الدكتور صلاح السروى يكتب: صنعت ثقبا فى السحاب

الإثنين، 01 ديسمبر 2025 06:17 م
الدكتور صلاح السروى يكتب: صنعت ثقبا فى السحاب صلاح السروى

أنا لست ابن أمي، أنا ابن حلمها في أن أكون شيئا يرفع رأسها أمام العالم
أنا لست ابن أبي، أنا ابن تمردي على سلطته، فأفضيت الى ما كان يريد
رافقتني المخاوف من الحبوة الأولى. رافقني الخوف من أبي الذي يريدني نسخة منه، ورافقني الخوف من المعلم الذي يفرح عندما أخطئ فتتاح الفرصة لممارسة ساديته.

والخوف من السلطة عندما أفكر في أن أكون ما أعتنقه. والخوف من نفسي ألا أكون قد وفيت بما ينبغي علي من واجب.
خفت من الكتابة عن نفسي لأنها تعريني فتفضح عجزي،  وخفت من الكتابة عن الآخرين فقد لا أوفيهم حقهم.

درجت على محبة المعرفة وادمان القراءة،  واصطدمت بسؤال الحرية مبكرا، فقلت لنفسي كن حرا، حتى لو اضطررت لاخفاء ذلك.
أنا لست ابن الزقازيق، انا ابن المدينة التي تريفت بفعل العائدين من الخليج والوافدين اليها من القرى، فعهدت الى بعض أبنائها الذين لاذوا بالعاصمة، بأن انتصروا لانتسابي الى المدن.

أنا لست ابن دار العلوم، انا ابن الطاهر أحمد مكي الذي أوعز الي بأن أقيم الجسر بين التراثية والحضور في الزمان.
انا ابن مصر الذي عندما ذهب الى أوربا كانت بلاده في قلبه تميمة الجمال والبهاء والدفء، وتهيب به كل حين، أن احفظ غيبتي، وعد الي وقد فهمت شيئا.

انا لست ابن آداب القاهرة ، أنا ابن مناخ الاستنارة والنزوع الطليعي الذي صنعه طه حسين ومن تبعوه باحسان .
انا ابن محمود العالم وشكري عياد ولويس عوض ومحمد مندور وعبد المنعم تليمة وحسن حنفي.
أنا ابن اليسار الذي يمنح العالم انسانيته وقدرته على منح الأمل في غد يملأه الغناء والفرح، ولا أطمع في شيء.

انتميت الى مدرسة جورج لوكاتش فاكتشفت أن سؤال الأدب يدور حول الانسان بوصفة منتوجا ومنتجا للواقع، في الآن نفسه.
ولكني تجاسرت على الإضافة الى قوله بأن الموقف الأيديولوجي هو سيد الكتابة، فقات بأن الموقف الذي يقلب الأيديولوجيا على أوجهها العديدة، هو السيد، شريطة الولاء الى الجمال.

ان الجمال هو صنو الحق والخير، ولا جمال بدونهما، والجمال الفني يكمن في ما  يجعلنا نكتشفهما بأنفسنا، كقراء. والجمال الفني ليس خطبة عصماء وليس وصفة جاهزة تسير عل خط مستقيم، انما هو حركة مراوغة تتخفى وتتبدى لتتخفى، فتدهشنا بلحظة التعرف وروعة الاكتشاف والنفاذ.

ومن محمود العالم عرفت جولدمان بعد أن نوه عنه العالم في ثلاثية الرفض والهزيمة. وسيرا على درب العالم الذي لم يتوقف عن تطوير رؤيته، بعيدا عن التقديس والتكريس، تجاسرت على الإضافة الى فكرة جولدمان في "رؤية العالم"، قولا عن "رؤية الذات"، بوصفها جزءا فاعلا في جدل العالم.

عشقت جسارة جارودي وهو يظهر عوار الصهيونية ويخرج على عبادة الستالينية ويؤسس "للبديل"، الذي قد لا يكون هو البديل، ولكنه رمى حجرا ثقيلا في البركة، وانتمى للإنسانية.

لم أرتبك حينما خرجت صرعات "الأدبية" و"الشكلية"، لتقول بأن الاعتصام بالمعنى عار، وأن معانقة أشواق الانسان خطيئة. وقلت ان العار أن يستقيل الأديب والمثقف من وظيفة أن يكون نبي الحياة. الأدباء هم أنبياء الدنيا، هم سفراؤها الى ماوراء وجودنا وحياتنا البسيطة.
وقلت من العار أن يستقيل المثقف من وظيفة زرقاء اليمامة، فمن الذي سينفق كل العمر لكي ينقب ثغرة في جدار العماء، كي يضئ وعينا ويدلنا على الطريق؟ ومن سيخبرنا بالآتي كي نأخذ حذرنا؟.

ففطنت الى أني كي أكون ناقدا حقا، ينبغي علي الاشتباك مع كل المعارف الإنسانية وأم هذه المعارف جميعا هي الفلسفة. فمنها نبعت العلوم واليها تعود.

قال هيجل الفلسفة معرفة بالتصور والفن معرفة بالصور، فكلاهما معرفة وكلاهما يفضي الى الآخر. وعليه، فان الفلسة تجريد، والفن تجسيد، فتجرأت في لحظة طيش وقلت ان الفن أيضا تجريد، فهو حين يجسد الواقع فانه ينتخب من مفرداته ما هو جوهري ويستحق الابراز وما هو جدير بصنع الدلالة، وحين يغتني العمل بالتفاصيل، فانه يرمي، في حقيقة الأمر، الى قطرة مركزة من الحكمة.
كل الفارق بينهما أنه الفلسفة تأتيك بها واضحة مقصودة، أما الفن فيأتيك بها بغتة وعلى عير انتظار.

والفن قد لا يمتلك الإجابات بل مهمته طرح الأسئلة، التي يقول عنها تشيخوف: "شريطة أن يكون السؤال معقولا"، فقلت وما الذي يمنع من أن يكون السؤال ضربا في المتاهة وخوضا في بحار الخيال المعتمة. فحضرني قول ميشا سليموفيتش وهو يقول:
"حقا ..
لم لا يصنع الناس ثقبا في السحاب
كي يستدفئ الأطفال بضوء الشمس؟ "

يبحث الأديب عن حقيقة الانسان في الوجود، وعن جدارته بالحياة، في التفاصيل اليومية، لا لكي يمتعنا بقدرته على التصوير (وهذا انجاز جميل في حد ذاته)  ولكن لكي يكون كافيا، لا بد له أن  يكشف لنا عما يخفيه المشهد من جمال انساني متوار بين طيات القبح، من عقيق يغطيه الطين والوسخ، من عرق ذهبي يمر به العابرون دون التفات.

الجمال الحقيقي هو السعي نحو العناة والبائسين والتعساء، من أجل استجلاء ممكنات الفرح.
الجمال هو السعي نحو الكشف، والغوص، وخوض الغمار، في رحلة البحث عن "لؤلؤة المستحيل".
أيها الأديب انطلق من يومك  وعالمك البسيط، لكن ليكن سعيك من أجل الوصول الى "آفاق النجوم".
قال الشاعر الصيني لو شون:
"علينا نحن الشعراء أن نقرع الصمت حتى تجيبنا الموسيقى"

فالأدب هو اليقين بأن وراء المرئي ما هو أثمن منه وأن المعاني الحقيقية للأشياء قد لاتبدو على السطح الظاهر، وأن ما بين سطور كتاب الوجود يكمن ما هو أقوى مما يعلوه من بريق، وأعمق مما تنطق به السطوراللامعة.

اللغة ليست مطواعة ولا سلسة، انها مراوغة وعصية. تريد، تلك المستبدة، أن تنطقني بما درجت هي عليه من نطق الأوائل. وأقول لها: لا، أنت ملكي سأعيد خلقك وانشاءك. الشعراء والكتاب صناع اللغة، لأنهم يوظفونها ولا يتوظفون عند محصولها الموروث.

ان الروائي الذي يكتب الشخصية والحدث والمشهد، هو في الحقيقة مكتوب، وليس مجرد كاتب، انه حين يحرك شخوصه وفق معطياتهم وقانون حركتهم الذاتي، فانه يتعلم الكثير من مآلاتهم التي صنعوها، هم، بقلمه، هو. ويفهم الكثير من خلال مصائرهم التي لاقت صنيعهم، هم، بخياله، هو. فتنكشف الرؤية أمامه، ويدرك ما لم يكن يدركه، من قبل.

فلتكن أيها الكاتب، مخلصا ووفيا لأبطالك ولا تخذلهم بجعلهم على غير ما يمكنهم حقا. فهم أدرى بما ينبغي فعله، لا أنت.
لذلك لن يكون الكاتب متفردا الا اذا أطاع هوى شخوصه، وحرك أحداثه بقوانينها الذاتية.

هنا تصبح الكتابة تجربة غير مأمونة العواقب فلا نستبين مآلاتها الا بعد انتهائها. وهنا تكمن أصالتها وطزاجتها وصدق دعواها. 
أما الكتابة على معايير ومقاييس جاهزة فانها لاتنتج الا فنا مزيفا وابداعا معلبا.

لأن الابداع هو الاحداث على غير مثال سابق. ولذا فالكاتب الحق هو الذي يصنع الاتجاه الأدبي، وليس الذي يسير في ركابه
حاولت قدر استطاعتي أن لا أكون الناقد الجهبذ، بل آثرت أن أرافق الكاتب شطرا من مغامراته الخطرة وألاعيبه التي يمرق فيها من خلال السكاكين، سعيا وراء الكشف عن ألغاز الكنوز في الجزر القصية المجهولة.

اهتممت بالنقد النظري، لا ترفا ولا رغبة في التعالم، ولكن لكي أحكم أدواتي النقدية، فلا ناقد بلا نظرية.
ولا نقد بدون وعي عميق محدد بكنه الأدب وجمالياته ووظائفه. عندها فقط يمكن أن يكون نقده قيمة مضافة، لا تعليقات هامشية.
والوعي بالنظريه يؤدي الى الاشتباك مع عقل العالم، فيتحول الناقد الى عقل كبير، وحين يشتبك مع النص يشتبك مع كل النتاج المعرفي الذي راكمته حضارة بني البشر.
لذلك فهو يضئ ويستضئ.

لن يكون لنا جهد نظري خاص بنا ما لم نعانق الفلسفة، فنحرر العقل من رعب المغامرة، وخوف الاتهام بالتجديف، ورهاب أن يزْوَرّ الناس عنا. الناس أسرى ما عهدوا. فلنجعل يعهدون شيئا أقوم.

الجهد النظري في مجال النقد هو حصيلة الاشتباك مع الفكر الفلسفي. وأداة ذلك هي العقل الجسور المستعد للقول بأن "الملك عارِِ"، وبأن "الأشجار تتقدم نحونا"، اذا رأى ذلك بعين بصيرته. علينا أن نؤسس ثقافة الابداع والنقد والمغايرة والمساءلة.

فنحن أجلُّ من أن نكون جزءا من القطيع، عندها سنلقى مصير أغنام جروندنج التي ما ان أُجبر كبيرها على القفز في البحر، حتى تبعته وهي عمياء، بينما كانت، للغرابة، مبصرة.      

شكرا لكم وأتمنى أن أكون مستحقا لاهتمامكم




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب


الموضوعات المتعلقة