في نهاية سنوات التسعينيات من القرن العشرين شاهد وقرأ الملايين من عشاق كوكب الشرق أم كلثوم أهم مسلسل وكتاب لتوثيق سيرة حياة وزمن الست.
ومع تقديري لمئات من المؤلفات التي صدرت عن سيدة الغناء العربي في الشرق والغرب وبعض الأعمال الفنية التي تناولت سيرتها. فان كتاب الباحثة والكاتبة الأميركية الدكتورة فيرجينيا دانيلسون المتخصصة في علم الموسيقى بجامعة هارفارد "أم كلثوم ..صوت مصر والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين" الصادر عام 1997 الذي ترجمه عادل هلال عناني، وصدر عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة. هو الأكثر دقة في عرض سيرة أم كلثوم في إطار تاريخي واجتماعي وثقافي وسياسي لزمن الست منذ ميلادها في عام 1904 وحتى رحيلها عام 1975.
ورغم محاولات بعض الأعمال السينمائية والدرامية تناول حياتها وفنها إلا أن مسلسل "أم كلثوم" الذي تم عرضه عام 1999 يبقى الوثيقة الدرامية الموثوق بها عن كوكب الشرق، ومازال ملايين العشاق للست وصوتها يشاهدونه بشغف حتى الآن (يعاد عرضه حاليًا مرة أخرى على شاشة القناة الأولى بالتليفزيون المصري).
أهمية كتاب السيدة فرجينيا وما يميزه ويضعه في صدارة مئات الكتب التي تناولت حياة وفن كوكب الشرق، أنه عبارة عن بحث نظري وميداني استغرق خمس سنوات من عمر صاحبته (عمرها حاليا 79 عامًا) قضتها داخل مصر وخارجها، بهدف وضع "ظاهرة أم كلثوم" في سياقها التاريخي وربط صعودها بمجريات التغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي في مصر أوائل القرن العشرين عبر قراءة مجموعة من الصور الفوتوغرافية والوثائق النادرة ومصادر مختلفة في دراسة أم كلثوم وتحليلها.
في بداية كتابها تقول: كان من اليسير الوصول إلى معلومات وفيرة عن أم كلثوم، ولكن الإجابات التي كنت أنشدها لأسئلتى كانت أشتات منثورات في مواضع متفرقة من تلك المصادر الكثيرة، فقمت بضم تلك الأشتات بعضها إلى بعض لتكوين الإجابات المرجوة من عدد يربو، فعليا وليس مجازيا، على المئات من الإعلانات الصغيرة جدا والمقالات النقدية والمقابلات الصحفية والتي جمعتها وتفحصتها على مدى سنوات، وهنا أود أن أسجل شكري لبرامج فولبرايت هيز فى مصر، وشكرى لمؤسسة روكفلر على المنحة لتي أتاحتها لي للقيام بأبحاث ما بعد الدكتوراه في معهد دراسات الدين والأدب والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر بجامعة تكساس في أوستن، وشكري لمكتبة جامعة هارفارد على ما قدمته من عون طوال السنوات التي استغرقتها هذه الدراسة هذا وقد تكفلت مؤسسة دوجلاس برايانت للمنح الدراسية بجامعة هارفارد بنفقات الحصول على حقوق النشر ونفقات إعداد المواد الإيضاحية.
تذكر الباحثة الموسيقية أن المصريين لم يحبوا صوت أم كلثوم وحسب بل احترموها، و"عندما ننظر إليها نرى خمسين عاما من تاريخ مصر، فهي لم تكن مجرد مطربة، فمن تكون إذن؟ وما الدور الذي لعبته الموسيقى في تشكيل شخصيتها وفي تشكيل نظرة الجماهير إليها، وهل يمكن لخمسين عاما في المجتمعات العربية - والتي تبدو النساء في أعين الغرباء مقهورات وصامتات ومحجبات - أن تعبر عنها امرأة واحدة من خلال عملها وحياتها.. وهي الأسئلة التي أجابت عليها في كتابها البحثي.
تقول دانيلسون في كتابها: "كانت صورتها الشعبية عبارة عن بناء واضح ومحكم، إلا أنه لم يكن مصطنعاً ولا زائفاً. فقد تعلمت أم كلثوم ببساطة أن تُقدم نفسها بالطريقة التي تريد أن يراها العامة وأن يتذكروها بها. لنفهم أم كلثوم حقاً ليس فقط بوصفها مطربة ولكن بوصفها ظاهرة اجتماعية تستمر في التألق، علينا كما تقول دانيلسون: ألا ندرك الحياة وراء الأسطورة فحسب. بل الأسطورة الكامنة في قلب هذه الحياة.
تقرر فيرجينيا دانيلسون حقيقة أن صوت أم كلثوم لم يكن السبب الوحيد في نجاحها وإنما "السبب الحقيقي في نجاحها هو شخصيتها".
ومع محاولة العديد من الأعمال الفنية تناول سيرة كوكب الشرق، إلا أن مسلسل "أم كلثوم" الذي أُنتج قبل ربع قرن وحقق نجاحًا استثنائيًا مدهشا استطاع أن ينقل بصدق سيرة هذه الأسطورة الفنية، يعتبر من أهم الأعمال الدرامية التي خلدت سيرتها وعرَّفت الجمهور في الوطن العربي عن قرب على حياتها ويمكن بصدق اعتباره وثيقة درامية.
السر وراء نجاح المسلسل واستمراريته يكمن في التحضير الجيد، والاختيار الدقيق للممثلين، والحرص على تحقيق أعلى درجات المصداقية، مما جعل الجمهور يشعر بأن الشخصيات التي يراها على الشاشة هي بالفعل أم كلثوم ومن عاصروها.
"أم كلثوم" لم يكن مجرد عمل درامي، بل مشروعًا توثيقيًا متكاملًا جمع بين الدقة في التفاصيل التاريخية والجوانب الفنية الراقية، وأخلص في الأداء فريق العمل، سواء من الممثلين أو الفنيين الذين عملوا خلف الكاميرا، بما في ذلك تصميم الأزياء والإكسسوارات التي عكست روح الحقبة الزمنية التي عاشتها أم كلثوم- كما تقول مخرجة المسلسل القديرة الكبيرة انعام محمد علي.
التحضير للمسلسل استغرق أكثر من عامين في جمع البيانات وجمع 1500 صورة لأم كلثوم وكل من عاصروها، فالتخطيط لسيرة ذاتية لأم كلثوم بدأ عام 1996 بين انعام و المؤلف القدير محفوظ عبد الرحمن، وخلال تلك الفترة بدأ محفوظ بكتابة العمل، وقامت المخرجة بتجميع معلومات عن تلك الفترة في حياة أم كلثوم ومصر بشكل عام، وكل ممثل كان يحصل على السيناريو ومعه معلومات وصور عن كل شخصية، حتى أن كمال أبورية أخذ بعض اللقطات الخاصة بالموسيقار أحمد رامي – الذي لعب دوره في المسلسل- في الصور.
الرائع محفوظ عبد الرحمن كان شديد الدقة في كتابة مسلسل أم كلثوم، لدرجة أنه أجرى العديد من الأبحاث، لمعرفة أدق التفاصيل عنها وعن وأسلوب حياتها، حتى لا يتم تقديم أي معلومة خاطئة عن أم كلثوم في العمل الدرامي. واعتمد في مادته العلمية على الدكتورة نعمات أحمد فؤاد التي ألفت كتابين عن أم كلثوم وهي عاشقة لها، وكانت أول من قدموا كتابا عن كوكب الشرق، "أم كلثوم.. عصر من الفن" حيث في المقدمة: هذا كتابي الثاني عن أم كلثوم، كان الأول قصة حياة، بطلتها أم كلثوم، أما الثاني فقصة عصر، سيدته هي أم كلثوم.
لم يغفل المسلسل قصص الحب التي عاشتها أم كلثوم والأزمات التي واجهتها وأعداءها، وخلافها مع الموسيقار محمد عبدالوهاب في قصة شائقة مصورة انتهت بمصالحة والأغنية الرائعة "أنت عمري". كما تناول فترة تاريخية مهمة من تاريخ مصر وابطالها مثل طلعت حرب باشا والزعيم جمال عبدالناصر، والعلاقة المتميزة التي جمعت بينه وبين أم كلثوم.
وأيضا حكاية كل أغنية، وكيف تعاملت مع ملحني ذلك العصر، وكيف كانت حبَ حياة الملحن محمد القصبجي الذي بقي مقعده فارغاً خلفها بعد وفاته. وعلاقتها مع الساسة ورجال الدين قبل وبعد ثورة يوليو مثل الشيخ العلامة مصطفى عبد الرازق أحد كبار علماء الأزهر الشريف والذي تبنى صوتها ورعاها ودعمها لمواصلة الغناء.
لاقى المسلسل نجاحاً جماهيرياً مدويا في الشارع العربي، رغم حالة الجدل التي آثارها وتهديد أسرتها باللجوء للقضاء لمنع عرضه، لكن مع النجاح الكبير اعترف الجميع بجودة العمل ودقته.
ضم المسلسل كوكبة من النجوم، وهم: صابرين-مفاجأة العمل-، أحمد راتب، وكمال أبو رية، وحسن حسني، وسميرة عبدالعزيز، وعبدالعزيز مخيون، ورشوان توفيق، وإسماعيل محمود، وسعيد عبدالغني، وعزت أبو عوف، نادية رشاد، أحمد عبد الحليم وغيرهم من النجوم. وحصلت أسرة المسلسل على كثير من الجوائز من جميع أنحاء الوطن العربي. فقد حصل المسلسل على الجائزة الذهبية كأحسن مسلسل تاريخي، وحصلت الفنانة صابرين على جائزة أفضل ممثلة، في حين حصل الممثلان أحمد راتب، وكمال أبو رية على جائزة أحسن ممثلٍ مناصفةً، وفاز محفوظ عبدالرحمن بجائزة أفضل سيناريو وحوار، ونبيل سليم أحسن ديكور، وأحسن إخراج لإنعام محمد علي.
المسلسل الذي تم عرضه يوم 8 ديسمبر عام 1999- يعني مر عليه 26 عاما -مازال هو الايقونة والوثيقة الدرامية عن حياة " الست" الحقيقية وزمنها وعصرها ورجالها.
تناول المسلسل الأيقونة سيرة حياة وزمن الست وبحث الكتاب الأهم في تفاصيل حياتها وعصرها بما يليق بأسطورة اسمها أم كلثوم.