حازم حسين

عن السابقة والإصلاح والتراكم.. سباق النواب من رسالة الرئيس إلى أحكام الإدارية العليا

الإثنين، 01 ديسمبر 2025 12:00 م


عادت انتخابات مجلس النواب إلى بؤرة الاهتمام الشعبى العام، كما لم تكن منذ بدايتها، وربما فى أى استحقاق سابق طوال عقود مضت.

والفضل فى ذلك يُرَدُّ إلى رئيس الجمهورية، إذ كان بيانه المنشور عبر صفحته الشخصية فى السابع عشر من نوفمبر فارقا، لجهة المتابعة الدقيقة من القيادة السياسية لمجريات الاستحقاق، ثم الحسم فى اتخاذ موقف جاد من الملاحظات المتواترة، وتحفيز الهيئة الوطنية وبقية المعنيين بالعملية على انتهاج مسار القانون إلى آخره، ومن دون أية مواءمة أو اعتبارات إلا الانضباط وسلامة الاقتراع، والتوصل إلى إرادة الناخبين الحقيقية، بحسب النص الوارد فى الإشارة الرئاسية.

كان الكلام واضحا تماما، ومنضبطا على ميزان حساس. فالفصل بين السلطات يقتضى أن يكون رأس الجهاز التنفيذى محايدا إزاء سلسلة الإجراءات المُعتمدة لتكوين السلطة التشريعية؛ لكنه يظل مَعنيًّا بالتوازن وضمان الجدارة التمثيلية لنواب الشعب.

الهيئة مستقلة تماما فى عملها؛ إنما تحتاج إلى مؤازرة مادية ومعنوية تشجعها على إمضاء إرادتها دون حرج، أو ارتباك تجاه الأعباء الاقتصادية وغيرها، ممّا يترتب على بعض القرارات.

والأهم أن الرسالة حملت إشارة قوية وحاسمة للجميع، بأنه لا اعتبارات سوى المصلحة الوطنية، واستقامة التجربة قدر الإمكان، وألا تُبنَى افتراضات غير واقعية على وقائع تخص أصحابها دون غيرهم.

ومن هنا تعاظمت حماسة المرشحين فيما رأيناه من وفرة فى الطعون، وتولّدت عنها قائمة الأحكام الصادرة من الإدارية العليا ببطلان عدد غير قليل من الدوائر.
أبطلت المحكمة نتائج الفردى فى تسع وعشرين دائرة، تُضاف إلى تسع عشرة سبق أن أبطلتها الهيئة الوطنية للانتخابات إبان إعلان النتائج.

والأحكام حصيلة ما يزيد على 250 طعنا تقدم بها المترشحون فى الآجال القانونية المحددة، رُفض منها 14 بداية، وأُحيل 59 تخص ما يزيد على أربعين مقعدا حُسمت من الجولة الأولى، بعدما ترتبت مراكز قانونية لحائزيها، وانعقد الاختصاص لمحكمة النقض بالفصل فى صحة العضوية. وتبقّى 187 جرى الفصل فيها أول من أمس السبت، وإلى الساعات الأولى من صباح الأحد.

لا تخلو الذاكرة النيابية البعيدة من حكايات شبيهة. وفى وقائع سابقة مرت استحقاقات أسوأ بتكاليف أقل، وما كان أحد يتوقع المبادرة الرئاسية إلى حين صدورها دون تمهيد.

ولعلّ أشد المتفائلين كان يكفيه إبطال صندوق أو عدة لجان، وإن تمادى بخياله فلم يكن ليتجاوز نطاق إلغاء دائرة أو أكثر قليلا.

ما يشى بمقاربة مغايرة لما درجت عليه الساحة السياسية، ولو كان الأمر بغرض التهدئة والدعاية وامتصاص المشاعر السلبية؛ لناب القليل فيه عن الكثير، وما وصلت نسبة الإلغاء النهائية لأكثر من 68% تقريبا من مجموع الدوائر الفردية.

والقصد؛ أن السلطة نأت بنفسها علنا عن تفاصيل المشهد الانتخابى، ورفعت الغطاء عن العملية بما لا يغل أيدى أطرافها أن يختصموا فيها كيفما شاء لهم الهوى والقانون. ولو انصرفت رغبتها إلى هندسة المسار بكامله؛ لما وضعته بملء إرادتها فى موضع المساءلة الشعبية والرسمية على السواء.

وذلك؛ من دون أن يعنى القول السابق أن الأحوال كانت مثالية طبعا؛ لكنها تخرج من سياق الدولة بأطرها النظامية، إلى مستوى العلاقات الحزبية والفردية، وتضع الموقف بكامله على طاولة التشريح، من منطلق أنه يخص السلوك والممارسة والبيئة السياسية، ولا يُعبر عن طابع عام يُراد إنتاجه أو تسييده على ما عداه من خيارات.

تعود العملية بعد الأحكام إلى آخر إجراء صحيح. أى ما ستسفر عنه الحيثيات بشأن مواضع المخالفات وآثارها على انضباط العملية ومخرجاتها الأخيرة. ونظريا؛ فعامل الإبطال قد يتصل بالدعاية والحشد المنظم، أو عملية فرز الأصوات، أو تمثيل المرشحين ووكلائهم فيها ومنحهم صورة من كشوف الحصر العددى، وكذلك التضارب وعدم تطابق الأرقام بين اللجان الفرعية والعامة.

بعضها ربما تكفى فيه إعادة الفرز، والبعض قد يستلزم إعادة العملية من بدايتها، لكن الحد المرجعى لها جميعا القوائم النهائية المعلنة من هيئة الانتخابات، بما يعنى أنه لا مجال للحديث عن فتح باب الترشح مجددا، كما لا مجال للمس بالمراكز القانونية الحالية لنواب القائمة، من جهة انتفاء الصفة والمصلحة لأية طعون بشأنها، انطلاقا من كونها خاضت السباق منفردة بلا منافسين.

أما المطعون على عضويتهم من الفائزين فى الدوائر الفردية؛ فجهة الاختصاص فى محكمة النقض إما أن تقضى بصحة العضوية، أو تقرر البطلان بحسب الحالات، ما يتولد عنه مسار جديد يُعيد الولاية إلى هيئة الانتخابات، لإجراء جولات تكميلية على المقاعد المشمولة بالأحكام السالبة للصفة، من دون أن يمس ذلك بقية النتائج المتحققة فى المرحلتين.

والمعنى؛ أنه لا وجه للحديث عن إلغاء الانتخابات بكاملها، انطلاقا من تعداد حجم المخالفات أو ما تسفر عنه الأحكام بشأن الطعون، لأنهما عملية قابلة للتجزئة والنظر فى كل مكوّن منها على حدة، وضبط اختلالاته وفق طبيعة المخالفة وما تقتضيه من إجراءات، وهى غير قابلة للتقويض إلا من جهة الدستورية فيما يخص القوانين المرتبطة بالبرلمان ومباشرة الحقوق السياسية، وكلاهما ليس محل بحث فى الحالة الراهنة.

لا صلاحية لدى الرئيس نفسه لوقف المسار الانتخابى؛ لكنه يُوظّف رمزيته ورصيده المعنوى فى ضبط الانحرافات، كما فعل بالبيان الذى تلا التصويت واستبق إعلان النتائج فى المرحلة الأولى. وحتى مع الإشارة لصلاحيات الهيئة الوطنية؛ فإننا إزاء ما لا يقل عن 180 نائبا صارت لهم مراكز قانونية قائمة، وقد يتضاعف العدد مع إعلان نتائج الجولة الأولى من المرحلة الثانية غدا.

ودستوريا؛ يحق لرئيس الجمهورية أن يحل المجلس؛ إنما بعد أن ينعقد بالفعل، وعبر المرور من قناة الاستفتاء الشعبى. وتلك المسألة تحكمها اعتبارات الظرف والمواءمة، ومقتضيات التوازن بين المنافع والأضرار، وحال استكمال ما تبقى من السباق بانضباط وشفافية كاملين، وتصويب الاختلالات المنظورة والماسّة بنزاهة الاقتراع وإفرازه نوابًا مُعبّرين عن إرادة ناخبيهم؛ فقد لا نكون فى حاجة إلى تجديد منازعات الماضى، بقدر حاجتنا للبناء على وقائع الحاضر، والاستفادة من دروس التجربة فى إغناء ما بعدها، والاعتبار بما شهدناه وكنا طرفا مباشرا فيه، وما سيكون بالضرورة قيدا ثقيلا فى المستقبل على كل مخالف أو منحرف.

استعادة الحقوق مهمة، وتجريد غير المستحقين من مكتسباتهم غير المشروعة أهم؛ لكن أثمن ما جرى طيلة الأيام الماضية أن الحالة كلها جددت الثقة فى الفكرة بمشتملاتها، من أول المبادرة إلى التنافس، مرورا بفاعلية المشاركة، وإلى جدار الصد الذى يُؤمّن لكل مترشح أن يدافع عما يعتبره حقا وواجبا.

ما يزال الوعى الشعبى يحصر التمثيل النيابى فى بيوت بعينها، والوفرة المالية لها اعتبار، والقرى تتجمهر وراء أبنائها ولو لم يكونوا الأفضل. لن تتغير الثقافة السياسية بين يوم وليلة، ولن نغادر إرث العصبية والحشد العائلى والجهوى بسهولة، إلى معايير الجدارة والاستحقاق والفرز فى ضوء الأفكار والبرامج الانتخابية.

لكنّ الخروج من السلبيات الموروثة إلى فضاء جديد قابل للفحص والمساءلة، أول ما يشجع الزاهدين على الأقدام وخوض المعترك، ويجر من ورائهم ناخبين ينصرفون عن الصناديق لأسباب شتّى، ولا حصانة للديمقراطية أكثر من الزخم وكثافة الإقبال.

المُرشّح الذى يراهن على شراء الأصوات، يقيم حسبته على انصراف الجمهور وضعف نسب التصويت. ولو تضاعف الحضور من 10 أو 20% إلى 50 و60 وأكثر؛ لن يكون بمقدوره أن يغرى تلك الجموع كلها، وإن أصر على موقفه فلن يُحسم السباق له بمئات أو عدة آلاف يزيف إرادتهم. والذين يحشدون بسطاء القرى والأحياء فى سيارات وحافلات؛ لن تغنيهم تلك الآلية عندما يزداد منافسوه عددا، ويخرج وراء كل منهم آلاف من أهله وجيرانه وداعميه.

كل السلبيات منبعها انصراف الغائبين، أكثر من انفلات الحاضرين ومخالفاتهم، والسلامة تبدأ من تحويل الاستحقاقات الانتخابية إلى عملية اجتماعية شاملة، وخبز يومى للشعب بكل فئاته، ترشحا وانتخابا ومواكبة بالاهتمام والرقابة الشعبية.

وقتها فقط؛ لن يكون بإمكان شخص أو حزب أن يلعب فى إعدادات بيئة كاملة، ولن تصل المخالفات فى أسوأ حالاتها إلى ما يمس الجوهر ويغير التركيبة كلها. قد يعبر آحاد بالمنطق القديم؛ لكنهم سيظلون استثناء على القاعدة، يسهل حصره واستدراكه بالتراكم المتدرج.

ما جرى سابقة بكل المقاييس؛ فلم يحدث من قبل أن تعرّضت انتخابات نيابية لهذا القدر من الجدل القانونى، حتى مع توافر مؤاخذات شعبية أكبر على بعضها. وتمتاز التجربة الحالية على سابقاتها جميعا بالمُسارعة إلى التقاط المآخذ والتعامل معها بإيجابية، ثم تصويب المسار بكل الوسائل والإمكانات المتاحة.

إنما المؤكّد أن المشهد يقود وجوبيا للنظر فى طبيعة الفعاليات الانتخابية، بين الثقافة والتشريع والممارسة، ومُجمل الأجواء السياسية عمومًا، لا سيما ما يخص الأحزاب وأداءها فى الخاص والعام، ومستوى علاقتها بالشارع، بين قواعد غائبة تماما، وأخرى مَبنية على مُرتكزات هشّة، وأبعد ما يكون عن منطق الأيديولوجيا والأفكار وبرامج العمل المنهجية.

ليس شرطًا أن يقود الإلغاء وإعادة الانتخابات إلى تغيير فى التراتبية. بمعنى أن بعض المخالفات ربما تكون من قبيل الاعتياد، أكثر من كونها بحثًا عن سبقٍ غير مُتحقق. أى أن يفوز بعض المتورطين فيها؛ حتى بعد إجراء السباق بانضباط وشفافية كاملين.

أمَّا لو أفرزت الهبّةُ الإصلاحية تغيّرًا واضحًا فى خريطة النتائج المتوقعة؛ فقد يتوافر للمجلس الجديد مزية لم تكن لغيره؛ ألا وهى أن بعض نوابه سيكونون من العائدين بعد انقطاع الآمال، ومَن تعرّضوا مباشرة لأثر الممارسات غير السليمة، ولهم مصلحة شخصية فى القضاء عليها، وعمومية فى وضع إجراءات عملية لضبط الأمور من المنبع.

ربما نحتاج للنظر مُجدّدًا فى القوانين، وإلى مُقاربة أكثر اتصالا بأرض الواقع، فيما يخص العملية كلها من الترشح والدعاية مرورا بالتصويت وحتى إعلان النتائج.

حدود الإنفاق الحالية غير منطقية إطلاقا، فى ظلّ اتساع الدوائر وغلاء أسعار المُدخلات مع التضخم وتحولات سعر الصرف فى السنوات الأخيرة.
والأمر قد يستلزم النظر فى زيادتها، بالتوازى مع وضع قواعد واضحة ومُشددة لضبط الالتزام بها، وإحكام الرقابة على تجاوزاتها، وبما يتّسع لأكثر من إفادات الحسابات البنكية والفواتير الرسمية، وقد يُستعان فيه بلجان فنية تابعة لجهة الإدارة، تتولى الرصد والتقييم ميدانيا.

القوانين نفسها تتطلّب حوارًا سياسيا ومجتمعيًّا موسّعًا، يحسُن فيه الاستضاءة بمُخرجات الحوار الوطنى، أو تكليف أمانته بجولة جديدة تتناول مسائل الانتخابات والأحزاب والمشاركة من واقع التجربة الأخيرة. بانفتاح على كل الأفكار مهما بدت صعبة أو مُتناقضة.

ما يزال كثيرون يُطالبون بالعودة إلى النظام الفردى حصرًا، وآخرون يتحدثون عن أشكال بديلة للقوائم، والناخبون أنفسهم يتيهون فى دوائر تضاعفت أحجامها مرتين أو ثلاثا.

كلها موضوعات واجبة البحث والتعمُّق فى تفاصيلها، مع الموازنة الدقيقة بين الالتزامات الدستورية بشأن التمييز الإيجابى لبعض الفئات، والأولوية الوطنية بتحقيق التمثيل الواسع والعادل، والأهم على الإطلاق دائما، وما أكده الرئيس فى بيانه، بخصوص المشاركة أوّلاً، ومنها إلى التوصل لإرادة الناخبين الحقيقية.

رسالة الرئيس كانت إشارة إصلاحية، ودفعة قوية للمُنادين بالإصلاح. والأحزاب والقوى السياسية بطبعها مَعنيّة بالتقويم من الداخل، والبناء بالتدرج، وعليها أدوار مباشرة لجهة الاشتباك مع الوقائع، وتصويبها بالممارسة والخطأ؛ وليس التعالى واتخاذ مواقف حدّية لا تُثمر عمليا، ولا تُقرّبها من الشارع بأية درجة.

الفارق كبير بين المُنظّرين والمُنخرطين فى التجربة، بين من ينغمسون فى تُربة الواقع بكل تعقيداتها وميراثها الطويل، والذين تتسلّط عليهم الرغائبية والتفكير بالتمنّى، ولا يعرفون أن الشارع نتاج نُخبته، والعكس أيضًا، وإذا وقع قدر من المسؤولية على الدولة؛ فمثله أو أكثر على الفاعلين والطليعة مِمّن لم يجتهدوا فى الوصول للناس، أو فرّطوا فى ثقتهم عندما تحصّلوا عليها.

ولا حاجة للتذكير بما كان طيلة نصف القرن الأخير، أو بالنسخة الأسوأ منه بين العامين 2012 و2013، وقد شهدت تحالفات ظاهرة ومُعلنة بين أطياف من اليسار والقوميين الناصريين مع الرجعية الدينية، وما أُدير فى الغُرف المُغلقة أفدح، وحتى عندما أخذ الشعب زمام المبادرة فى 30 يونيو، تلكأت بعض نخبته وأحزابه، وما يزال فريق منهم يتعثّرون بين الخيام والشعارات.

ولن أُشير إلى فوز بعض وجوه المعارضة قبل أيام، فقد أفاض فيه كثيرون. إنما الفكرة أن المشاركة بوّابة الإصلاح، إن لم يكن بالوصول إلى مقعد التشريع؛ فبضبط الطريق إليه، والرقابة على عملية إنتاجه، ثم على سلوك النائب نفسه تحت القبة وإزاء ناخبيه. وهى مهمة ديناميكية دائمة، لا موسمية ولا مُتقطّعة، وأحسب أن الجميع بلا استثناء لا يستوفون شروطها للأسف.

الكوب واحد؛ لكن طرفًا ينظر لنصفه الفارغ، ربما يظل على عطشه دون أن يرويه الكلام، كما لا يتساوى مع آخر ينطلق من النصف؛ سعيا إلى الامتلاء ذاتيًّا بالإيجابية والفاعلية، وصولا إلى ملء الكُلّ؛ ولو طال الوقت وتعاظم الجهد المطلوب.

الأول سيرى إلغاء 48 دائرة طعنا فى الانتخابات كلها، والثانى سيراه جدّية غير مسبوقة فى الاستدراك والتقويم، تتطلّب مواكبتها والبناء عليه فى المرحلة الثانية، وفى كل استحقاق مُقبل، وفيما خارج الاستحقاقات من آليات العمل المدنى والسياسى، وهيكلة الأحزاب وتنشيط أبنيتها وقواعدها، وبدء التحضير من الآن لتأهيل كوادر صالحة للمنافسة مُستقبلاً، وقادرة على اجتذاب الناخبين دون مُغازلة أو إغراءات، وبالصلاحية وإقناع الشارع وحدهما، ستستقيم الأحوال كلها من دون شك.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب