عادل السنهورى

أكرم القصاص والبحث عن "إنصاف السادات"

الإثنين، 01 ديسمبر 2025 04:35 ص


الكاتب الصحفى الكبير والصديق أكرم القصاص واحد من رفقاء رحلة الكفاح و"الكحرتة" فى شوارع وأزقة وحوارى الصحافة صاحبة الجلالة والتى لم نعرف لها بلاط طوال المشوار الصعب الذى مشيناه منذ منتصف الثمانينات وحتى زمن قريب. رحلة تتجاوز الآن 35 عاما التقينا بعد ضربة البداية بسنوات قليلة فى صحيفة "مصر الفتاة" ثم "العربي" و"صوت العرب" فى إصدارها الثانى من قبرص ومكتب "اليوم" السعودية بالقاهرة ثم استراحت أقلامنا ورفقتنا فى موقع وصحيفة "اليوم السابع".


أكرم من بين "الشلة" الذى تميز وتفوق علينا بروحه وقلمه وكتاباته الساخرة وصدرت له عدة كتب تتجلى فيها روح السخرية فى أبهى صورها. وحصل خلال مشواره مع الكتابة الساخرة على جائزة نقابة الصحفيين. إلا أنه فى السنوات الأخيرة وبدافع من زخم الأحداث والتقلبات والتطورات التى لحقت بمصر وبالأوضاع السياسية والأمنية خلال العقدين الأخيرين وتحديدا مع وقوع أحداث ثرة 25 يناير 2011 وحالة الانكشاف السياسى والتحولات الفكرية لبعض الفصائل والتيارات السياسية واختفاء أسماء كانت ملء السمع والبصر قبل يناير واعتلاء أسماء جديدة قمم الحياة السياسية والفنية والفكرية فى مصر فيما سمى بالنشطاء والمنشطين والائتلافات والمؤتلفات، تخلى القصاص عن السخرية ويتجه إلى الكتابة السياسية وأصدر كتابا أو كتابين عن زمن مبارك ثم أخيرا كتابه الذى اختار له عنوانا صادما وهو "شعرة معاوية.. السادات وخصومه" وأهدانى مشكورا نسخة منه رغم علمه المسبق بموقفى من السادات وزمنه..!


كان على أن أتخير الوقت والحالة النفسية المناسبة لقراءة الكتاب خاصة أن "القصاص" أوحى خلال مناقشاته معنا قبل صدور الكتاب أن "السادات رجل يستحق الإنصاف وإعادة الاعتبار له وأن الأحداث التى تمر بنا فى المنطقة والعالم تثبت صواب أفكاره وتوجهاته.. و.. و.." وسواء كنت مقتنعا أو غير مقتنع إلا أنه كان لابد من التوقف كثيرا عند موقف الصديق أكرم القصاص الجديد من الرئيس السادات وهو صاحب الانتماء اليسارى القديم وفى النهاية احترام قناعاته ومواقفه الجديدة واحترامها طالما أنها نابعة عن اقتناع حقيقى بداخله بعد مراجعة فكرية شاملة للأفكار والمقارنة فيما بينها... وهى جرأة فكرية وسياسية لا يقدر عليها كثيرون.


قبل كتاب القصاص صدرت كتابات كثيرة وتأسست "جروبات" على مواقع التواصل الاجتماعى للدفاع عن الرئيس السادات (الله يرحمه) فى محاولة للدفاع عنه وسط اشتباكات وتلاسن بين مؤيديه ومعارضيه.. وهم كثر بالتأكيد.


يأتى كتاب أكرم منذ بداية عنوان "شعرة معاوية.." مثيرا للدهشة وفاتحا للشهية فى الاشتباك المبكر معه. فالسادات كانت أزمته الحقيقية أنه لا تستهويه حكاية "الشعرة" فهو من أنصار مدرسة "الصدمات الكهربائية" فى علاقته مع الآخر خاصة مع التيارات السياسية والأحزاب والطلاب والعمال والفلاحين ورموز ومشاهير المجتمع فى الداخل.. فقد وضع "فيشة الصدمات" منذ اليوم الأول لحكمه مع رجال ونظام عبد الناصر فيما اسماه "بحركة أو ثورة التصحيح" واعتقل رموز العهد الناصرى واتهمهم بالغباء السياسى. ولم تتوقف الصدمات طوال 11 عاما (هى فترة تولى السادات لمقاليد حكم مصر بعد وفاة عبد الناصر) مع الطلاب فى الجامعات وخاصة التيار الناصرى واليسارى عموما واستدعاء الاخوان من غياهب السجون ودعمهم ومساندتهم وغض بصر الأمن عنهم، ومع عدد من كبار الصحفيين والعمال ورجال الدين والأحزاب بعد ذلك وصولا إلى أحداث انتفاضة الخبز فى 18 و19 يناير ثم اعتقال حوالى 1560 معارض وإعلان زيارة القدس وتوقع كامب ديفيد التى جعلت منه "رئيسا ضد الجميع" وكانت نهايته الصدمة الكبرى فى ذكرى انتصارات أكتوبر الذى اعتبر نفسه بطلا لها مع سلام كامب ديفيد.


السادات حاكم صدامى باعترافه فى أحاديثه الغاضبة "فالديمقراطية لها أنياب"، "قف مكانك.. احترم نفسك.. إنت مش عارف بتكلم مين" "وأهو مرمى فى السجن زى الكلب" و"الشرذمة العاجزة" ثم هجومه على المعارضة والبابا شنودة وعزله فى سابقة لم تحدث فى تاريخ مصر السياسى إلا فى زمن السادات مع وقوع حوادث الفتنة الطائفية فى الخانكة والزاوية الحمراء.


أوحى لنا القصاص أن كتابه هو محاولة لإنصاف السادات الا أن القراءة الدقيقة للكتاب – بعد المقدمة – وفصوله تكشف أنها إعادة محاكمة لقرارات السادات وروشتة العلاج بالصدمات الكهربائية منذ بداية حكمه، باستثناء الفصل الخاص بالعلاقة المعقدة بين السادات والأستاذ محمد حسنين هيكل وليس مصادفة أن يحتل هذا الفصل عدد صفحات أكبر فى الكتابة بما يشعر القارئ معه أنها محاكمة لهيكل أيضا على مجمل تاريخه الصحفى والسياسى...وليس مجرد تأصيل وتفسير طبيعة العلاقة وتضاريسها بين الرئيس والجورنالجى صعودا ثم هبوطا..!


وللإنصاف للصديق أكرم القصاص ففصول الكتاب مشوقة ومثيرة وتستعيد معها الذاكرة الجمعية تفاصيل ما حدث بموضوعية ومهنية خالصة رغم أنه حاول أن يحسم موقفه من البداية بالاستعانة بمقولة للعالمى الأديب نجيب محفوظ فى رواية "أمام العرش" على لسان إيزيس: "بفضل هذا الابن ردت الروح إلى الوطن واستردت مصر استقلالها وقد أخطأ كما أخطأ سواه وأصاب أفضل مما أصاب الكثيرون".


كتاب "شعرة معاوية.. السادات وخصومه" قدم بانوراما شاملة لزمن السادات بأحداثه وصدماته لإنعاش الذاكرة ومحاولة القراءة من جديد لأحداث مازالت تداعياتها وتأثيراتها وبصماتها واضحة على كافة مناحى الحياة فى مصر اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وأمنيا أيضا. لكنه يحفز ويحرض على إعادة طرح الأسئلة الشائكة من جديد التى طرحتها أدبيات اليسار فى زمنه وبعد رحيله ومذكرات من كان يتوهم أنهم أصدقاؤه وحلفاؤه.


فهل كان "السادات حسن النية فى داخله - أم هو لم يكن غبيا وإنما كان يعرف حقيقة الدور الذى يقوم به، هل كان وعى السادات بدوره لأسباب مبدئية، هل فعل السادات هذا كله لمبدأ. أم هو مدرك تماما لطبيعة ذلك الدور. أو كما يلخص الدكتور يوسف إدريس فى كتابه "البحث عن السادات" الصادر عام 84 وتضمن انتقادا شديد اللهجة للرئيس الراحل، فالسادات وصل محطة كامب ديفيد وقد سلك جميع أوراقه وكأنما هذا دأبه.. فلقد وصل السادات إلى محطة يوم 23 يوليو 1952 وقد استنفذ تماما كل طموحاته الثورية".


أثار الكتاب ضجة كبيرة وانتقادات حادة من الصحافة الرسمية فى مصر، وتعرض إدريس لحملة هجومية وصلت إلى حد مهاجمته علنًا من قبل الرئيس الراحل مبارك واتهامه بتقاضى أموال من الزعيم الليبى معمر القذافى. واجه الكتاب منعًا وتداولًا محدودًا فى مصر لسنوات، على الرغم من صدور الجزء الثانى من مذكرات هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأميركى الأشهر "سنوات الفوران" فى عام 1982 والتى روى فيها كيسنجر وقائع الاجتماع المغلق الذى جمعه بالرئيس أنور السادات فى قصر الطاهرة بالقاهرة يوم 7 نوفمبر 1973، وهو اللقاء الأول بين الرجلين، وجاء بعد شهرٍ ويومٍ واحدٍ فقط من اندلاع حرب 6 أكتوبر 1973.


يروى كيسنجر أنه فوجئ فى مستهل اللقاء بالسادات يفاجئه بتصريحات غير متوقعة تمامًا، قال فيها: "إن الجيش الثالث ليس هو لبّ المشكلة فى واقع الأمر، فأنا أريد أن أفرغ من مشكلته لأتحول إلى مهام أكبر. فأنا مصمم على إنهاء ميراث عبد الناصر، وأريد إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وبأسرع ما يكون، وعندما يتم ذلك تكون حركتنا متجهة إلى بناء صداقة وثيقة بين البلدين على أساس جديد".


كانت كلمات السادات صادمة حتى بالنسبة لدهاء كيسنجر، إذ لم يتوقع أن يأتيه زعيم دولة خرجت لتوها من حربٍ كبرى بهذا القدر من الانفتاح والاستعداد لتقديم ما تريده واشنطن دون مقابل. لكن خلف تلك الكلمات كان يكمن تحول هائل فى مسار مصر، سوف "يمتد أثره لعقود طويلة".


حديث السادات عن إنهاء سياسات عبد الناصر، فهو فى جوهره تحقيق لهدفٍ أمريكى قديم سعت واشنطن إليه منذ عام 1957، أى منذ أن تحولت مصر الناصرية إلى ركيزة لحركات التحرر الوطنى فى العالم العربى وأفريقيا والعالم الثالث. وأوفى الرئيس السادات بكل تعهداته لكيسنجر دون تردد.


ففى فبراير 1974، عادت العلاقات الدبلوماسية المصرية الأمريكية بالكامل، وترافق ذلك مع فك الحصار عن الجيش الثالث بعد توقيع اتفاق فك الاشتباك الأول على الجبهة المصرية، ومع إطلاق سراح الكاتب الصحفى مصطفى أمين الذى كان محبوسًا بعد إدانته بالتجسس لصالح الولايات المتحدة الأمريكية.


وكما أورد أيضا أكرم القصاص فى كتابه الممتع فقد تغيّر اتجاه البوصلة المصرية. توقفت المدافع فى جبهة القتال، لكنها سرعان ما وُجّهت إلى قبر الزعيم جمال عبد الناصر. بدأت حملة ضارية لتشويه سياساته، واغتيال شخصيته المعنوية، وإسقاط كل ما مثّله من فكرٍ واستقلالٍ وكرامة وطنية.


