• ترامب وخطاب نزع السلاح النووي: بين الرمز والواقع
• مساعي لعدم الانجرار نحو حرب نووية: التحذيرات الروسية
• الصين: صعود نووي متسارع يربك قواعد اللعبة الدولية
• القوى النووية المتوسطة: استقرار فرنسي وغموض بريطاني وسباق هندي–باكستاني
• مخاطر تهدد الاستقرار السياسي العالمي
• محاولات نزع السلاح النووي السابقة: من باروخ إلى معاهدة TPNW
• لماذا فشلت جهود نزع السلاح الشامل؟ الأسباب التقنية والسياسية والجيوسياسية
• تصريحات غير واقعية: آراء خبراء ومحللين أمريكيين وعالميين
• اتفاقات لم تمنع التوسع النووي: من "سالت" إلى "نيو ستارت"
• قوى نووية جديدة وتعقيدات عالمية مستمرة
• مبادرة ترامب خطوة رمزية: هل يتحقق حلم عالم بلا نووي؟
قد أعمل على خطة مع الصين وروسيا لنزع السلاح النووي من دولنا وسنرى إن كان ذلك سينجح، تصريحات خرج بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 5 نوفمبر، ليعلن عن تحركات تقودها الإدارة الأمريكية لإقناع الدول النووية العظمى بالتخلى عن أسلحتها النووية من أجل جعل العالم خاليا من هذه النوعية الخطيرة من السلاح التي قد تؤدى إلى إبادة العالم أجمع، وسط مخاوف من أن تشتغل في أية وقت الحرب العالمية الثالثة في ظل التصعيد غير المحسوب في الحرب الروسية بأوكرانيا.
اتفاقيات "ستارت".. تاريخ طويل ومحاولات متعثرة
معاهدة ستارت الجديدة التي وقعتها البلدين واشنطن وموسكو في 2010 ودخلت حيز التنفيذ في 2011، حيث حددت سقف لعدد الرؤوس الحربية ومنصات الإطلاق الاستراتيجية، وسبقتها معاهدات أخرى مثل معاهدة ستارت الأولى التي انتهت في 2009، ومعاهدة موسكو التي استبدلت بستارت الجديدة في 2011، إلا أن الحرب الروسية الأوكرانية تسببت في تعليق موسكو مشاركتها في معاهدة ستارت الجديدة في 2023، لكنها أكدت التزامها بالحدود العددية.
معاهدة ستارت الجديدة على الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية
بحسب الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية، فإن المعاهدة المبرمة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسي بشأن تدابير زيادة خفض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية والحد منها، والمعروفة أيضًا باسم معاهدة ستارت الجديدة، تعزز الأمن القومي الأمريكي بوضع قيود قابلة للتحقق على جميع الأسلحة النووية الروسية العابرة للقارات المنشورة، حيث اتفقت واشنطن وموسكو على تمديد المعاهدة حتى 4 فبراير 2026.
بحسب الاتفاقية، التزمت كل من الولايات المتحدة وروسيا بالحدود المركزية لمعاهدة ستارت الجديدة بحلول 5 فبراير 2018، وهي 700 صاروخ باليستي عابر للقارات (ICBMs) منتشر، وصواريخ باليستية تطلق من الغواصات (SLBMs) منتشرة، وقاذفات ثقيلة منتشرة مجهزة بأسلحة نووية؛ 1550 رأسًا نوويًا على صواريخ باليستية عابرة للقارات منتشرة، وصواريخ باليستية تطلق من الغواصات منتشرة، وقاذفات ثقيلة منتشرة مجهزة بأسلحة نووية ، و800 قاذفة صواريخ باليستية عابرة للقارات، وقاذفات صواريخ باليستية تطلق من الغواصات، وقاذفات ثقيلة مجهزة للأسلحة النووية، منتشرة وغير منتشرة.
بالعودة إلى تصريحات ترامب عن نزع السلاح النووي، تم الرد عليها من مسئول روسي بارز بالسخرية، ففي نفس اليوم الذي خرج فيه تعهدات الرئيس الأمريكي، خرج نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري مدفيديف، عبر حسابه الشخص على "أكس"، ليقول :" لا أحد يعلم ما قصده ترامب عندما تحدث عن التجارب النوويةوربما هو نفسه لا يعلم، لكنه رئيس الولايات المتحدة، وعواقب مثل هذه الكلمات لا مفر منها، وتصريحات ترامب حول الأسلحة النووية ستجبر روسيا على تقييم مدى ملاءمة إجراء تجربة نووية شاملة بنفسها.
تغريدة المسئول الروسي مدفيديف
أسئلة ضرورية
يظل السؤال ما مدى قدرة ترامب على تنفيذ هذا التعهد، وإذا أُطفئت النار النووية من يحكم العالم؟ هل ينهار الفيتو بسقوط القنبلة؟ وهل يتحقق الحلم المستحيل بعصر جديد للسلام أم تبدأ فوضى بلا رادع؟ ويظل السؤال الأكثر أهمية وإثارة بعد تلك التصريحات كيف سيبدو العالم لو نجحت القوى الدولية فعلًا في التخلص من السلاح النووي؟
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، شهد العالم أكثر من عشر محاولات ومعاهدات تهدف إلى الحد من التسلح النووي أو منعه كليا، ومن معاهدة حظر التجارب النووية عام 1963، إلى معاهدة عدم الانتشار عام 1968، وصولا إلى اتفاقيات "ستارت" بين موسكو وواشنطن، لكنها جميعا على اختلاف صيغها باءت بالفشل أو التعثر بسبب غياب الثقة وتضارب المصالح، إذ ظلت الدول الكبرى ترى في ترسانتها النووية ضمانًا لهيمنتها وردعًا لأعدائها.
