أصدر المجلس القومى لحقوق الإنسان تقريره السنوى الـ18 عن الفترة من 2024 وحتى 2025 والتى شهدت العديد من الفعاليات والأنشطة التى ترسخ لدوره داخل المجتمع المصرى، كما تضمن التقرير عرضا شاملا لحالة حقوق الإنسان خلال هذه الفترة، وما شهدته من تطورات تشريعية ومؤسسية، فضلا عن استعراض أوضاع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وأبرز التقرير دور المجلس فى تلقى شكاوى المواطنين والتعامل معها.
وكان الدستور المصرى وقد رسخ هذه المكانة من خلال إدراج المجلس ضمن باب المجالس القومية، ومنحه صلاحيات واسعة، من بينها إبداء الرأى فى مشروعات القوانين ذات الصلة، وتقديم المساعدة القانونية، والاضطلاع بمهام أخرى تدعم منظومة الحقوق والحريات. وفى إطار التعديلات الدستورية والالتزامات الدولية، جاء القانون رقم 197 لسنة 2017 ليعزز ضمانات استقلال المجلس ويوسع من نطاق اختصاصاته. ويعد المجلس المؤسسة الوطنية المعتمدة فى مجال حقوق الإنسان، إذ أنشئ وفقًا لمبادى باريس المؤسسة للمؤسسات الووطنية لحقوق الانسان ليؤدى دورًا تشاوريا، وإستشاريا، وتنسيقيا، من خلال رصد الانتهاكات وتقديم التوصيات، والتفاعل مع السلطات، والتعاون مع منظمات المجتمع المدنى والآليات الدولية ذات الصلة.
حالة حقوق الإنسان التى شهادتها فترة التقرير
وشهدت فترة إعداد التقرير من يوليو 2024 حتى يونيو 2025 حضورًا متزايدًا لقضية حقوق الإنسان على أجندة الدولة، سواء من خلال التوجهات الرئاسية أو عبر السياسات العامة والبرامج التنفيذية التى سعت إلى تحسين أوضاع المواطنين وتعزيز منظومة الحقوق والحريات. حيث تكرر التأكيد فى أكثر من مناسبة على أن كرامة المواطن المصري واحترام حقوقه الدستورية يمثلان أساسا لبناء الجمهورية الجديدة. وأن الارتقاء بحقوق الإنسان لم يعد خيارًا هامشيًا وإنما عنصرًا أصيلا فى عملية الإصلاح السياسى والاجتماعى والاقتصادى. وقد انعكس ذلك فى حرص الدولة على تنفيذ الاستراتيجية الوطنية الحقوق الإنسان، باعتبارها إطارا مرجعيا يربط بين الإصلاح التشريعى والسياسات التنفيذية، وفى انفتاح متزايد على النقاش العام من خلال الحوار الوطنى وما طرحه من قضايا شائكة كان بعضها يتصل مباشرة بمنظومة الحقوق والحريات.
وبرزت توجهات رئاسية متعددة تستهدف التوسع فى برامج الحماية الاجتماعية المواجهة الأوضاع الاقتصادية الضاغطة، والتخفيف عن الفئات الأكثر هشاشة، إلى جانب مبادرات تنموية فى القرى والمناطق النائية عبر استكمال مشروعات البنية الأساسية وتوفير خدمات الصحة والتعليم. كما انعكس الحرص على دعم المرأة والشباب وذوى الإعاقة من خلال برامج تمكين اقتصادى وتوسيع نطاق الحماية القانونية، وهو ما يترجم على نحو ملموس توجه الدولة لإدماج الفئات الأكثر احتياجًا فى مسار التنمية الشاملة، وكذلك مبادرة رئيس الجمهورية لبناء الإنسان المصرى التى تهدف إلى تعزيز وعى المواطن وتطوير قدراته التعليمية والصحية والثقافية، بما يرسخ قيم المواطنة ويحافظ على الحقوق والحريات الأساسية في إطار رؤية تنموية شاملة، وتوازى مع ذلك اهتمام متنام بالتحول الرقمى فى تقديم الخدمات الحكومية، سواء فى القطاعات الخدمية أو فى مجال العدالة، بما يعزز الشفافية وييسر وصول المواطنين إلى حقوقهم.
إصدار تشريعات ذات صلة بممارسة وحماية الحقوق المدنية والسياسية
وقد شهدت فترة التقرير أيضًا إصدار عدد من التشريعات ذات الصلة بممارسة وحماية الحقوق المدنية والسياسية، لعل ابرزها قانون الإجراءات الجنائية فى نسخته الأولى، وقانون تنظيم لجوء الأجانب. القوانين المنظمة للانتخابات البرلمانية التى ستجرى فى مصر خلال الثلث الأخير من عام 2025، كما شهدت ذات الفترة تفاعل الدولة المصرية للمرة الرابعة مع آلية الاستعراض الدورى الشامل بمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والذى اتسم بطابع إيجابى، حيث تمت المشاركة الفعالة فى مناقشات التقرير الوطنى، وتم الإعلان عن استعداد الدولة لمواصلة الحوار وتنفيذ التوصيات ذات الأولوية بما يتسق مع الخصوصية الوطنية.
وعكس ذلك رغبة رسمية فى إظهار التزام جاد بالمعايير الدولية وتعزيز صورة مصر كشريك فى النظام الدولى لحقوق الإنسان حيث قدمت مصر تقريرها، وخلصت عملية الاستعراض إلى قبول الحكومة المصرية لـ281 توصية قبولا كليا وجزئيا يتعلق الكثير منها بجوانب الحقوق المدنية والسياسية.
ملف الحبس الاحتياطى من أبرز القضايا نقاشًا خلال فترة التقرير
ويظل ملف الحبس الاحتياطى من أبرز القضايا التى أثارت نقاشا واسعا خلال هذه الفترة. فبينما أعلن عن الإفراج عن دفعات جديدة من المحبوسين احتياطيا أو المحكوم عليهم بموجب قرارات رئاسية فى مناسبات وطنية ودينية، فإن طول فترات الحبس الاحتياطى فى بعض القضايا، وما يترتب عليه من آثار اجتماعية ونفسية واقتصادية، يطرح تساؤلات جدية حول الحاجة إلى مراجعة ممارسات التحقيق وتوسيع نطاق التدابير البديلة، وقد أظهر الحوار الوطنى إدراكا رسميا لهذه الإشكالية، وهو ما يفتح الباب أمام معالجة أكثر شمولا فى المرحلة القادمة فى ظل صدور قانون الإجراءات الجنائية الجديد.
انخفاض أعداد المحتجزين على خلفية قضايا النشر والرأى
وعلى صعيد حرية الرأى والتعبير والإعلام، ورغم انخفاض أعداد المحتجزين على خلفية قضايا النشر والرأى، لا يزال هناك بعض الصحفيين رهن الحبس أو التحقيق بسبب محتوى مهنى أو أراء منشورة. كما واجهت بعض المنصات الإعلامية تحديات تتعلق بصعوبة الحصول على التراخيص اللازمة، فضلا عن استمرار غياب قانون ينظم الحق فى تداول المعلومات وفى هذا السياق، اكتسبحكم المحكمة الدستورية العليا الصادر فى الدعوى رقم 60 لسنة 22 ق. د بجلسة 6 يوليو 2024 أهمية خاصة، حيث أكد أن النقد الموجه للعمل العام يعد من صميم حرية التعبير طالما التزم حدود الصالح العام، وهو ما يشكل تعزيزا فضائيا لمطلب طالما تبناه المجلس.
وانطلاقا من ذلك، أوصى المجلس بضرورة تعديل القوانين المنظمة للصحافة والجريمة الإلكترونية. والإسراع فى إصدار اللائحة التنفيذية لقانون حماية البيانات الشخصية، بما يضمن بيئة أكثر حرية وتوازنا للعمل الإعلامى.
مؤشرات إيجابية على تنامى دور منظمات المجتمع المدنى وزيادة الفرص المتاحة
وفيما يتعلق بحرية التنظيم وتكوين الجمعيات والأحزاب السياسية، فقد برزت مؤشرات إيجابية على تنامى دور منظمات المجتمع المدنى وزيادة الفرص المتاحة أمامها للحصول على الدعم والتمويل. بما يعزز من قدرتها على القيام بدورها التنموي والحقوقى كما شهد المشهد الحزبى خطوات نحو توسيع قاعدة التعددية السياسية من خلال إشهار كيانات جديدة.
أما على صعيد الحريات النقابية. فقد تواصلت الاستحقاقات الانتخابية الدورية التى تعكس استمرار العملية الديمقراطية داخل النقابات المهنية.
وعلى مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بذات الدولة جهودًا حثيثة لتحسين مستوى المعيشة عبر رفع الحد الأدنى للأجور فى القطاع الحكومي وزيادة مخصصات برامج الحماية الاجتماعية، وهى إجراءات تعكس إدراكا رسميا للتحديات المعيشية المتفاقمة، غير أن معدلات التضخم واستمرار هشاشة أوضاع العمالة غير الرسمية، والضغوط الاقتصادية العالمية جعلت من أثر تلك الإجراءات محدودا فى بعض الأحيان، مما يفرض ضرورة بذل مزيد من الجهود لضمان مستوى لائق من العيش الكريم كما شهد القطاع الصحى استمرار المبادرات الوطنية للكشف المبكر عن الأمراض وتطوير برامج التأمين الصحى غير أن تفاوت مستوى الخدمة بين المحافظات وضعف الموارد البشرية المتاحة بظل تحديا قائما. وفى مجال التعليم استمر التوسع في إدخال التكنولوجيا الرقمية وتطوير البنية الأساسية، غير أن الكثافة الطلابية والفجوة بين الحضر والريف ما زالت تمثل تحديا أمام تحقيق الجودة المطلوبة.
الدولة شهدت مزيجاً من جهود مبذولة نحو تعزيز وإعمال حقوق الإنسان
وبالنظر إلى هذه المؤشرات يتضح أن حالة حقوق الإنسان فى مصر خلال فترة التقرير قد عكست مزيجًا من توجهات سياسية وجهود مبذولة نحو تعزيز وإعمال حقوق الإنسان، وواقع عملى مازال يطرح تحديات جوهرية تتطلب معالجات أعمق. فالمؤشرات الإيجابية المتعلقة بالانفتاح على الآليات الدولية، وتعزيز الحماية الاجتماعية، وإطلاق مبادرات للإفراج عن محتجزين وتوسيع التحول الرقمى توازيها تحديات جدية في مجالات الحرية الشخصية، الحبس الاحتياطى المجال العام، وضمان تكافؤ القرص في الحصول على الخدمات الأساسية، ولعل ما يمنح هذه الصورة مصداقيتها هو أن إدراك السعى نحو تحسين أوضاع حقوق الإنسان يتوقف على الانتقال من الإرادة المعلنة إلى الممارسة الفعلية التى تحقق نتائج ملموسة يشعر بها المواطن من خلال تعزيز آليات المتابعة والمساءلة. وتوسيع نطاق الشراكة مع منظمات المجتمع المدني، وتطوير أدوات التقييم المستقل، بما يجعل منظومة حقوق الإنسان أكثر رسوحا وفعالية.