شحاتة زكريا

العقل قبل التراب.. كيف تحوّل الاستثمار في مصر إلى مشروع وطني للثقة

الأحد، 09 نوفمبر 2025 03:32 م


في زمن تتبدل فيه خرائط النفوذ من الميدان العسكري إلى السوق الاقتصادي يثبت أن رأس المال الحقيقي لأي دولة ليس ما تملكه من موارد بل كيف تُفكّر .وبينما تتأرجح اقتصادات المنطقة بين الوفرة والتقلب اختارت مصر طريقا ثالثا: طريق العقل الاقتصادي الذي لا يكتفي بجذب الاستثمارات بل يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة ورأس المال بين الأرض والمستقبل بين التنمية والهوية.

 

ولعلّ ما يُعرف الآن بمشروع علم الروم ليس مجرد صفقة عقارية ضخمة على الساحل الشمالي بل فصل جديد في الرواية المصرية عن الاستثمار. الرواية التي تقول إن الدولة لم تعد بائعا للأرض بل شريكا في القيمة. وإن التنمية ليست امتيازا لفئة بل مشروعا متكاملا يُعيد توزيع الحركة على جسد الوطن كله.

 

فعلى مدى عقود كان الاستثمار في المنطقة يدار بعقلية الفرصة السريعة — بيع أراض أو رخص تحقيق عائد مؤقت ثم ترك المكان يواجه مصيره. لكن ما تفعله مصر الآن هو العكس تماما: بناء علاقة جديدة مع رأس المال قوامها الشفافية والندية والاستدامة. فالدولة تدخل شريكا بنسبة من الأرباح لا تكتفي بعائدٍ نقدي لحظة البيع بل تضمن حضورها في إدارة المستقبل وتُحوّل الأصول العامة من مساحة راكدة إلى رافد دائم للقيمة.

 

من هنا نفهم أن ما جرى في "طعلم الروم ليس حدثا اقتصاديا فحسب بل تحوّل فلسفي في نظرة مصر إلى التنمية. فالموقع الجغرافي وحده لا يصنع ثروة وإنما الوعي بكيفية تحويله إلى طاقة إنتاج. والساحل الشمالي لم يعد مجرد مصيف موسمي بل مساحة حيوية تُفتح على مدار العام لتكون مركزا للإقامة والعمل والتعليم والاقتصاد الدائري كما يحدث الآن في المشروعات المتكاملة التي تمتد من رأس الحكمة حتى السلوم.

 

إن ما يميز هذه المرحلة هو أن الدولة لم تكتفِ بأن تكون صاحبة القرار ، بل أصبحت صاحبة الفكرة فبينما تنشغل بعض الدول بسباق جذب المستثمرين بأي ثمن اختارت القاهرة أن تبني علاقة قائمة على المصالح المتبادلة لا التنازلات. الشريك الأجنبي يربح لكن الدولة تظل مالكة للقيمة طويلة المدى. إنها معادلة دقيقة بين الواقعية والسيادة بين الانفتاح والضبط بين الرؤية والمردود.

 

هذه ليست صفقة بل لغة جديدة في الاقتصاد السياسي المصري. لغة تعرف أن الثقة لا تُستورد بل تُصنع على الأرض. حين يرى المستثمر استقرارًا تشريعيا وبنية تحتية جاهزة ومناخا ضريبيا عادلا ودولة تُعامل الاستثمار بوصفه مشروعا وطنيًا لا نشاطًا ماليًا؛ فإن رأس المال لا يأتي وحسب، بل يستقر. وهذا ما حدث بالفعل خلال السنوات الأخيرة إذ تحولت مصر إلى مركز جذب إقليمي لا بسبب الحوافز فقط بل بسبب وضوح الفكرة: التنمية ليست سباق أرباح بل مشروع بناء وطن.

 

في جوهرها فكرة "علم الروم" تمثل عقلا اقتصاديا جديدا يُعيد التوازن بين القيمة والسوق. فحين تحصل الدولة على حصة نقدية وعينية ثم نسبة من الأرباح بعد استرداد التكاليف.فهي لا تسعى إلى تحصيل عاجل بل إلى ضمان تدفق دائم. هذا النموذج الذكي يعني أن الأرض أصبحت موردا مستداما لا يُباع مرة واحدة بل يظل يُنتج مع كل جولة تطوير وتشغيل.

 

المغزى الأعمق هو أن مصر تحوّل مواردها إلى "أصول فكرية". الأرض لم تعد صحراء تُقسم وتُسوَّق بل فكرة تُدار كمنظومة إنتاج اجتماعي واقتصادي من فرص العمل إلى البنية التحتية إلى قيمة المكان ذاته. أكثر من 250 ألف فرصة عمل ليست رقما في ميزانية بل شبكة حياة جديدة تُعيد توزيع النشاط على الساحل كله وتفتح الباب أمام استثمارات داعمة في الخدمات والتعليم والتكنولوجيا والضيافة.

 

ولعلّ الأجمل أن هذه الرؤية لا تنفصل عن فلسفة الدولة في خفض الدين العام وتحسين المؤشرات الكلية. فالعائدات الناتجة من هذه الشراكات ليست أموالا تدخل الخزانة فحسب بل أدوات لإعادة ترتيب البيت الاقتصادي من الداخل. إنك أمام إدارة عقلانية للمورد الوطني: تُموّل التنمية بالاستثمار وتُقلّص الدين من عائد التنمية وتُضاعف النمو عبر إشراك رأس المال في دورة الحياة الوطنية.

 

في هذا الإطار يمكن القول إن مصر تبني الآن نموذجا لما يُعرف باقتصاد الشراكة المتوازنة ، وهو الاتجاه العالمي الجديد الذي تتبناه الدول الذكية؛ تلك التي تُدرك أن الاقتصاد لم يعد مجرد تبادل منافع بل تبادل ثقة. وفي عالم يتغير فيه المزاج الاستثماري بسرعة الضوء تظل الثقة هي العملة الأعلى قيمة. والثقة لا تُصنع بالشعارات بل بالفعل المؤسسي وهذا ما يُميّز التجربة المصرية مؤخرا: أن "القول أصبح يطابق الفعل.

 

قد ينظر البعض إلى مشروع علم الروم على أنه فصل جديد من مشروعات الساحل الشمالي لكنه في الحقيقة علامة فارقة في مسار الفكر الاقتصادي الوطني. لأن الدولة لا تبني مدينة جديدة فقط بل تبني نموذجا يُمكن تكراره كما تخطط لتقسيم الساحل إلى ثلاث مناطق استثمارية كبرى تُحوّل الشريط الساحلي إلى محور تنموي ضخم يمتد من رأس الحكمة إلى السلوم حيث يتحول البحر إلى واجهة إنتاج وفرص، لا شاطئ عطلة موسمية.

 

إن الرهان الحقيقي هنا ليس على الأسمنت والزجاج بل على القدرة على تحويل الأرض إلى اقتصاد متجدد. على جعل كل مترٍ من الجغرافيا قابلًا للحياة والإنتاج. هذا هو التحول من التنمية الخطية إلى التنمية الدائرية من بيع المساحة إلى توليد القيمة. لذلك يمكن القول إن علم الروم ليست فقط صفقة بمليارات الدولارات، بل درس في فن إدارة المستقبل.

 

في نهاية المشهد يبدو أن مصر تُدير اليوم معركتها الاقتصادية بعقل منضبط لا يلهث خلف البريق بل يبني بالهدوء والثقة. فالمشروعات الكبرى لم تعد مجرد أرقام تُعلن بل مفاتيح استراتيجية لإعادة بناء الثقة في قدرة الدولة على النمو الذاتي. وبينما ينشغل العالم بالأسواق والاتجاهات تنشغل القاهرة بتثبيت فكرة بسيطة ولكنها عظيمة:


أن العقل هو الثروة الحقيقية وأن من يُحسن إدارة الجغرافيا لا يملك الأرض فقط بل يملك الغد.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب