ليست أزمات المجتمع وليدة لحظةٍ عابرة، ولا نتيجة حدثٍ مفاجئ، بل هي حصيلة تراكم طويل من الإهمال، كان أخطر صوره إهمال التربية، وأقسى نتائجه ضياع جيلٍ لم يُحسن أحدٌ الإمساك بيده في الوقت المناسب.
ننظر اليوم إلى شبابٍ حائر، متخبّط، بعيد عن دينه، فنُسارع إلى الإدانة قبل الفهم، وإلى اللوم قبل الاحتواء، وكأننا ننسى أن أكثر هذا التيه لم يكن عنادًا، بل فراغًا، ولم يكن تمردًا، بل فقدانًا للبوصلة.
أخطر ما أصاب المجتمع ليس قلة الصالحين، وإنما ضعف المشروع التربوي.
فالدين لم يُقدَّم لكثير من أبنائنا بوصفه حياة تُعاش، بل أوامر تُلقَى، ونواهٍ تُكرَّر، دون روحٍ تُحتضن، أو معنى يُزرع.
لقد تعلّمنا – أو هكذا ظننا – أن الخطاب المرتفع يصلح كل شيء، فإذا به يزيد المسافات، وأن القسوة تُنتج استقامة، فإذا بها تُورث نفورًا. وغاب عنا أن القلوب لا تُفتح بالقهر، وأن النفوس لا تُربّى بالخوف وحده.
التربية الحقيقية تربية طويلة النفس؛ لا تستعجل الثمرة، ولا تطلب التصفيق، ولا تُقاس نتائجها بالأرقام العاجلة.
هي تربية تصبر على التعثر، وتُحسن التوجيه، وتفهم أن الإصلاح مسارٌ ممتد، لا قفزة خاطفة.
الشاب لا يحتاج إلى خطبةٍ بقدر حاجته إلى قدوة، ولا إلى محاكمة بقدر حاجته إلى من يسمعه، ولا إلى مراقبة دائمة بقدر حاجته إلى ثقة تُمنح وتُبنى.
فكم من انحرافٍ كان يمكن تداركه لو وجد صاحبه صدرًا رحبًا، وعقلًا واعيًا، وقلبًا صادقًا.
الثغر اليوم ليس منبرًا فحسب، ولا ساحة مواجهة ظاهرة، بل هو بيتٌ يُحسن التربية، ومعلّمٌ يُتقن الاحتواء، وبيئةٌ تحمي الفطرة قبل أن تطالبها بالكمال.
كل من أصلح في موقعه، وأدّى دوره بإخلاص، فقد وقف على ثغرٍ من ثغور الدين، وإن لم يشعر.
أعظم استثمار ليس حملة إعلامية مؤقتة، ولا مشروعًا يلمع ثم يخبو، بل بناء إنسانٍ يعرف ربَّه، ويثق في نفسه، ويفهم دينه فهمًا متوازنًا، ويملك القدرة على الثبات وسط الفتن.
العلاج لا يكون بالتشهير، ولا بالسخرية، ولا بتوسيع فجوة القطيعة بين الأجيال، وإنما يكون بالعودة إلى الجذور: الأسرة الواعية، الصحبة الصالحة، الكلمة الصادقة، والقدوة التي تعيش ما تقول قبل أن تطلبه.
الواقع يقول: المجتمع لا ينهار فجأة، ولا يقوى فجأة.
ما أضعف من بنيانه إهمال التربية، وما يقويه تربية صابرة، واعية، طويلة النفس، تعمل بصمت، وتترك الأثر لله
وما دام هناك من يؤمن بأن إصلاح فردٍ واحد قد يكون بداية طريق، فإن الأمل باقٍ، والعمل ممكن، والنهوض – وإن طال – ليس مستحيلًا.