التوأم.. قصة قصيرة لـ خالد دومة

الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025 02:14 م
التوأم.. قصة قصيرة لـ خالد دومة خالد دومة

في صلب أبي كنا ملايين، أعداد غفيرة ننتظر الخروج، زحام شديد، علقات لا تنتهي، الجو دافئ هنا، ولكننا نلتصق فيما بيننا فنشعر ببعض الضيق، نصتف لم نكن نعلم مصيرنا، هل من نطف إلى لا شيء، أم أننا نقطع مرحلة أخرى نحو الحياة؟ لا ندري؟ فالمصير مجهول ونحن نتنظر إن صادفنا الحظ فسنكون ممن يخوض تجربة المسير نحو الحياة، وهي تجربة مريرة كما نشعر في أعماقنا إن قُدر لنا خوضها، ننطلق من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، نقطن أشهر، ثم نخرج إلى الدنيا.

في رحلتنا نحو الأرحام يكون سباق شاق نحو الحياة، يموت الكثير، ويتساقطون أثناء الرحلة المضنية، من يعلق بالجدار، تكتب له بذرة حياة، تلتصق بباطن الرحم، لتنقسم إلى أزواج والأزواج إلى أزواج، إلى أن نكون مضغة صغيرة، من علقة إلى مضغة، إلى عظام، ثم يكسوها لحم، تبدأ في أخذ شكل رأس وذيل ثم رأس وجذع، تخرج الأطراف، ثم كائن ينبض في هذا المكان الضيق، كنت أشعر بشيء يماثلني بجواري، يضيق على، يزاحمني كلما كبرت قليلا أزداد هو أيضا، وكلما زاحمني زاحمته، كان أقوى مني قليلا، أشد عودا، أصلب مني، كنت أحيانا أنكمش في مكاني، خشيت أن يطغى فأختنق، ركلت هذا الشيء يوما، كانت ركلته لي أوجع فهادنته، لكنه كان هادئا، لا يبدأ أبدا بفعل أي شيء، كنت دائما ما أبدأ بالمناوشة، فيعطيني درسا ورسالة بأنه أقوى، ولو أراد لكتم أنفاسي، وتخلص من مضايقاتي، ولكن يبدو أنه لا يريد أن يؤذيني رغم أني فكرت كثيرا في الاستيلاء على مكانه، لأكون وحدي، ولكن وجوده كان يؤنسني دون أن أعلم.

في مرة كان صمتا مطبقا، شعرت بشيء من الخوف، أأكون مت وأنا لا أدري، أخذت أركل بطن أمي، فشعر بي وكأنه كان يتحسسني ليطمئني، كانت قدميه تهمس لجسدي بالأمان، أرتحت أننا على قيد الحياة، وأننا مازلنا نعيش، أنا وهو كان شعور خطأ أن حاولت أن أستولى على مكانه في بطن أمي فهي أمه كما أنها أمي، أقتسمنا كل شيء صلب أبي، ثم رحم أمي وبطنها، كانت دقات قلوبنا تسير على نهج واحد، تدق معا، يصلنا الغذاء على نحو واحد، كان الدم المحمول إلينا من مصدر واحد، قلبي أمي، لم يخطأ يوما قلبها، لم ينسى أحدنا حتى الدواء التي كانت تتعاطاه، يصل إلينا بنفس القدر، الفيتامينات، الفاكهة، رائحة العطور التي كانت تستنشقها، كل شيء، كل شيء، رضيت بالنصف في كل شيء، نصف قلب أمي لي، والنصف الآخر يذهب للجهة الأخرى، فيما يفكر هو الآن؟ أيفكر فيما أفكر فيه أنا أيضا؟ أم إنه يختلف عني، ويفكر في أي أشياء، لم يتطرق لها ذهني يوما ما.

أما من إشارات لا سلكية نتصل بها، نتحدث يطلع كل منا على أحوال الآخر، نتحدث ففي عالمنا لا يوجد إلا نحن الاثنين، لو أني ثقبت الجدار، الذي بيني وبينه، أرى ما يكون خلف الجدار، كيف يكون ولكن الأمر لا يخلو من مخاطرة، قد أدفع ثمنها حياتي، فلأنتظر ربما أيام أو أسابيع، فنحن كل يوم في حالة شكل، تكبر أجسادنا وأعضائنا أو نتنقل إلى مكان أخرى يرى كل منا الأخر، ويفضي كل منا للأخر بكل ما يفكر أو يشعر به، سأكتفي بأن أطرق عليه الجدار طرقا خفيفا، أخبره بأني هنا، وأني معه، فقد أعتد عليه، دون أن أراه ولا أدري كيف كنت سأصبح لو لم يوجد.

