أحمد المالكى

صون الإيمان وحماية الحرية.. مسؤولية الدعاة وحدود الدور الديني بالمجال العام

الثلاثاء، 02 ديسمبر 2025 03:07 م


تشهد المجتمعات الحديثة نقاشًا متكررًا حول دور المؤسسات الدينية، وطبيعة الرسالة المنوطة بالعلماء والدعاة، ومدى حضورهم في المجال العام.

ويبرز سؤال محوري: هل دور الدعاة هو مراقبة ضمائر الناس وملاحقة ما في قلوبهم، أم أن جوهر المسؤولية الدعوية يقوم على التعليم والتنوير وحماية منظومة القيم، مع ترك مساحة الحرية التي أكّدها الشرع قبل أن تنص عليها الدساتير الحديثة؟
هذا الجدل قد يتّسع كلما اختلطت الأدوار بين التوجيه الديني والرقابة الاجتماعية، لذلك تصبح العودة إلى الأصول الشرعية والمقاصدية ضرورة لضبط الموازين.

أولًا: الأساس الشرعي لحرية الاعتقاد ومسؤولية الدعوة:

القرآن الكريم قدّم مبدأً قاطعًا في باب الإيمان: {لا إِكراه في الدين}.
هذه الآية ليست شعارًا بل قاعدة تأسيسية: الإيمان لا يدخل بالقسر، بل بالاقتناع والاختيار.
وقال تعالى: {فذكّر إنما أنت مذكّر، لست عليهم بمصيطر}؛ فالنبي، وهو صاحب الرسالة، لم يُكلَّف بالسيطرة على عقول الناس ولا بإلزامهم، وإنما بالدعوة والتذكير.
وقال عزّ وجلّ: {أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، وفيها نفي واضح لأي صورة من صور الإكراه العقدي.
هذا البناء القرآني يجعل وظيفة الداعية محصورة في بيان الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس التفتيش عن ضمائر الناس أو ملاحقة ما خفي من معتقداتهم.

ثانيًا: منهج النبي في المجال العام:

إنّ منهج النبي الكريم هو إدارة حرية الناس لا مصادرة ضمائرهم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم عاش في مجتمع متنوع دينيًا واجتماعيًّا، ولم يقم نظامه على مراقبة الناس في عقائدهم، بل على تنظيم السلوك العام.
– المنافقون كانوا يعيشون داخل المجتمع الإسلامي، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم بعضهم بالاسم، ومع ذلك لم يُقم عليهم حدًّا ولم يعاقبهم بعقوبة دنيوية بسبب معتقدهم، بل ترك أمر قلوبهم لله.
– لم يعرف المجتمع النبوي جهازًا يراقب عقائد الناس أو يفتّش في ضمائرهم، بل انصبّ دور السلطة على تنظيم السلوك الظاهر وضبط التجاوزات العملية مثل: الإضرار بالآخرين، والتعدّي والإخلال بالنظام العام.

ثالثًا: وظيفة المؤسسات الدينية الحديثة هي تعليم وخدمة عامة لا رقابة ضميرية:

في العالم المعاصر، تتطور الوظيفة الدينية باتجاه:
1- التعليم والتنوير: نشر المعرفة الشرعية الصحيحة، ومحاربة الجهل والخرافة، وتقديم خطاب عقلاني يواجه التطرف.
2- الوعظ والإصلاح الاجتماعي: التركيز على القيم المشتركة كالرحمة، السلم المجتمعي، احترام القانون، والتعاون على الخير.
3- تعزيز العيش المشترك: دعم مبادئ التعدد والتنوع، بما يتسق مع الشريعة التي قررت حرية الإنسان ومسؤوليته الفردية.
أما تحويل الداعية إلى «مُنقِّب»عن ضمائر الناس، فهذا يحمّله مسؤوليات ليست من اختصاصه شرعاً ولا قانوناً، ويشوه دور الخطاب الديني ويحوله إلى أداة صراع بدلاً من أن يكون أداة بناء.

رابعًا: الشريعة والأنظمة الحديثة هي نقطة التقاء في حماية الحرية:

الدساتير العربية، ومنها الدستور المصري، قررت مبدأ حرية العقيدة والاعتقاد، وحرية ممارسة الشعائر، وحماية كرامة الإنسان.
والمتأمل يجد تطابقًا واضحًا بين هذه المبادئ وبين المقاصد العليا للشريعة:
صون النفس، والعقل، والكرامة الإنسانية.
هذه المقاصد تقتضي ألا يتحول الخطاب الديني إلى سلطة قهر، بل إلى سلطة معرفة وإرشاد.

خامسًا: لماذا يرفض بعض التيارات هذا المنهج؟

تاريخيًا، بعض التيارات الفكرية والدعوية اعتادت أن تربط الدين بالسيطرة السياسية والاجتماعية، فترى أن تراجع نفوذها يعني «تراجع الدين».
لكن هذا الخلط غير صحيح:
فإنّ قوة الدين تأتي من حجته وعدله، لا من القمع، والمجتمعات التي توسّعت في الرقابة العقدية انتهت إلى تناحر واتهام متبادل، بينما المجتمعات التي ركّزت على التعليم والقدوة والسلوك الأخلاقي أنتجت استقرارًا واحترامًا للدين نفسه.
وفي الختام : إن الدور الحقيقي للمؤسسات الدينية والعاملين فيها هو:
تنوير العقول، وإرشاد الناس، وحماية مساحة الحرية التي تسمح للإنسان بأن يختار إيمانه ويُصلِح نفسه بإرادة واعية.
وعندما يلتزم الدعاة بهذا النسق، فإنهم يحفظون للدين مكانته الرفيعة، وللمجتمع توازنه، وللدولة استقرارها.
أما تحويل الخطاب الديني إلى أداة تفتيش على النوايا فهو مسار لا يقره الشرع ولا العلم ولا التجربة التاريخية.
ولذا؛ احموا حرية الناس، واصنعوا قوة عقائدكم في أنفسكم، لا على حساب الآخرين.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب