرادت كوكب الشرق أن تعلمه كيف يذل القمار صاحبه، ولكنها تواصلت مع زوجة العازف تليفونياً وأخبرتها بأنها سترسل لها مع سائقها خمسين جنيهاً بشرط ألا تخبر زوجها ، وتتركه يدوخ ويتعذب ويشحذ حتى يعرف مرارة عقاب لاعب القمار.
ومما يدل على أن أم كلثوم كانت مجاملة تعرف الأصول والتقاليد الشعبية موقف روته الإعلامية الكبيرة نجوى إبراهيم، عندما ذهبت لإجراء حوار تلفزيونى مع كوكب الشرق قبل حفلها فى تونس، وقالت الإعلامية الكبيرة: "أول ما شافتنى بصت عليا وقالت البنت العيلة دى هى اللى هتعمل حوار معايا"، فقالت نجوى ابراهيم لأم كلثوم: "ممكن أقول لحضرتك حاجة، الفستان اللى لبساها مش تلفزيونى"، وهنا طلبت منها كوكب الشرق أن تختار لها الفستان االمناسب قائلة :" اختارى ياستى الفستان المناسب للتلفزيون"، وبالفعل اختارت لها ما ترتديه ووافقت كوكب الشرق، وتقاربا خلال الرحلة، وسألتها مرة: ماذا تأكلين فقالت التونة، وفوجئت نجوى بعد عودتها الى القاهرة بكوكب الشرق تدعوها لزيارتها في المنزل ومنحتها هدية عبارة عدد من صفائح التونة، التى تزن كل منها 6-7 كيلو جرام حتى تأكل منها وتوزع على أقاربها، وهو ما يؤكد أن أم كلثوم كانت صاحبة واجب ومجاملة، واحتفت بطباع الريف وولاد البلد.
ومن أكثر المواقف الإنسانية التى تؤكد على أصالة كوكب الشرق وحرصها على مشاعر غيرها، وأنها تعرف متى تغيب ومتى تحضر ، ما حكاه المخرج حسن عيسى، قائلاً :"أثناء تحضير مسلسل أم كلثوم، كنت مخرج منفذ مع الأستاذة إنعام محمد علي، وتقابلنا مع إحسان مساعدة أم كلثوم، والتى حكت عنها مواقف كثيرة، ولكن كانت أكتر حكاية تأثر بها، عندما أشارت إحسان إلى أن أم كلثوم رفضت حضور فرح ابن زوجها الدكتور حسن الحفناوى، رغم أنه عاش معها وكانت تعتبره ابنها، وعندما سألتها مساعدتها عن السبب، أجابت كوكب الشرق: "مش عايزة أسرق الفرحة من أمه، دي ليلتها، و لو أنا روحت، الناس هتتجمع حوليّ، ومحدش هيبص لأم العريس، سيبيها تفرح بابنها، وأنا أزوره في بيته بعد كده»