طرق هو الآخر طرقا خفيفا قمت برده، ربما ابتسمت، لم أعد أشعر بالضيق لمزاحمته لي، فأنا أفسح له قدر الإمكان، كما أني أشعر بأنه يفعل نفس الشيء، حتى لا يضايقني في ساعة ما، شعرنا بأننا لا نشعر بقرار ولا باستقرار في أمكاننا، وأننا ننزلق، نُدفع على الرغم منا إلى مكان آخر لا نعرفه، ماء كثير من حولنا ونحن كالكرة نسبح فيه، ونقاوم الانزلاق، ولكن يجرفنا تيار الماء المنسكب حولنا، نتمسك بكل شيء، ولكننا نتفلت، تضعف قوانا، شيء ما يمسكنا من أقدامنا الصغير وتشتد عليه القبضة وتسحبنا من عالمنا، أناخذ أسرى أيجلونا من أرضنا، التي فيها عشنا تسعة أشهر كاملة، نمتلكها ضوء عظيم، يقع على عيوننا، نغمض ولكن النور شديد، يبدد كل ظلمة، كنا نرى بشعورنا، ونفكر به، نرى بلا عيون، ونسمع بلا أذان، ونفكر بلا رؤس، كان شعورنا هو سيد كل شيء، يقوم مقام الأعضاء جميعا، كانت جميع الأعضاء كحلية، زينة نتزين بها فلما سقطنا من عالمنا الذي كنا فيه، أخذ كل عضو في تخصصه، الأذن تسمع، والعين ترى، والعقل يعي، تفرق ما كان في الروح إلى أجزاء صغيرة.

أستقبلتني يد الطبيب، قدمي في الأعلى ورأسي في الأسفل أرى الآخرين بصورة مقلوبة، ابتسامات لم أسمع صوت أمي تئن، لكنها كانت في البنج لا تشعر بشيء، صرخت في وجههم، ولكن صراخاتي أضحكتهم، بعد لحظات سمعت صراخات تشبه صرخاتي، أيكون هو ما كان يفصلني عن الجدار، داخل بطن أمي، إنه هو، إني أعرفه بالشعور، رغم أني أسمع صوته للمرة الأولى، كنت لازلت أصرخ، أزعجنا الجميع بصراختنا، سمعتنا جدتي من الخارج، كانت متلهفة لخروجنا، وقد أعدت قطع من قماش قديم، تلف أجسدنا به، اأخرجتنا الممرضة إليها، حملت كل واحد على يد بعد أن لفت حولنا خرقها القديمة،  كان أبي يأتي ببعض الطعام لجدتي المنتظرتين، علبة من الجبن، أكياس شبسي، زجاجتان من الببسي، فينو وكيس لبن، مر على الصيدلية ليأتي ببرونتين وأكياس الينسون، يستقبلون بها، حتى يدر ثدي أمي بالبن غدا، كنا نبكي عندما هل علينا، أخذت جدتي الببرونة غلت الماء، أعدت وجبتين من شراب الينسون لي وأختي، أمي لازلت لم تفق من أثر البنج، حتى الأن، نمنا قيللا بعد أن أمتلأت أجوفنا، أستيقظت أمي بعد ساعة، وضعونا حولها، أحكمت الغطاء علينا مرة أخرى، ثم غفت مرة أخرى، أنطلق أبي إلى البيت، فقد ترك أخوتي  وحدهم، كانت الثانية بعد  منتصف الليل، يأخذ قسطا من الراحة ليعود في الصباح الباكر، كان أبي قد حدد لنا أسمينا قبل أن نخرج إلى الحياة، ولكنهم أخطأوا في أطلاقه علينا، كان من المفترض أن يطلق اسمي على أختي وأسمها علي، ولكنه لم يمانع بعد أن انتشر لكل منا اسمه، وطالما شعر بأنه كان من الأجدر والأفضل أن يكون اسمينا في موضهما الصحيح، ولكن سرعان ما يقول لنفسه، وما الفرق.

كان أبي قد قرأ قصة به امراتين لكل منهما وصفا مناقض للأخر، وكان سمات الجسد تملي صفات كل منها، أو أن الأمر تعلق بذهنه هكذا، فقرر أن يطلق على كل منا اسم ما تتوافق كل منا على صفات الأخرى، ولكن الأمر جاء تصورات أبي كنا متناقضتين في كل شيء، كل واحدة فينا لها طبيعتها المختلفة عن الأخرى، لم نلتقي إلا في القليل النادر، ربما لم نكن نفترق كثيرا، كان طريقا واحد، ولكن أفكارنا لا تمت لكل منا بصلة، كان الاختلاف في كل شيء في الظاهر والباطن، كان الاختلاف يتعمق بيننا مع مرور الوقت، والهوة تزداد، ولم نفترق، كانت هي كظلي، وكنت كظلها، نختلف ولكن لا نجرأ على البعد، لم تجرأ أحدنا على أن تترك يد الأخرى في مسيرتها نحو الحياة، منذ بدأت الخطوة الأولى لنا، وقدمينا متجاورتين بخطا ثابتة، الشيء الوحيد الذي أتفقنا عليه ألا تترك كل منا يد الأخرى، ونحن نسير، ورغم أننا لم نسحف في يوم واحد، ولا بدأنا المشي معنا، إلا إننا كنا متقاربتين، كانت من تبدأ تأخذ بيد الأخرى، كي لا تنطلق دونها، كنا معا في كل شيء، تشتري أمي لنا نفس الأشياء، وإن كانت هي تلبس أقل مني درجة، فقد كنت أشد قليلا في الجسد منها، ولكنها هي من بدأ الخطوة الأولى، كانت أكثر مني مغامرة، وأقتحام نحو المجهول.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب


الموضوعات المتعلقة

خالد دومة يكتب: عقيدة الحب

السبت، 13 ديسمبر 2025 09:30 ص

خالد دومة يكتب: الرحمة المزيفة

الجمعة، 12 ديسمبر 2025 11:00 م

الرجوع الى أعلى الصفحة