في اللحظة التي افتُتحت فيها النسخة الرابعة من معرض إيديكس 2025، بدا واضحا أن مصر لم تعد تحضر الساحة الدفاعية كمتفرج أو كمشتر يبحث عن احتياجاته الأمنية ، بل كدولة تقدم نفسها بثقة باعتبارها قوة تصنع أمنها بيدها وتفرض احترامها على العالم من خلال رؤية واضحة وتطوير عسكري وصناعي يتجاوز حدود العرض إلى بناء منظومة متكاملة أساسها الإرادة والعقل والخبرة المتراكمة. ما شهدته القاهرة خلال هذا الحدث لم يكن مجرد تجمع لشركات السلاح الكبرى أو عرضًا لأسلحة وأنظمة متطورة بل كان تجسيدا لحقيقة جديدة تتشكل في الوعي الدولي: أن مصر أصبحت تمتلك القدرة، والبنية، والطموح اللازم لتكون فاعلا رئيسيا في صناعة الدفاع بالمنطقة وأنها تتقدم إلى المستقبل بخطوات محسوبة لا تعتمد على المساندة بقدر ما تستند إلى الذات.
إيديكس 2025 حمل رسائل سياسية وعسكرية واقتصادية لكنه قبل كل ذلك حمل رسالة دولة تريد أن تقول للعالم إنها تعرف ما تحتاجه وتعرف كيف تحققه ، وإن القوة بالنسبة لها ليست رفاهية ولا استعراضا ولا سعيا لإرسال رسائل عدائية بل ضرورة لحماية مشروع تنموي ضخم يتوسع كل يوم ومجتمع يريد أن يستقر ودولة تعمل على ترسيخ مكانة إقليمية تستحقها. فالقوة هنا ليست تهديدا بل توازنا وليست اندفاعا، بل حكمة، وليست صداما، بل بناء للهيبة التي تحمي السلام وتفرض الاستقرار.
إن صورة القوات المسلحة المصرية في هذا المعرض لم تكن مجرد حضور رمزي بل كانت تأكيدا لهوية ثابتة: قوة حكيمة رشيدة، تبني وتعمر، تحمي ولا تهدد تؤمن أن التنمية لا تُحمى إلا بقدرة صلبة وأن القدرة لا تُكتسب من الخارج بل تُصنع في الداخل. ولذلك فإن مشاركة القوات المسلحة ليس بصفتها مستعرضا للسلاح فقط ولكن بصفتها شريكا كاملا في تطوير وإنتاج وتصميم العديد من الأنظمة كان إعلانا واضحا عن أن مصر تدخل مرحلة جديدة: مرحلة الدولة التي تنتقل من الاستهلاك إلى الإنتاج ، ومن التبعية إلى الشراكة ، ومن الاعتماد على الآخرين إلى بناء قاعدة صناعية وطنية تمتلك مفاتيحها بالكامل.
لقد جاء العالم إلى القاهرة ليس مجاملة ولا بحثا عن حضور بروتوكولي بل لأن الشركات الكبرى والدول الفاعلة أصبحت تنظر إلى مصر باعتبارها مركزا إقليميا لصناعة الدفاع وبيئة مستقرة تستطيع تطبيق التكنولوجيا وتطويرها واستخدامها بكفاءة. عشرات الدول، ومئات الشركات، وآلاف الخبراء، حضروا ليروا ليس فقط ما تصنعه مصر بل كيف تفكر وكيف تخطط وكيف تضع الأمن القومي ضمن إستراتيجية شاملة تبدأ من الحدود ولا تنتهي إلا عند آخر محطة في الاقتصاد والمجتمع.
لقد تحوّل المعرض إلى مساحة تُظهر حجم التقدم الذي حققته مصر في سنوات قليلة وإلى منصة تكشف حجم الاحترافية التي أصبحت سمة الصناعة العسكرية المصرية. فالاتفاقيات التي تم توقيعها والمشاريع التي تم استعراضها والأنظمة المصرية التي لفتت الأنظار ، كلها أكدت أن القاهرة تحقق ما هو أبعد من التسليح: إنها تبني ثقة دولية وتؤسس لشراكات ممتدة وتخلق شبكة مصالح تجعل من وجودها في سوق السلاح عنصر استقرار وقدرة وتأثير.
وليس خافيا أن الصناعات الدفاعية لم تعد مجرد قطاع عسكري بل أصبحت أحد أهم قطاعات الاقتصاد العالمي ومحركًا رئيسيًا للتكنولوجيا ورافعة قوية لأي دولة تريد أن تصنع لنفسها مكانا على الخريطة. ومصر اليوم تدرك ذلك جيدا؛ لذلك فإن الاستثمار في هذا القطاع ليس قرارا عسكريا فقط بل قرار اقتصادي واستراتيجي يهدف إلى رفع القيمة المضافة المحلية وتوسيع قاعدة التصدير وإيجاد فرص عمل عالية المهارة وترسيخ حضور الدولة كقوة قادرة على إنتاج التكنولوجيا وليس استهلاكها فقط.
إن المشهد داخل أجنحة المعرض كان يُظهر بوضوح أن مصر لم تعتمد على الماضي لتواجه الحاضر بل بنت حاضرا يستطيع مواجهة المستقبل. كل جناح مصري كان يحمل قصة، وكل نظام محلي كان يحمل دلالة وكل وفد يمر كان يرى أن الدولة التي استطاعت أن تنجز في الطاقة والبنية التحتية والطرق والمدن الجديدة، هي نفسها الدولة التي تستطيع أن تتقدم في صناعات الدفاع وأن تكون جزءا من معادلة الموازين الإقليمية لا طرفا يتأثر فقط.
لقد أكدت مصر عبر هذا الحدث أن القوة ليست نقيض السلام بل شرطه وأن التنمية ليست طريقا بديلا عن الأمن، بل شريكًا له وأن الدولة القوية هي الدولة التي تُحترم إرادتها وتُصان حدودها. وهذه رسالة ليست موجهة للخارج فقط بل للداخل أيضا؛ رسالة تقول إن المشروع الوطني المصري يسير على عدة مسارات في وقت واحد: بناء الإنسان وتطوير الاقتصاد وتحقيق الأمن وصناعة مستقبل لا يعتمد على الآخرين بل على مقدرات هذه الأمة التي أثبتت تاريخيا أنها قادرة على النهوض كلما أرادت.
وفي النهاية فإن إيديكس 2025 لم يكن حدثا عسكريا فقط، ولم يكن معرضا تقنيا فحسب؛ كان شهادة دولية على أن مصر تتحول وأن قوتها تتجدد وأن إرادتها لا تنكسر وأن مشروعها الوطني يتسع ليشمل كل ما يجعل الدولة أكثر صلابة واحترامًا وقيمة. وفي هذا المشهد الذي تتابعت فيه الوفود والمفاوضات والعروض كانت مصر تقول للعالم بثقة:
إننا نصنع قوتنا… ونبني أمننا… ونكتب مستقبلنا بأيدينا