تصريحات رؤساء الولايات المتحدة عن السلاح النووي

الجدول الزمني لتصريحات رؤساء الولايات المتحدة حول نزع السلاح النووي
ورغم أن الولايات المتحدة تعد صاحبة أكبر ترسانة نووية في التاريخ، فإن خطابات عدد من رؤسائها كشفت، في لحظات فارقة، عن قناعة متزايدة بأن هذا السلاح لا يمكن أن يضمن أمناً دائماً ولا هيمنة مطلقة، فقد أعلن الرئيس الأسبق باراك أوباما، في خطاب تاريخي ألقاه ببراغ في 5 أبريل 2009، أن "بلاده ملتزمة بوضوح وبقناعة بالسعي إلى عالم بلا أسلحة نووية"، وهو التصريح الذي مثل أول إعلان رئاسي أمريكي صريح بأهداف "صفر نووي" في القرن الحادي والعشرين.

تصريحات رونالد ريجان وأوباما
وقبل ذلك بربع قرن، كان الرئيس رونالد ريجان يضع مبدأ أصبح علامة في تاريخ سباق التسلح، حين أكد خلال لقاءاته مع ميخائيل جورباتشوف عام 1985 أن "الحرب النووية لا يمكن كسبها ويجب ألا تُخاض أبدا"، في اعتراف مباشر بأن مجرد السعي وراء التفوق النووي هو مخاطرة استراتيجية كبرى.
أما الرئيس جون كينيدي، فقد عبر في خطابه خلال توقيع معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية في 7 أكتوبر 1963 عن رؤية ترى أن التفاوض وخفض مستوى الرعب النووي ليسا ضعفا بل شرطا لبقاء البشرية، مستشهدا بأن "الخوف أصبح أقل، والأمل أكبر" مع أول خطوات الحد من التجارب.

تصريحات جون كينيدي
هذا الخط البياني بدأ قبل ذلك مع الرئيس دوايت أيزنهاور، الذي حذر مبكرا، بخطاب "فرصة للسلام" في 16 أبريل 1953، من أن سباق التسلح النووي يستهلك خيرات الشعوب ويهدد السلام العالمي، داعيا إلى تحويل موارد الصراع إلى بناء الثقة الدولية، وبعده بسنوات، واصل الرئيس جيمي كارتر التأكيد في خطبه خلال أعوام 1977–1979 على أن "منع الحرب النووية هو المسؤولية الأولى للقوتين العظميين"، ووضع ضبط التسلح في قلب سياسته الخارجية، باعتباره الطريق الوحيد لتجنب كارثة لا يمكن احتواؤها.

تصريحات أيزنهاور
ورغم اختلاف الإيديولوجيات والعهود، تبقى الرسائل التي حملتها هذه التصريحات متطابقة في جوهرها، أن السلاح النووي، مهما بدا رادعاً، يظل خطرا وجوديا يهدد الجميع، وأن الطريق إلى أمن مستدام يمر عبر تقليص هذا الخطر وليس مفاقمته.
ماذا لو نجحت الخطة أخيرا؟
في عالم بلا سلاح نووي، ستتغير موازين القوى الدولية جذريًا، لن تعود الولايات المتحدة وروسيا في موقع التفوق المطلق، وستنتقل مراكز الثقل إلى مجالات أخرى مثل الاقتصاد، التكنولوجيا، والفضاء السيبراني، خاصة أن القوة لن تقاس بعدد الرؤوس النووية، بل بقدرة الدول على حماية نفسها من الهجمات الرقمية والسيطرة على الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، إلا أن هذا السلام النووي الموعود قد يطرح سؤالًا جديدًا عن مفهوم الردع، فمن الذي سيمنع اندلاع الحروب الكبرى إذا زال الرعب النووي الذي كبل القوى العظمى لعقود؟ وهل سيبقى لمجلس الأمن حق الفيتو في غياب التهديد النووي؟ البعض يرى أن نفوذ الدول الخمس دائمة العضوية سيضعف، لأن أساس قوتها التاريخي كان في امتلاكها هذا السلاح، لا في تفوقها الأخلاقي أو التنموي.
في المقابل، قد يرى آخرون أن اختفاء السلاح النووي سيفتح الباب أمام عدالة دولية جديدة، تبنى على الدبلوماسية لا على الخوف، وعلى التنافس الاقتصادي لا على سباق التسلح. لكنه أيضًا قد يكشف هشاشة النظام الدولي القائم، ويعيد رسم الخريطة السياسية للعالم بأسره.
ويقول الدكتور الحارث محمد الحلالمه، أستاذ العلوم السياسية في جامعة مؤتة، إن إعلان الرئيس الأمريكي بشأن نزع السلاح النووي يمثل اعترافات مهمة يمكن أن تشكل نقطة انطلاق لوقف سباق التسلح النووي، وإعادة تفعيل اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية، خاصة بعد إعلانه أن الولايات المتحدة تمتلك أقوى ترسانة نووية في العالم ووصفه لذلك بأنه أمر مروع، مشيرًا في الوقت ذاته إلى وجود رغبة لدى بعض القوى الكبرى بالتخلص من السلاح النووي.
ويوضح الحلالمه في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أن غياب الإرادة الحقيقية يشكل الخطر الأكبر، إذ ترى الدول المعادية تقليديًا للولايات المتحدة أن السلاح النووي يمثل الضمانة الوحيدة لبقائها ضمن دائرة القوة والردع، وأنه وسيلتها للحفاظ على مكانتها كقوى دولية مؤثرة في عالم تتعدد فيه الأقطاب، وتنتهي فيه هيمنة الولايات المتحدة على النفوذ والسيطرة العالمية.
ويضيف أن السلاح النووي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحول إلى أداة ردع ورمز للقوة أكثر من كونه سلاحًا للاستخدام الفعلي، إذ تسعى الدول إلى امتلاكه لحماية سيادتها ومنع الاعتداء عليها أو على حلفائها، غير أن الخشية العالمية ما زالت قائمة من احتمال انتقال هذا السلاح من خانة الردع إلى خانة الاستخدام الفعلي، وهو ما يعني أن “الخسارة ستكون جماعية”.
ويشير الحلالمه إلى أن الصين وروسيا لا تمتلكان ما يكفي من الثقة لتصديق الرواية الأمريكية، مؤكدًا أن التجارب السابقة أظهرت أن تصريحات الرؤساء الأمريكيين حول نزع السلاح النووي ليست سوى غطاء لخطة تمنح واشنطن فرصة الانفراد بالهيمنة العالمية. وهذا، بحسبه، سيؤدي إلى تعقيد المفاوضات وخلق حالة من الشك والريبة في النوايا الأمريكية، ما يجعل تنفيذ خطة ترامب أمرًا بالغ الصعوبة من الناحية السياسية واللوجستية.
ويشدد على أن حتى في حال نجاح الخطة المفترضة لنزع السلاح النووي، فإن العالم سيبقى في حالة سباق تسلح جديد، حيث ستسعى كل دولة كبرى إلى امتلاك الترسانة العسكرية التقليدية الأقوى والأحدث لتضمن بقاءها في موقع الردع والسيطرة. واعتبر أن الحديث عن عصر جديد من السلام لا يزال مبكرًا في ظل غياب الثقة والصدق في نوايا الدول النووية، مؤكدًا أن العالم قد يشهد استمرار الاستقطابات الدولية نفسها لكن دون سلاح نووي.
ويختم الحلالمه قوله إن العالم سيكون أكثر أمانًا واستقرارًا في حال التخلص من السلاح النووي، إذ سيسهم ذلك في بناء جسور من الثقة بين الدول، ويضع الأساس لتأسيس نظام دولي أكثر أمنًا واستقرارًا وعدلًا.
هيمنة الولايات المتحدة وروسيا: أكثر من 80% من الترسانة العالمية
تشير أحدث تقديرات موقع اتحاد العلماء الأمريكيين، Federation of American Scientists (FAS) إلى أن الولايات المتحدة وروسيا تستحوذان معا على أكثر من 80% من الرؤوس النووية على مستوى العالم، ما يجعل أي محاولة لنزع السلاح النووي رهنًا بقرارات القوتين الأعظم.

الرؤوس النووية الأمريكية
وبحسب موقع اتحاد العلماء الأمريكيين أيضا، تمتلك واشنطن ما بين 3,700–3,748 رأسًا نشطًا داخل المخزون العسكري، بينما ترفع شمولية الرؤوس المتقاعدة إجمالي العدد إلى نحو 5,000 رأس نووي، فيما تظهر بيانات وزارة الطاقة الأمريكية أن نحو 1,700–1,800 رأس فقط منتشر وجاهز للإطلاق الفوري.
أما روسيا، وفق تقديرات FAS وBulletin of the Atomic Scientists، فتحتفظ بنحو 4,300–4,380 رأسًا في الخدمة أو المخزون العملياتي، فيما تشير تقديرات غير رسمية إلى أن العدد الكلي قد يكون أعلى نتيجة برامج تحديث سرية، كما تظل موسكو الأكثر اعتمادًا على الردع النووي البحري والبالستي.

الرؤوس النووية الروسية
ويعكس الإنفاق العسكري الفجوة بين البلدين، حيث سجلت الولايات المتحدة أعلى إنفاق في العالم عام 2024 بنحو 997 مليار دولار وفق قاعدة بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، مقابل 149 مليار دولار لروسيا.
مساعي لعدم الانجرار نحو حرب نووية
هذا الحجم من الأسلحة النووية يجعل دعوة ترامب لنزعه صعبا للغاية ولكن هي محاولة لوقف أي انجرار نحو حرب عالمية جديدة، وهو ما يؤكد عليه سيرجي ماركوف، المستشار السابق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يوضح أن الحديث عن نزع السلاح النووي الذي يطرحه الرئيس الأمريكي لا يعني عمليا التخلص من الترسانات النووية، بل يهدف فقط إلى إبعاد العالم مؤقتا عن خطر اندلاع حرب نووية، مشيرًا إلى أن فكرة النزع الكامل غير ممكنة في الواقع.
ويوضح في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أن الخطر الأكبر يكمن في استخدام الأسلحة القابلة لحمل رؤوس نووية، لأن إطلاق أي صاروخ باتجاه مدينة روسية قد يدفع موسكو إلى الرد النووي الفوري، في ظل عدم قدرتها على التمييز بين ما إذا كانت تلك الصواريخ تحمل رؤوسًا نووية أم لا، وهو ما قد يفتح الباب أمام حرب نووية شاملة، مضيفا أن ترامب من خلال تصريحاته، أغلق بابين كانا قد يقودان إلى كارثة نووية الأول تزويد أوكرانيا بصواريخ "توماهوك"، حيث يرى الروس أن الجيش الأوكراني لا يمتلك القدرة التقنية على استخدامها، لأن تشغيلها يحتاج إلى منظومات استهداف رقمية شديدة الدقة للأراضي الروسية، وهي متوافرة فقط لدى الجيش الأمريكي، والثاني عودة الدول النووية إلى إجراء التجارب النووية، إذ جاء حديث الرئيس الأمريكي بعد مخاوف من احتمال استئناف تلك التجارب حول العالم.
هيمنة الولايات المتحدة وروسيا على الرؤوس النووية حول العالم .. وحدة القياس نسبة مئوية
ويشير ماركوف إلى أن تصريحات ترامب الأخيرة جاءت لتخفيف حدة التوتر النووي بعد أن أمر سابقًا بإجراء تجارب نووية أمريكية تحت الأرض، وهو قرار وصفه ماركوف بـ"الخطأ"، لأن الاختبارات الروسية التي استند إليها الرئيس الأمريكي لم تكن لأسلحة نووية فعلية، بل لصواريخ تستخدم مفاعلات نووية صغيرة كمصدر للطاقة.
كما يؤكد أن روسيا تعتبر الصراع في أوكرانيا صراعًا وجوديًا، وترى أن الغرب يستخدم أساليب "إرهابية" لتحويل كييف إلى دولة معادية للهوية الروسية، لافتا إلى أن موسكو تنظر إلى أوكرانيا على أنها جزء تاريخي من الدولة الروسية، وأن غالبية سكانها يتحدثون الروسية، لذا فإن أي محاولات لحظر اللغة الروسية تُعد في نظر الكرملين تهديدًا مباشرًا للهوية القومية الروسية.
ويشدد على أن روسيا لن تتخلى عن ترسانتها النووية لأنها تراها الضمانة الوحيدة لردع التدخل العسكري الغربي، مؤكدًا أن الدول الكبرى مثل الصين، والهند، وباكستان، وبريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل، وكوريا الشمالية لن توافق هي الأخرى على نزع سلاحها النووي، لأن كلًّا منها يشعر بتهديد وجودي لأمنه القومي، مشيرا إلى أن تصريحات ترامب حول نزع السلاح النووي قد تكون ذات قيمة تكتيكية في الحد من التصعيد، لكنها عديمة الجدوى استراتيجيًا، لأن أي دولة تمتلك السلاح النووي لن تتخلى عنه طوعًا، في ظل واقع دولي متوتر يقوم على توازن الردع والخوف المتبادل.

القدرات النووية لدول العالم
الصين: صعود نووي متسارع يربك قواعد اللعبة الدولية
كما يُظهر SIPRI Yearbook 2025 أن الصين أصبحت قوة نووية صاعدة بسرعة غير مسبوقة، إذ ارتفع عدد رؤوسها إلى نحو 600 رأس نووي مع توسع سنوي ملحوظ منذ 2020، كما يشير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام إلى أن بكين تزيد قواعد الإطلاق الصاروخي وتبني صوامع جديدة في صحراء جانسو وشينجيانج، رغم استمرار تبنيها سياسة عدم البدء باستخدام السلاح النووي.

الرؤوس النووية الصينية
أما الإنفاق العسكري الصيني، فهو من أكثر الملفات غموضًا عالميًا، فرغم إعلان بكين ميزانية رسمية أقل، تقدر تحليلات باحثي معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام و مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، الإنفاق الحقيقي بين 295–320 مليار دولار لعام 2024، ما يجعلها ثاني أكبر دولة في الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة.
ورغم ما تمتلكه بكين من إمكانيات نووية كبيرة إلا أنها تحمل واشنطن مسئولية فشل نزع هذا السلاح من العالم، وهو ما يشير له نادر رونج، المحلل السياسي الصيني، في تصريح خاص لـ"اليوم، بأن موقف الصين من قضية نزع السلاح النووي واضح وثابت، إذ تؤكد أن الولايات المتحدة يجب أن تتحمل المسؤولية الأولى في هذا الملف، باعتبارها تمتلك أكبر مخزون من الأسلحة النووية في العالم، يضم أكثر من خمسة آلاف رأس نووي، تليها روسيا التي تمتلك تقريبًا العدد نفسه من الرؤوس النووية.
ويوضح رونج أن الصين تمتلك عددًا محدودًا من الأسلحة النووية لا يتجاوز خمسة إلى ستة مئات رأس نووي فقط، مشددًا على أن القدرات النووية الصينية تُحافظ على الحد الأدنى اللازم للدفاع عن النفس، وأن السياسة النووية الصينية ذات طابع دفاعي بحت، خاصة أن الصين هي الدولة الوحيدة التي تعهدت رسميًا بعدم المبادرة باستخدام السلاح النووي أولًا، وعدم استخدامه ضد الدول أو المناطق الخالية من الأسلحة النووية.
ويؤكد أن القوة النووية الصينية تُستخدم فقط للرد في حال تعرضها لهجوم نووي، لافتا إلى مطالب الصين للولايات المتحدة بأن تكون الطرف الأول في تقليص ترسانتها النووية والتخلص من جزء من أسلحتها، التزامًا بمسؤوليتها الدولية تجاه حفظ الأمن والسلم العالميين.
ويشير إلى أن الصين شاركت في مبادرات دولية عديدة في مجال نزع السلاح النووي، من بينها اتفاقية الحظر الشامل للتجارب النووية التي وقعتها منذ عقود، مؤكدًا أن بكين لم تجرِ أي تجارب نووية منذ ذلك الحين، ولم تنشر أسلحة نووية خارج أراضيها، وتعارض بشدة أي سباق تسلح جديد، ولن تشارك في مثل هذه المنافسات التي تهدد الاستقرار الدولي.
القوى النووية المتوسطة: استقرار فرنسي وغموض بريطاني وسباق هندي–باكستاني
فيما تعد فرنسا القوة النووية الأكثر استقرارًا عدديًا، إذ تُبقي على 290 رأسًا وفق تقديرات نشرة العلماء الذريين ، مع برامج تحديث للغواصات والصواريخ، أما بريطانيا فتمتلك نحو 225 رأسا، لكن مراجعات الأمن القومي الأخيرة فتحت الباب لرفع السقف إلى 260 رأسًا مستقبلًا، وسط درجة شفافية تعتبر متوسطة.
توزيع الرؤوس النووية حول العالم
كما تمتلك الهند نحو 172 رأسًا وفق موقع اتحاد العلماء الأمريكيين، بينما تبلغ ترسانة باكستان نحو 170 رأسًا، وهي أرقام تُظهر سباقًا نوويًا متوازنًا بين الجارتين، يكاد يكون سباق ردع ثنائي متواصل.
مخاطر تهدد الاستقرار السياسي العالمي
ويقول الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية، إن ترامب لا يستطيع أن ينزع السلاح النووي من الدول الأعضاء في النادي النووي، موضحا أن القوى النووية الرئيسية التي يستهدفها ترامب، مثل الصين وروسيا، تخضع لاتفاقيات ومعاهدات دولية صارمة تنظم مسألة التحكم في الأسلحة ونزع التسلح منذ اتفاقيتي سولت 1 و2 مرورًا باتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية (NPT) وغيرها من الاتفاقيات الملزمة.
ويؤكد في تصريح لـ"اليوم السابع"، أن ما يطرحه ترامب في هذا الصدد هو طرح غير واقعي، واصفا إياه بأنه كلام فوضوي لا أساس له من الصحة، خاصة أن العالم اليوم لا يتحدث عن نزع السلاح النووي بقدر ما يتحدث عن الحد من انتشاره.
ويضيف أن هناك دولًا تتبع استراتيجية الغموض النووي مثل إسرائيل، وأخرى وصلت إلى العتبة النووية مثل إيران التي باتت قادرة على إنتاج القنبلة الذكية، فيما تمثل كوريا الشمالية حالة خاصة تعتبرها واشنطن دولة مارقة تهدد منظومة الأمن النووي العالمي.
ويوضح فهمي أن التوازن النووي بين موسكو وواشنطن لا يسمح لأي طرف بالتحكم في ترسانة الآخر، إذ أن الرؤوس النووية الروسية تفوق نظيرتها الأمريكية عددا وتأثيرا، مما يجعل أي حديث عن نزع شامل للسلاح النووي أمرا غير ممكن عمليا ولا سياسيا.
ويشير إلى أن العالم يعيش مرحلة خطيرة تتزايد فيها النزعات نحو القوة والتسلح، لاسيما أن دولًا مثل إسرائيل وباكستان والهند لا يمكنها التخلي عن أسلحتها النووية في ظل صراعاتها الإقليمية لكنه يوضح في الوقت ذاته أن ترامب قد يسعى إلى فتح ملفات حساسة في منظومة الصراع الدولي، وهو ما قد يؤدي إلى مخاطر حقيقية تهدد الاستقرار السياسي العالمي.
مقارنة الإنفاق العسكري بين دول العالم- وحدة القياس مليار دولار
محاولات نزع السلاح النووي السابقة
منذ ظهور السلاح النووي في منتصف القرن العشرين طُرحت أفكار ونفذت اتفاقيات تهدف إلى الحد أو القضاء على الأسلحة النووية. لكن رغم بعض النجاحات الجزئية مثل حظر الاختبارات الجزئية، خفضات ثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا، واتفاقات عدم انتشاره، ولكن فشل العالم حتى الآن في تحقيق نزع سلاح نووي شامل عالمي.

محاولات فاشلة لنزع السلاح النووي
أولى المحاولات كانت من خلال خطة باروخ 1946 حيث بعد نهاية الحرب العالمية الثانية اقترحت الولايات المتحدة الخطة لإخضاع التكنولوجيا النووية لهيئة دولية ومن ثم تفكيك الترسانات الوطنية، إلا أن الرفض السوفييتي وعدم الاتفاق على آليات الرقابة الدولية أجهض المبادرة ومهد لسباق تسلح نووي بين طرفي الحرب الباردة.
خطوات الاختبارات والحد المبكر، حيث تم توقيع اتفاقية الحظر الجزئي للتجارب النووية (PTBT) عام 1963 التي حظرت الاختبارات في الهواء والمياه لكن لم تمنع كل أنواع التجارب، إلا أنه لاحقًا أُقرت معاهدات ثنائية مثل معاهدات START بين واشنطن وموسكو تقليص مجموع الترسانتين، لكنها لم تعن نزعًا عالميًا شاملاً.
معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية NPT، والتي دخلت إلى حيز التنفيذ عام 1970، وهي لا تزال الإطار المتعدد الأطراف الأهم الذي يلزِم الدول غير النووية بعدم السعي للسلاح النووي بينما يتعهد أصحاب السلاح بالسعي نحو نزع السلاح لكن الالتزام الطرفي بالتحرك الفعلي نحو الإبادة الشاملة ظل ضعيفًا والاتفاقية لم تُنقِذ العالم من وجود ترسانات نووية كبيرة.
معاهدات ومبادرات لاحقة
معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBT) التي أقرت عام 1996 ولكنها لم تدخل حيز النفاذ لأن عددا من الدول المدرَجة في الملحق 2 لم تُصدق عليها منها الولايات المتحدة، الصين، والهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية وغيرهم، حيث تكشف هذه المعاهدة كيف أن نصا دوليا يمكن أن يبقى فعالًا شكليًا دون أن يُطبق.
كما تم اعتماد معاهدة حظر الأسلحة النووية (TPNW) في 2017 وداخلت حيز النفاذ في 2021، لكنها لاقت رفضًا من الدول المالكة للأسلحة النووية ولم تنضم إليها، فبقيت خطوة مدنية هامة لكنها غير قادرة على إجبار الحائزين على تفكيك ترساناتهم.
لماذا فشلت جهود نزع السلاح الشامل؟
عدة أسباب أدت إلى فشل جهود نزع السلاح الشامل، على رأسها منطق الردع والأمن، حيث إن الدول النووية ترى في ترسانتها ضمانة أمنية ومصدر ردع استراتيجي خاصة الولايات المتحدة وروسيا والصين، وغياب ثقة متبادلة يجعل التخلي عن السلاح مخاطرة وجودية. الأكاديميون يصفون المسألة بأنها مشكلة أمنية بنيوية، وكل دولة تخشى أن تكون وحدها المتخلّية وتتعرض للتهديد. هذا السبب مدعوم بأبحاث نظرية وتطبيقية حول دوافع السعي للسلاح النووي.
من بين الأسباب أيضا، انعدام الثقة والتحقق، حيث إن نزع السلاح الكامل يتطلب آليات تحقق قادرة على كشف إخفاء رؤوس نووية ومرافق إنتاج. تقنيات التحقق ممكنة جزئياً لكنها معقّدة جداً من الناحية السياسية والفنية مثل تفتيشات عميقة، إغلاق منشآت، تدمير مواد وغيرها، وغياب اتفاق على نظام رقابي مقبول للجميع يعرقل أي اتفاق نزع شامل.
هناك أيضا التفاوت الاستراتيجي والاقتصادي، فالدول غير المتكافئة عسكرياً أو سياسيا قد تحجم عن نزع الأسلحة لأن المصلحة النسبية قد تغيّر موازين القوى، وكذلك توجد حوافز للغش أو للاحتفاظ بقدرات سرية ما لم توفّر آليات عقابية فعالة وموثوقة، وكذلك على رأس الأسباب الديناميكيات الجيوسياسية والتحالفات مثل ضمانات الردع النووي داخل الناتو والسباقات الإقليمية كالهند وباكستان، وكوريا الشمالية تولد دوافع مستمرة للاحتفاظ أو التوسع في الترسانات النووية، بالإضافة إلى أن التنافس الكبير بين القوى العظمى يعيد إحياء الحوافز للإبقاء على السلاح.
كذلك أحد الأسباب السياسة الداخلية والمصالح الصناعية، لأن القرار السياسي بالنزع يحتاج توافقًا داخليًا واسعًا؛ كما أن وجود صناعات وأقسام دفاعية ومؤسسات علمية مرتبطة بالقدرات النووية يخلق مقاومة داخلية لأي نزع، كما أن التحليل السياسي يُظهر أن المصالح المحلية واللوبيات تقوض السعي للنزع الكامل، فعلى سبيل المثال فشلت خطة باروخ نتيجة عدم الثقة في أوائل سنوات المحيط البارد أدى مباشرة إلى سباق تسلح.، ولم تدخل معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية حيز النفاذ لأن بعض الدول الأساسية لم تصادق عليه، وهذا يعد مثال واقعي على أن غياب تصديق عدد قليل من الدول يمكن أن يقيّد معاهدة عالمية.
تصريحات غير واقعية
وفي تعليق سياسي مثير للجدل، يقول الدكتور إحسان الخطيب، عضو الحزب الجمهوري الأمريكي، إن تصريحات ترامب بشأن اتفاق ثلاثي محتمل مع الصين وروسيا لنزع السلاح النووي "غير واقعية ولن يُكتب لها النجاح".
ويوضح الخطيب في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أن ترامب "يتحدث بما يخطر بباله دون أي فلترة أو حسابات دقيقة، ويطرح أفكارًا بهدف إثارة الاهتمام وإبقائه في دائرة الضوء الإعلامي".
ويضيف أن نزع السلاح النووي بين هذه الدول الكبرى أمر مستحيل، لأن الثقة بين واشنطن وبكين وموسكو شبه معدومة، وكل دولة تسعى إلى تعزيز ترسانتها لا التفريط بها، لافتا إلى أن ما يقترحه ترامب قد يبدو مثاليًا، لكنه بعيد عن الواقع السياسي والعسكري.
ويشير الخطيب إلى أن الجني خرج من القمقم ولا يمكن إعادته، والدول التي طورت قدراتها النووية لن تتخلى عنها، خاصة أن المسألة لا تتعلق فقط بالأسلحة، بل بموازين القوى وهيبة الدول وسيادتها.
ويؤكد عضو الحزب الجمهوري الأمريكي، أن الواقعية السياسية اليوم تتطلب تنسيقًا يمنع وقوع خطأ قد يؤدي إلى حرب نووية، وربما التفكير في تخفيض عدد الرؤوس النووية، لكن إلغائها بالكامل أمر لا يمكن تحقيقه.
اتفاقات لم تمنع التوسع
بدأت أولى محاولات ضبط السلاح النووي عبر معاهدات مثل SALT I – 1972، وSALT II – 1979، وSTART I – 1991، ومعاهدة الصواريخ النووية المتوسطة INF – 1987، لكن هذه المعاهدات انهارت تدريجياً مع تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا، خصوصا بعد انسحاب واشنطن من معاهدة INF عام 2019، وبحلول 2024، لم يتبق عمليا سوى معاهدة New START، وهي نفسها مهددة بالتجميد بعد تعليق روسيا التزاماتها.
ومن أبرز أسباب فشل جهود نزع السلاح النووي خلال الفترة الأخيرة، غياب الثقة بين القوى الكبرى ، حيث إن كل طرف يرى أن التخلي عن جزء من ترسانته يعرضه لخطر استراتيجي، خصوصًا مع سباقات التسلح في أوروبا وآسيا والباسيفيك، وكذلك التحديث المستمر للترسانات، فبدلا من التفكيك، تضخ القوى الكبرى استثمارات بمئات المليارات في تحديث الصواريخ والغواصات والقاذفات، ما يجعل “النزع الكامل” واقعًا مستبعدًا.
وتقول الدكتورة ليلى الهمامي، أستاذة العلوم السياسية بجامعة لندن، والخبيرة السياسية التونسية، إن الرئيس الأمريكي لم يطرح مبادرة متكاملة حول نزع السلاح النووي، بل أطلق تصريحا سياسيا خلال منتدى الأعمال في ميامي، مشيرةً إلى أن الصيغة التي استخدمها كانت غير محددة وغير دقيقة.
وتضيف الهمامي في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أن هذا التصريح الأمريكي جاء في سياق تصعيد متبادل بين واشنطن وموسكو عقب قيام الأخيرة بتجربة صاروخ عابر للقارات حامل لرؤوس نووية، وهو ما دفع واشنطن إلى الرد بإعلان نيتها إجراء تجارب نووية تحت الأرض، موضحا أن ترامب في تصنيفه للقوى النووية يرى أن الولايات المتحدة تتصدر قائمة الدول النووية، تليها روسيا ثم الصين، وامتلاك السلاح النووي يمثل امتيازًا استراتيجيًا تسعى الدول الكبرى للحفاظ عليه.
وتؤكد أن واشنطن لن تتخلى عن سلاح الردع النووي بأي حال من الأحوال، لأن ذلك يعد أحد أهم ركائز منظومة الدفاع الأمريكية، مشيرة إلى أن أقصى ما يمكن تحقيقه هو تجميد الأبحاث والتجارب النووية، وليس التخلص الكامل من الترسانات النووية، مشيرة إلى أن إطلاق ترامب مثل هذه الدعوات يأتي في إطار أسلوبه المعروف بالمزايدة بين السلم والتصعيد، والحد من انتشار الأسلحة النووية أو وقف التجارب هو السيناريو الأكثر واقعية، بينما يبقى نزع السلاح النووي بشكل كامل أمراً بعيد المنال في ظل التوازنات الدولية الراهنة.
قوى نووية جديدة
من بين فشل محاولات نزع السلاح النووي ظهور قوى نووية جديدة، مثل كوريا الشمالية، وربما مشاريع نووية كامنة في مناطق أخرى أدت لتوسيع دائرة الردع، بجانب ارتباط السلاح النووي بالشرعية السياسية للنظام، ففي روسيا وكوريا الشمالية وباكستان يعد السلاح النووي ضمانة لعدم تغيير الأنظمة بالقوة أو الضغط الدولي.
على الجانب الأخر فإن الأمم المتحدة فشلت في فرض إطار عالمي ملزم، فمع أن معاهدة حظر الأسلحة النووية TPNW دخلت حيز التنفيذ عام 2021، فإن جميع الدول النووية رفضتها، ما أفقدها فاعليتها، ورغم مرور أكثر من سبعة عقود على أول تفجير نووي، تشير البيانات الرسمية إلى أن الترسانات لا تتراجع بل تتوسع، فيما يزداد الإنفاق العسكري عامًا بعد عام، وتُجمع المراكز البحثية على نتيجة واحدة: العالم يبتعد عن حلم صفر نووي أكثر من أي وقت مضى.
العالم لا يدار بخطابات رنانة
من جانبه يؤكد المحلل السياسي الجزائري محمد سي بشير أن العالم لا يمكن أن يُدار بخطابات رنانة وشعارات مثالية، كما يحاول ترامب إيهام الرأي العام، فمسألة نزع السلاح النووي ليست سوى محاولة لاحتواء الوضع ومنع توسّع النادي النووي لا أكثر.
ويضيف في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أن الدول المالكة للسلاح النووي لن تتوافق أبدًا على التخلي عن ترساناتها، لأن امتلاك الرادع النووي هو شرط أساسي للهيمنة والمشاركة في هرم النظام الدولي، لافتا إلى أن هناك علاقة سببية واضحة بين السلاح النووي وحق الفيتو داخل مجلس الأمن، كما توجد صلة مباشرة بين السيطرة على الفوضى العالمية وامتلاك هذا السلاح، لا سيما لدى القوى المتوسطة مثل باكستان، أو حتى الكيان الإسرائيلي الذي سعى، بدعم غربي خاصة من فرنسا، للحصول على الردع النووي كضمانة أمنية.
ويتابع: "العالم عرف الحروب أكثر مما عرف السلام، ولا يمكن ضمان الأمن أو المشاركة في إدارة النزاعات الدولية دون امتلاك القوة، وإذا كانت تلك القوة نووية فإنها تصبح الضامن الاستراتيجي الأكبر"، مؤكدا أن العقيدة العسكرية والاستراتيجية للدول الكبرى تقوم على فكرة أن القوة تُفرض ولا تُوهب، وبالتالي لا يمكن تصور سلام حقيقي يُبنى على نزع السلاح النووي، لأن الواقع يؤكد أن القوة هي الضامن للسلام، وليس العكس.
ويشير إلى أنه لا هيمنة بلا سلاح نووي، ولا يمكن تصور اختفاء هذا السلاح من العالم، فهذه حقيقة راسخة في استراتيجيات كافة أعضاء النادي النووي، والفيتو مرتبط بالسلاح النووي، ولا يمكن فصل السبب عن النتيجة؛ تماماً كما هو الحال مع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.
منابع الفشل في نزع السلاح النووي العالمي ليست مسألة تقنية فحسب، بل سياسيّة وأمنية وعقائدية، مثل الردع، انعدام الثقة، صعوبات التحقق، التحالفات، والمصالح الداخلية جميعها تعمل معًا لتعقيد أي مسعى نحو نزع شامل. الاتفاقات الواقعية التي نجحت كانت إما ثنائية قابلة للتحقق بين دولتين متفاوضتين، أو كانت محظورات جزئية "اختبارات، انتشار"، لذلك تحقيق نزع شامل عمليًا، يتطلب توليفة من بناء ثقة طويلة الأمد، آليات تحقق تقنية وسياسية قوية، ضمانات أمنية بديلة، وإرادة سياسية عالمية، وهذا ما يفتقر إليه النظام الدولي اليوم.
مبادرة ترامب خطوة رمزية
ويشير مالك فرنسيس، عضو الحزب الجمهوري الأمريكي، إلى أن تصريحات ترامب بشأن إمكانية العمل على خطة مشتركة مع الصين وروسيا لنزع السلاح النووي من الدول الثلاث، رغم أنها لاقت ترحيبا من بعض الأطراف، تبقى مبادرة معقدة ومرهونة بظروف دولية غير مهيأة حتى الآن، مؤكدا أن هذا التصريح فتح باباً واسعاً للنقاش داخل الأوساط السياسية والدبلوماسية حول مدى واقعيته وإمكانية تطبيقه.
ويوضح في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع" أن فكرة نزع السلاح النووي تُعد هدفاً إنسانياً وسياسياً سامياً، خاصة في ظل تصاعد التوترات وسباق التسلح بين القوى الكبرى، إلا أن المسألة لا يمكن النظر إليها بسطحية، لأنها تصطدم بجدار صلب من الخلافات الإستراتيجية وغياب الثقة المتبادل بين تلك الدول، فروسيا تعتبر ترسانتها النووية الضامن الأكبر لتوازن القوى مع الغرب، في حين ترى الصين أن سلاحها النووي جزء من منظومة الردع التي تحفظ مصالحها الإقليمية والدولية أمام النفوذ الأمريكي المتنامي في آسيا.
ويؤكد أن الولايات المتحدة نفسها تدرك أن التخلي عن تفوقها النووي يعني فقدان ورقة ضغط محورية في السياسة الدولية، خاصة في مواجهة خصومها الاستراتيجيين، وبالتالي أي خطوة من هذا النوع ستحتاج إلى مفاوضات شديدة التعقيد، وضمانات أمنية صارمة، وآليات رقابة دقيقة، وهي كلها عناصر أثبتت التجارب السابقة، مثل اتفاقيتي "ستارت" و"نيو ستارت"، أنها ليست سهلة التنفيذ.
ويوضح فرنسيس أن مبادرة ترامب – إن تحولت إلى مشروع حقيقي – قد تكون أقرب إلى خطوة رمزية تعكس رغبة في الظهور بمظهر رجل السلام، أكثر من كونها خطة قابلة للتحقق في المستقبل القريب، لأنها تصطدم بواقع الردع النووي الذي يُعد أساس توازن القوى الدولي، لافتا إلى أن نجاح هذه المبادرة ليس مستحيلا، لكنه مرتبط ببيئة سياسية أكثر استقراراً وثقة متبادلة غير متوفرة حاليا بين واشنطن وموسكو وبكين، وحتى يتحقق ذلك، سيظل نزع السلاح النووي هدفاً مؤجلاً تحكمه الحسابات الاستراتيجية أكثر مما تحكمه النوايا الحسنة.
ويؤكد أن إطفاء النار النووية، إن حدث يوماً، سيغير وجه العالم كما نعرفه اليوم، موضحا أن السلاح النووي، رغم خطورته الهائلة، شكل لعقود طويلة مظلة ردع استراتيجية حافظت على توازن القوى بين الدول العظمى، وأن اختفاء هذا الردع قد يعني تغيّر موازين النفوذ العالمية، وغياب رهبة الحرب الكبرى، مقابل احتمالية تصاعد النزاعات الأصغر دون رادع واضح.
وحول هل سيصبح العقل والحوار هما الحاكمين للعالم بعد زوال السلاح النووي أم أننا سنشهد عودة لشريعة القوة ولكن بصيغ وأدوات مختلفة؟ يقول :"نزع السلاح النووي قد يكون فعلاً الخطوة الأولى نحو حلم طال انتظاره، نحو عالم تسوده العدالة والسلام، لكنه عاد ليؤكد أن التاريخ أثبت أن غياب الخوف لا يعني بالضرورة ولادة السلام، بل ربما يفتح الباب أمام فوضى جديدة تُعاد فيها كتابة معادلات القوة والنفوذ من جديد".