تمرّ اليوم الذكرى الـ476 على انعقاد مجمع ترنت (أو ترينتو)، أحد أهم المجامع المسكونية في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، والذي امتدت جلساته بين عامي 1545 و1563 في مدينة ترينتو شمال إيطاليا، جاء هذا المجمع في لحظة تاريخية مضطربة، دفعتها التحولات الكبرى التي أحدثتها حركة الإصلاح البروتستانتي بقيادة مارتن لوثر، وما أثارته من جدل لاهوتي وخلخلة في بنية الكنيسة التقليدية، الأمر الذي جعل من انعقاد هذا المجمع محاولة كاثوليكية جذرية لإعادة تعريف العقيدة وترتيب البيت الداخلي.
ويُعد مجمع ترنت نقطة تحول فارقة في تاريخ المسيحية الغربية. فهو اللحظة التي أعادت فيها الكنيسة الكاثوليكية إنتاج ذاتها عقائديًا، ووضعت الأسس الصلبة للإصلاح المضاد، ورسّخت هويتها لقرون متتالية.
رد كاثوليكي على "ثورة لوثر".. مجمع وُلد من النار
شهد القرن السادس عشر واحدة من أخطر الأزمات التي واجهتها الكنيسة الكاثوليكية في تاريخها. فقد فجّر مارتن لوثر ثورة فكرية ولاهوتية زلزلت أوروبا، بعدما ترجم الإنجيل من اللاتينية إلى الألمانية، وانتقد الممارسات الكنسية وحرّم بيع صكوك الغفران. هذه التحولات دفعت البابا ليو العاشر إلى حرمانه كنسيًا سنة 1521، لكن تأثيره كان قد تمدّد وأسس لحركة إصلاح شملت ألمانيا وأوروبا بأكملها.
أمام هذا التحدي، وجد البابا بولس الثالث نفسه بحاجة إلى ردّ مؤسسي شامل، فدعا سنة 1542 إلى مجمع عام، تحول لاحقًا إلى مجمع ترنت، ليكون سلاح الكنيسة الأكبر في مواجهة المدّ البروتستانتي. وعلى الرغم من أن بداياته شابها التوتر بسبب محاكم التفتيش ضد البروتستانت، فإن المجمع بدأ أعماله رسميًا في ديسمبر 1545.
25 جلسة.. وثلاثة بابوات
انعقد المجمع عبر 25 جلسة متقطعة على مدى 18 عامًا، وتناوب على رئاسته ثلاثة بابوات: بولس الثالث للجلسات الثماني الأولى، يوليوس الثالث للجلسات من 12 إلى 16، بيوس الرابع للجلسات من 17 إلى 25.
ورغم التوقفات الطويلة والظروف السياسية المعقدة آنذاك، استطاع المجمع صياغة واحدة من أهم الوثائق الكتابية واللاهوتية في التاريخ المسيحي.
حسم لاهوتي واسع.. وإدانات واضحة للبروتستانت
أصدر مجمع ترنت سلسلة من القرارات التي وُصفت بأنها التأسيس الفكري للإصلاح الكاثوليكي المضاد، ومن أهمها: إدانة ما عُدّ "هرطقات" البروتستانت في مسائل الخلاص والخطيئة والتبرير والقداس، تثبيت سلطة الكنيسة في تفسير الكتاب المقدس، ورفض اعتبار الفرد مؤهلاً للتفسير الحرّ.
إعادة تأكيد التحول الجوهري في سرّ القربان (Transubstantiation) كركن رئيسي في اللاهوت الكاثوليكي، وإقرار صحة سرّ التوبة وشرعية شفاعة القديسين، تعريف ذبيحة القداس وتعزيز حضورها العقائدي، بجانب اعتبار النسخة اللاتينية من الإنجيل (الفولغاتا) النص الرسمي لقانون الكتاب المقدس، مع تكليف بإصدار نسخة قياسية لم تنجز إلا عام 1590، كما اعتبر المجمع كتاب "الخلاصة اللاهوتية" لتوما الأكويني مصدرًا معبّرًا بدقّة عن حقائق الإيمان، مانحًا إياه مكانة تقارب سلطة الكتاب المقدس.
إصلاحات في الطقوس وولادة القداس التريدنتيني
لم تقتصر آثار المجمع على الجانب العقائدي فقط، بل امتدت إلى طقوس الكنيسة وممارساتها، فبعد عام من اختتام جلساته، أصدر بيوس الرابع عام 1565 "قانون الإيمان المسيحي التريدنتيني". ثم تبعه بيوس الخامس الذي أصدر: التعليم المسيحي الروماني (1566)، مراجعة صلوات الساعات (1568)، مراجعة المسيال (1570)، أدت هذه القرارات إلى تدوين القداس التريدنتيني، الذي ظل الشكل الرسمي للقداس الكاثوليكي لأكثر من 400 عام.
أثر تاريخي عابر للقرون
بحسب كتاب "موسوعة تاريخ أوروبا: عصر النهضة (1500–1789)" للمؤرخ مفيد الزيدي، فقد كان لمجمع ترنت دورٌ محوري في إعادة تثبيت الكاثوليكية على الساحة الأوروبية، خصوصًا بعد صعود التيارات البروتستانتية كالكالفنية والأنجليكانية. وقد ساعد المجمع الكنيسة على استعادة مواقعها وتثبيت هويتها العقائدية في مواجهة التفكك الديني الواسع.
وبعد أكثر من ثلاثة قرون على هذا الحدث، لم ينعقد مجمع مسكوني آخر إلا في عام 1869 مع مجمع الفاتيكان الأول، وهو دليل على العمق الهائل لقرارات ترنت وتأثيرها طويل المدى.