كان أخطر قرارات السادات هى استدعاء عصر الهيمنة الإسرائيلية والأميركية للمنطقة ورمى الأوراق فى حظيرة السياسة الأميركية، فأراد أن يصبح رجل الحرب والسلام ويستعيد حلمه الماريشالى وهيبته التى فقدها فى الداخل. الاستدعاء الأخطر فى الداخل للعدو الأول للشعب المصرى بعد إسرائيل وهى جماعة الإخوان المسلمين من السجون لمواجهة ومحاربة التيار اليسارى والناصرى بصورة خاصة، ومع ذلك انقلبوا عليه وأشاعوا الرجعية والتخلف فى المجتمع بدعم من شعارات "دولة العلم والإيمان" واستشعار عنصر الأمة وشريك الوطن بالإقصاء والإبعاد والخوف من صدام محتمل قد حدث.


تخلص السادات فيما اسماه "بمراكز القوى" ليؤسس مراكز قوى من نوع آخر أعمدتها رموز المرحلة الجديدة سياسيا واقتصاديا أمثال عثمان أحمد عثمان وتوفيق عبد الحى وعصمت السادات ورشاد عثمان إيذانا بالصدمة الكهربائية الجديدة..!


كانت الصدمة الاجتماعية وإرباك السلام الاجتماعى مع سياسة الانفتاح الاقتصادى أو "انفتاح السداح مداح" كما وصفها الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين التى أنتجت الفقر والعشوائيات والتمايز الاجتماعى والفوارق الطبقية وفوجئ الشعب بوجوه "من هبروا" وتوارت بطولات ورموز "من عبروا". فى مقابل الصدمة اندلعت مظاهرات وانتفاضة الخبز فى 18 و19 يناير عقب قرارات رفع أسعار السلع الغذائية وكانت صدمة للسادات نفسه. فكيف وهو الرجل الذى حقق النصر وبشر بالرخاء الاقتصادى يتظاهر ضده الشعب..؟! وتبادل الاتهام مع اليسار " الحقود المتهور التابع للاتحاد السوفيتى بتوع الكلام المجعلص"


مع تطبيق سياسة الانفتاح العشوائى، كان السادات يضرب المعول الأول فى جدار القطاع العام الذى مثّل عماد الاقتصاد الوطنى، ويقود انسحاب مصر من العالم العربى ومن أفريقيا ومن العالم الثالث، لتنكفئ على ذاتها وتبنى علاقة خاصة وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، طمعًا فى أن يتعامل حكام واشنطن مع مصر كما يتعاملون مع إسرائيل والسعودية.


قرارات السادات الصادمة والمفاجئة بعد ذلك فى إعلانه زيارة "إسرائيل" كانت حد فاصلا بين عهدين، انتهت بها الجمهورية الأولى( بداية من 23 يوليو 25) التى قامت على مبادئ الاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة، وبدأت الجمهورية الثانية التى استمرت طوال الفترة من 1974 حتى 2011.


كتاب أكرم القصاص الشيق والممتع بقدر ما يوحى بالإنصاف للرجل الذى ظلم نفسه وظلم وطنه معه الا أنه مازال يقدم ذات الأسئلة عن السادات وزمنه وعن صدماته الكهربائية وأضاع فرصة ماسية لإرساء ديمقراطية حقيقية ودولة مدنية حديثة استغلالا لنصر أكتوبر لكنه اصطدم بالداخل ليقفز هاربا إلى الخارج. شعر بالمرارة بأنه لا يحصل على القدر الكافى من التكريم والتقدير لإنجازاته من شعبه، فاعتقد- أو توهم- أن البيت الأبيض وتل أبيب وأغلفة المجلات الأوربية والانحيازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجديدة هى الملجأ والملاذ له، لكنه فوجئ بتبخر أحلامه وانتهى نهاية درامية لم يكن يتوقعها أو يتمناها.


كتاب أكرم القصاص ليس الهدف منه – فى رأيي- انصاف رئيس ولكنه إعادة محاكمة لعصر الصدمات العظيمة فى تاريخ مصر السياسى والاجتماعى والاقتصادى.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب