أكرم القصاص

ميريت وشرقيات واللباد.. معارك وأثر النشر والثقافة بمناسبة محمد هاشم

الأحد، 14 ديسمبر 2025 01:48 م


الحزن الثقافى على محمد هاشم، ليس فقط لكونه كان عالَما وحده ثريا وغنيا وكريما، لكن لأنه فى عالم النشر سجل حضورا مختلفا، ونظاما من قلب الفوضى، ويصبح التساؤل أحيانا، ماذا لو لم يظهر محمد هاشم فى ساحة النشر ويحمل على كتفيه نشر أعمال لكُتاب لم تكن لبعضهم أسماء لامعة؟ ولهذا يظل المحتوى هو الفيصل والعنصر الذى يشد هاشم لينحاز إلى كتاب أو ديوان، رواية أو نثر، كتابة، ألوان بعضها لم يكن محدد الملامح، لكنه بعد أن يتخذ زينته من «ميريت» يصبح شيئا كبيرا، أدبا أو نقدا أو قصائد، هناك آلاف الحكايات التى يرويها أدباء نَشر لهم محمد هاشم فى «ميريت» وهو لا يعرفها، قرأ لبعضهم أو رشحه من يثق به، وأعرف أن هاشم كان يقدم الكتب لشباب بالمجان، لمجرد أن يحس بخجل شاب مثقف يقرأ ولا يملك.

كل هذا يجعل محمد هاشم أكبر من مجرد ناشر، بل هو مثقف فاعل وممارس عام للثقافة، بجانب أن  «ميريت» كانت أكبر «مائدة رحمن ثقافية»، تشبه موائد الرحمن فى رمضان، أو فى باقى أيام العام، تقدم الطعام والشراب لمن يطلبها من دون أن تسأل عن سبب أو هدف، «ميريت» كانت أوسع من صالون ثقافى، وأعمق من جلسة نقاش، هى منصة للأفكار والمناقشات، الغناء، الشعر، القص، كرة القدم، السهرات حتى الصباح، يسلم القادم، يجلس، يستمع، يتحدث، يصمت، ينصرف بلا إذن مثلما دخل، ولم يكن غريبا أن ترى فى كل زيارة وجها أو وجوها جديدة، القدامى كانوا محظوظين بلقاء أحمد فؤاد نجم، وسيد حجاب، وخيرى شلبى، وإبراهيم أصلان، وإبراهيم منصور الكبير، وعلاء الديب، وحمدى أبوجليل، وأمدّ الله فى أعمار إبراهيم عبدالمجيد، ومحمود الوردانى، ونبيل عبدالفتاح، ،فتحى عفيفى، وإبراهيم داود، وإبراهيم عبدالفتاح، وأحمد اللباد، وإيهاب عبدالحميد، وسيد محمود، وأشرف عبدالشافى، وأحمد عبدالعزيز، وبقية عقد الأصدقاء والزملاء المثقفين فى كل واد واتجاه، مئات الشعراء والروائيين والقصاصين والمغنين والمسرحيين والنجوم،  المشترك معهم هو محمد هاشم و«ميريت» التى لعبت دورا مضاعفا فى النشر، والتبشير بثقافة حقيقية، وليست «ثقافة هامش» كما يروج البعض، لأنها وجدت طريقها للمعارف، فيما تضع هاشم فى مكان وموقع تأثير أكثر مما يبدو، ومن فوضاه يترتب نظام، يقترب أكثر من مفهوم خاص لاشتراكية الثقافة، من حيث السعر والتأثير والتوزيع.

ولا أبالغ إذا قلت إن «ميريت» كانت بوابة مرور لكتاب وأدباء، بعضهم لم يعترف بفضل من ساندهم، وأرى بعض من تمردوا على أفضال «ميريت» ومحمد هاشم، أنكروا أفضال كل السلالم التى صعدوا عليها، كنوع من «قلة الأصل الجينية»، وليس غريبا، فقد اعتادوا بل وتطاول بعضهم بخسة ونقص ودونية.
لم يلتفت محمد هاشم، وبقى صاحب تجربة تتجسد بعد رحيله،  ونعرف نماذج كثيرة لشباب كبروا مع «ميريت» وظلوا أوفياء أكثر من بعض أصحاب النجومية الفارغة التى حققت مالا، بينما تراجع الإبداع وأصبح الأدب لدى بعضهم نثرا رديئا وحنجرة فارغة، ويبدو أن دار «ميريت» ضمت أدب أصحاب الوجود الفاعل مثلما كان محمد هاشم.

وللمفارقة، أن تجربة «ميريت» فى الثقافة تقترب من تجربة أخرى لناشر مهم هو حسنى سليمان، صاحب دار «شرقيات» والذى حرص على أن يقدم تجربة عظيمة فى النشر خلال التسعينيات، من القرن العشرين، وارتبطت كتب شرقيات بخصوصية وأغلفة وإخراج داخلى وخارجى ببصمات عبقرى صناعة الكتب الفنان الراحل «محيى الدين اللباد»، الذى منح الكتاب شكلا وفتح مسارا جديدا فى فن النشر والقراءة بجماليات لم تكن معروفة قبله، وإن كانت امتدّت إلى إصدارات ميريت مع الابن الفنان «أحمد اللباد» صاحب البصمة «اللبادية» على أغلفة الكتب من «ميريت».

وقد أعلن رحيل  مؤسس دار «شرقيات» قبل مدة بعد رحيله الفعلى بستة أشهر، وعرفت بالصدفة من أحد المقربين من حسنى سليمان، والذى أسس دار شرقيات التى كانت علامة فى تاريخ النشر، بما قدمته لأدباء جيل التسعينيات، وأثرت بما نشرته من مؤلفات جمعت بين عمق المضمون وجمال الإخراج الفنى للكتب، كلوحات قدمها محيى الدين اللباد، كفنون تشكيلية، كنت محظوظا أن أقترب وأراه وهو يعمل بدقة صائغ، بينما كان يجهز الكتب فى الوحدة الفنية لجريدة «العربى»، كنت أمام صائغ أو فنان، ينتج لوحات تشكيلية وليس مجرد كتب، ويحرص على أن تكون المسافات بين السطور والهوامش ثابتة فى كل صفحات الكتاب، وأظن أن نظرتى للكتب اختلفت قبل «اللباد» عنها قبل ان نتعرف على كتبه فى شرقيات.

ومن شهادات مقربين، فإن مؤسس شرقيات تمسك بقيم أدبية وثقافية وليست تجارية، ولهذا تعرض للإفلاس، فقد كان يدفع للأدباء ويكلف الكتب، وبعض الشهود قالوا إن حسنى سليمان اضطر أن يبيع لتجار الورق ما تبقى من كنوز الكتب المنشورة، وخسر فى حسابات التجارة، بالرغم من أنه أنتج كنوزا ثقافية.
وهنا نحن أمام تجارب نشر أكثر تأثيرا، ونوعا من القوة الناعمة التى واجهت تعثرا أو تراجعا، وهى تجارب أطول عمرا من أصحابها، حسنى سليمان، رحل وترك مرارة لدى مثقفين، بينما قد تكون هناك ضرورة للتواصل بين الموسسات الخاصة والمؤسسات الرسمية للمساندة والمتابعة لاعتبار هذه المؤسسات ضمن قوة ناعمة تتلاقى وتتقاطع وتساند بعضها.

بالطبع فإن صناعة الكتاب، مثل صناعة الصحافة تواجه تحولات كبرى فى أساليب النشر، بسبب قفزات أسعار والورق، وتغير نوافذ التصفح من الورق إلى الشاشات، وهو تغيير فى الشكل لكن المحتوى هو الأصل، ومع هذا يواجه تحديا ما بسبب التطورات التقنية أو المنصات، وهو ما يدفع نحو الانتقال إلى النشر الرقمى بجانب الورقى، وهو طريق يتزايد ويحتاج إلى تفكير واستعداد وهذا أمر آخر، وفى كل الأحوال يبقى محمد هاشم ودار «ميريت» وقبلها «شرقيات» نماذج للرسالة والإصرار، وانتصارا للإبداع والحرية.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة