أصبحت محاكمة بنيامين نتنياهو في أكثر من ملف فساد هي المحرك الرئيسي لكافة قرارات الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة. حتى قبل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كانت واضحة رغبة بنيامين نتنياهو في ممارسة الضغوط التشريعية على المنظومة القضائية الإسرائيلية وصولاً لإحدى نتيجتين تنقذه من الذهاب إلى السجن؛ إما وقف محاكمته مقابل وقف التعديلات القضائية المزمعة، أو إضعاف المنظومة القضائية والشرطية بشكل يستحيل معه استكمال إجراءات محاكمته في كافة قضايا الفساد.
في رسالته إلى الرئيس الإسرائيلي لطلب العفو، استند نتنياهو إلى ضغوط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الرئيس الإسرائيلي، وإلى الأغلبية اليمينة في البرلمان الإسرائيلي التي تضغط على النظام القضائي بمشاريع قوانين إصلاحية الشكل لكنها تحمل طابعاً انقلابياً من ناحية تقليص صلاحيات السلطة القضائية لصالح السلطة التنفيذية التي يقودها اليمين، والجبهات الساخنة والملفات الأمنية المفتوحة التي لا ينوي نتنياهو إغلاق أيّ منها ليواصل إعادة تدوير التهديدات الأمنية لإسرائيل وتصوير نفسه بوصفه الزعيم القادر على قيادة إسرائيل تحت النار وإزالة ما يقدمه للجمهور الإسرائيلي على أنها تهديدات وجودية.
اللافت في التماس العفو التي قدمها نتنياهو للرئيس الإسرائيلي هو خلوه من أي إقرار فعلي بالذنب، أو تعهد باعتزال العمل السياسي مقابل نيل العفو الرئاسي في قضايا الفساد. بل على النقيض، يسعى نتنياهو لإلغاء المحاكمة كلياً واعتبار ملفات الفساد المتورط فيها هو وعائلته كأنها لم تكن من الأساس. إنه يطالب الرئيس الإسرائيلي فعلياً بمخالفة القانون الإسرائيلي عبر التغاضي عن صناديق السيجار الكوبي الباهظة الثمن التي اعتاد الملياردير الإسرائيلي أرنون ميلتشان تقديمها لنتنياهو شخصياً في حقائب مموهة خلال زياراتهما المتبادلة، كما يسعى لإسقاط التهم المتعلقة بزجاجات الشمبانيا الوردية الفاخرة التي طلبتها سارة نتنياهو مراراً من هداس كلاين مساعدة ميلتشان والتي شهدت بهذا في تحقيق مصوّر ومفصل كشف عن منظومة الهدايا والخدمات التي تلقتها العائلة على مدار أعوام، الأمر الذي ينسف برمته القضية رقم 1000.
يطلب نتنياهو أيضاً من الرئيس الإسرائيلي تجاهل القضية رقم 4000، وهي القضية التي تتضمن اتهامات بتدخل العائلة لدى موقع "والا" الإخباري للحصول على تغطية إخبارية إيجابية لأفرادها: بيبي، سارة، وفتى ميامي المدلل يائير مقابل تسهيلات مالية نالها صاحب الموقع بدعم من نتنياهو نفسه. وهو الملف الذي أقر فيه جميع المتورطين بذنبهم أمام الشرطة الإسرائيلية إقراراً تاماً، بمن فيهم صاحب الموقع ومستشار نتنياهو الإعلامي نير حيفتس، ورؤساء التحرير، والمحررون. في المقابل، اختارت عائلة نتنياهو التعامل مع المحققين بعدائية مفرطة، حيث وصفهم يائير نتنياهو بالغستابو الجديد، واتهمتهم سارة نتنياهو بأنهم يسعون إلى عزل زوجها من منصبه بدعم من اليسار الإسرائيلي، فيما أنكر نتنياهو الاتهامات واصفاً نفسه بضحية الإعلام الإسرائيلي اليساري في جانب، ومن جانب آخر كرر عبارة "لا أتذكر" عشرات المرات. ناهيك عن شهادة ميريام اديلسون وزوجها وعشرات العاملين في مقر رئيس الحكومة، والمستشارين، والوسطاء.
تستند استراتيجية بنيامين نتنياهو على ركيزتين أساسيتين: الأولى، إبقاء المنطقة مشتعلة قدر الإمكان، إذ يوظف كافة إمكانات حكومته لتحقيق هذا الهدف، استناداً إلى فهمه العميق للعقلية الإسرائيلية التي تولي اهتماماً أكبر للقضايا الوجودية على حساب القضايا الأخلاقية والقانونية الأخرى. وقد نجح نتنياهو في توجيه مسار اهتمام الجمهور نحو القضايا الوجودية والصراع المصطنع على جبهات عدة في لبنان وقطاع غزة والضفة الغربية، وإيران، وسوريا وصرف أنظارهم عن الاهتمام بقضايا فساده.
أما الركيزة الثانية فتتمثل في مساومة المجتمع الإسرائيلي على العفو مقابل تجميده ملف الإصلاحات القضائية التي تسعى حكومته اليمينية إلى تمريرها، وهي الإصلاحات التي يرى فيها معارضوه تقويضاً للنظام الإسرائيلي وتغولاً للسلطة التنفيذية على حساب السلطة القضائية.
يثير طلب نتنياهو العفو صخباً جدلاً واسعاً في المشهد السياسي الإسرائيلي على أكثر من صعيد، حيث يحتدم النقاش في أوساط السياسيين والقانونيين حول قانونية منح العفو قبل انتهاء التحقيقات وصدور أحكام نهائية بالبراءة أو الإدانة. فإن أثبتت التحقيقات براءة نتنياهو فلا حاجة إذن للعفو الرئاسي. وإن أدانته، فعليه أن الإقرار بذنبه والتعهد بالانسحاب من المشهد السياسي الإسرائيلي لتجنب السجن، لا سيما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ايهود أولمرت أمضى فترة سجن فعلية على خلفية إدانته في قضايا أقل شأناً من تلك التي يواجهها نتنياهو.