حازم حسين

جلباب مصر وقتلة فرج فودة.. وما التاريخ إلا حصيلة فشل المتطرفين ودعاة التنميط

الأحد، 09 نوفمبر 2025 02:00 م


ما الأسد إلا مجموعة خراف مهضومة؛ بحسب العبارة المنسوبة للشاعر الفرنسى بول فاليرى. التاريخ طبقات فوق بعضها، ومن التراكم تتسع الجغرافيا لتفيض على حدودها التقليدية الصارمة، وتتشكل الهوية بوصفها خلاصة الحوارية الدائمة بين الزمان والمكان، بما لا يقبل الفصل والانتقاء دون مساس بالصورة الكلية، وخصم من الثراء المتنوع لصالح تصورات أحادية ذات طبيعة إلغائية، لو تيسّر تمريرها من البدء ما كنا بصدد الاختلاف عليها فى المنتهى.


وعلى هذا المعنى؛ فإن مصر حصيلة الحقب والثقافات التى مرت عليها، أكان عبورا مسالما تأسست مُكنته على الجدارة وقوة الانتخاب الطبيعى، أم فُرض بالعسف ومكّنته الظروف الاستثنائية، إلى أن تثبّت وانتزع موضعه ضمن السلسلة الحضارية لبلد يضرب فى أعماق التاريخ.


إنها الفسيفساء الغنية بإرث صنعه أهل الأرض ومُلّاكها الأصلاء، مشبوكا مع تمثّلات اصطصحبها الغزاة معهم تحت ظلال السيوف؛ لكنها وجدت متسعا لأسباب اجتماعية ونفسية وروحية، فترسّبت فى الوجدان الجمعى مع نظيراتها من العناصر الأصيلة، وصارت كلها سبيكة واحدة، يصح أن يُشار لكل عنصر فيها على حدة ضمن مقاربات معرفية وعلمية؛ إنما لا تكتمل الإشارة للهوية الوطنية إلا بها جميعا، ولا تُستثنى واحدة منها عندما نُشير إلى الخريطة كلها من بعيد أو قريب.


والفكرة ذاتها تُرجمت بوضوح فى احتفالية المتحف المصرى الكبير. بالرغم من كونه ينتخب قطاعا أفقيا من التاريخ ليستعرض منتوجه الحضارى؛ لكنه يظل موصولا بما قبله وبعده رغما عن الجميع.


ولعل فى ذلك ما يُفسّر سردية البرنامج الفنى التى لم يستوعبها البعض، ورأى آخرون أنها تفتقد لوحدة الموضوع بالجمع بين ما عدّوه من قبيل المتناقضات أو الحقول الدلالية غير المتجاورة. كأن يُمزَج القديم بالجديد، وتُضَفَّر التيمات المصرية العتيقة مع خليط عريض من موتيفات العمارة والاجتماع فى مراحل تالية.
ويقف المنشد الدينى كتفا بكتف مع المُرنّم القبطى، وحولهما راقصو التنورة فى تشبيك مقصود مع الأوركسترا وثقافة النوبة والدلتا وغيرها من مفاتيح مصر، التى لا يكتمل بهاؤها الحضارى الناضج إلا بمحاكاة ماضيها الكوزموبوليتانى المتداخل، بكل ما فيه من حلقات تنبنى على بعضها، وتؤثر واحدتها فى الأخرى وتتأثر بها أيضا.


والحال؛ أن المشتركات بين المختلفين هنا، أعلى كثيرا من نظيرتها مع المتفقين بالخارج. فكأن لنا مسيحية من طبعة تتمايز عن غيرها فى أرجاء الأرض، وإسلاما لا يتطابق تماما مع إسلام الآخرين. فكرة المَوالد الشعبية مثلا عبرت إلينا من معابد الماضى السحيق، وأطلت من الكنائس والمساجد وأضرحة الأولياء، بنكهة يكاد التشابه فيها أن يطغى على تمايزات الاعتقاد وفلسفة كل دين فى ذاته.


نتحدث عن بوتقة صهرت المقيمين والعابرين وأعادت تشكيلهم على طريقتها، وانتقت من كل محطة ما يتماشى مع ذوقها وطباع أهلها، ولا يتنافر مع بقية النسيج الحامل لمفردات الشخصية المصرية. وأسقطت ما عدا ذلك، والدليل أن ما بقى من الإغريق والرومان والفرس ينتمى إلينا بأكثر من انتمائه لجذوره الأولى، فيما لم يبق شىء تقريبا من آخرين عبروا وبادوا فى حضورهم، قبل أن تلفظهم المعدة الكبرى التى لا تهضم ما لا تستسيغ، ولا يُجبرها جوع أو فاقة على أن تتمثّل ما لا يليق بها وبمجدها العريق.


وتظل الاستثناءات حاضرة فى هوامش زمنية وجغرافية؛ لكنها مما يؤكد القاعدة ولا ينفيها، ويُعبر عن الطابع الاجتماعى لبيئة مفتوحة، وخاضت جدالات عميقة مع محيطها بالأخذ والرد، طوعها حينا وطوعته أحيانا، وظلت قادرة على التعايش مع المختلف، وأقدر منه على أن تهضم وتعيد التشكيل، وأعصى تماما على أن تُهضَم أو تُبتلَع؛ حتى فى أشد فتراتها ضعفا وهشاشة، وفى أشد حالاتهم بطشا وهيمنة.


ويتسع المقام طويلا للحديث فى التحولات، وبعضها تركت بصمات واضحة على المجرى العام للثقافة المحلية، بما قاد لانقلابات عقائدية أو ثقافية فى مراحل عدة؛ لكنها لم تنسف القديم أو تلغه تماما. ويصح هنا التوقف أمام مجتمعات سُحقت أو أبيدت إلى سطح الأرض، وأُعيدت هندستها على هوى المحتل بقطيعة كاملة مع إرثها السابق.


بينما يقف المصريون اليوم على جبل من ركام التاريخ وفتراته المتطاحنة، يتحدثون لغة تنتمى لكل أسلافها معا، ويتعبّدون بمزيج طقوسى تتداخل فيه الأديان والفلسفات، ويتوزعون على سمات جهوية وشكلانية متعددة؛ لكنهم يتحدون فى أصل واحد ولو لم يقبض عليه العامة بوضوح. وما من أمة تكالب عليها الغزاة والطامعون كما جرى مع المصريين، وما من بلد استوعب المحبين والكارهين وخلص منهم إلى ذاته وهويته الجامعة كما فعلت مصر.


ومُناسبة الكلام ما كان من جدل طيلة الأيام الماضية، على خلفية الإقبال الحاشد من زوار المتحف الكبير المحليين تحديدا، بتنوعاتهم الطبيعية فى الشارع المصرى. والشرارة اتّقدت من صورة لزوجين فى منتصف العمر، يرتدى الرجل جلبابا صعيديا جميلا، وتضع السيدة الوقور طرحة مصرية لطيفة على عباءة شائعة فى المناطق الشعبية وأنحاء مصر جنوبا وشمالا.


والحق أن الغالبية امتدحت اللقطة المدهشة، وتلقّت ما فيها من مضامين ببهجة واستحسان؛ لكن تعليقا واحدا عكّر صفو الحالة البديعة على منصات التواصل الاجتماعى، واستدعى جوّا من الانفعال والافتعال والجدل النخبوى فى غالبه، وأحسب أن عموم المصريين لم يلحظوا الاشتباك أصلا، ولو نما لعلمهم ما انشغلوا به ولا تفاعلوا معه من الأساس.


يعود التعليق إلى سيدة مصرية أيضا، وفاضلة كغيرها من المصريات رغم الاختلاف معها. إنها ابنة الكاتب والمفكر الراحل فرج فودة، وقد استنكرت المشهد المتداول ومدائح المعجبين به، واعتبرت أنه لا يعبر عن مصر الحقيقية، من وجهة نظرها قطعا.


ومَردّ موقفها أن الجلباب ليس مفردة أصيلة فى هويتنا الحضارية العريقة، وأننا فى الأربعينيات وما قبلها أو بعدها كنا أكثر تحضرا من الآن، وأعلى مستوى وأكثر هنداما، ونتنافس فى الحُسن والإطلالات الراقية مع رجال أوروبا وفتياتها فى عواصمهم ومدنهم الكبرى.


ولست مشغولا هنا بردّة الفعل على الإطلاق، بدءا ممن انتقدوا الرأى وهاجموا صاحبته، وصولا إلى الذين استشعروا أن الجلباب يتعرض لهجمة مدبرة، وعليهم الدفاع عنه بأن يزينوا حوائط المنصات الرقمية بصورهم مُجلببين أو مُعمّمين.


ورغم أننى ريفى وثيق الصلة بجذورى إلى اليوم، وألبس الجلباب بانتظام وفخر، وبارتياح لا يعرفه إلا من جرّبوه؛ قلم أُستَفَز مطلقا من الانتقاص منه، ولا شعرت بالحاجة إلى الرد بصورة كما فعل الآلاف. إنما ما شغلنى فى الواقع كان التبسيط والاختزال، وخلط السياقات من المهاجمة وأغلب المدافعين على السواء.
استدعاء الجانب الآخر من المتوسط فى مقام الثقافة ليس جديدا على الإطلاق. بل قد لا يكون السبق فيه لطه حسين فى كتابه الشهير "مستقبل الثقافة فى مصر" فى النصف الثانى من ثلاثينيات القرن الماضى.


لكنّ الصعيدى الدارس فى أوروبا لم يطرح القضية من داخل الدولاب، بل من نطاق النظر فى صلتنا الحضارية مع المحيط الواسع، وما يُمكن اتخاذه رافعة للنهضة والتقدم دون الحط من قدر الثقافة المصرية بكل تراكماتها.


والغالب أنه لم يكن يكره الجلباب، والمؤكد أنه لم يتقصد المُشاكلة فى الذوق واللغة، وكان من أبرز المعتزين بلسانه العربى والأحرص على شيوع استقامته بين الناس.


وتلك النوعية من المقاربات تتطلب وعيا عميقا، ورسوخا فى العلم والمعرفة؛ بما يُمكن من التمييز بين القار والعارض، واستيعاب عن الوثبة المبتغاة لا تتضاد مع الوقوف على أرض صلبة؛ بل لا يمكن إنجازها أصلا من دون ذلك المرتكز الذى يُخرَج عليه بقدر، ويُعاد إليه بأقدار؛ لأن التحديث ليس إنشاء من العدم، والنمو لا يتحقق بلا جذور غائرة فى طين الأرض.


كان الوالد فرج فودة ريفيا من الدلتا، وُلِد ونشأ فى الزرقا بدمياط منتصف الأربعينيات، وقبل أن تصير مدينة بعد ثلاثة عقود ومركزا إداريا فى 1978.


ولعله ارتدى الجلباب كغيره من الأقران، بل عندما اشتبك مع الأصوليين وجماعات التطرف الدينى لم يجعل الزى موضوعا للبحث والمجادلة من الأساس؛ إنما الأفكار والنصوص التى تصادر على الجلابيب وغيرها من أنماط الملبس، وتقمع العوام قبل أن تُرهب النخب أو تصادر على أطروحاتهم. ولو ظل حيًّا إلى اليوم؛ لكان أول المبادرين إلى انتقاد ابنته وتسفيه طرحها السطحى؛ ولعلّها ما كانت طرحته بالمناسبة.


أحاول الفهم قبل النقد، وأسعى إلى البحث فى المسببات المنشئة لهذا النمط من التطرف الناعم، وهو ما أراه مفيدا أكثر من التعقيب عليه بتطرف مضاد.
لقد كانت السيدة محل الجدل اليوم مراهقة أو شابة يافعة قبل ثلاث وثلاثين سنة، عندما اغتيل والدها على أيدى مجموعة من الإرهابيين الإسلاميين، بأثر موجة شنيعة من التعريض به والتحريض عليه، استبقت مناظرة شهيرة فى مطلع العام 1992 بدورة معرض القاهرة الدولى للكتاب، واشتدت وتكثفت بعدها؛ لتحط على شاطئ الدم بعد خمسة أشهر فقط منها. مات الأب غدرا، ويبدو أن الجريمة تركت أثرا مُشوّشا لعقل الابنة فى يُتمها المبكر.


على منصة المعرض كان رئيس هيئة الكتاب وقتها، الدكتور سمير سرحان، مديرا للمناظرة بين طرفين: فرج فودة ومحمد أحمد خلف الله فى جانب الدولة المدنية، ومحمد الغزالى مع محمد عمارة ومرشد الإخوان مأمون الهضيبى مع الدولة الدينية.


جميعهم ارتدوا الزى الشائع للنخبة باستثناء الغزالى بجلبابه وعمامته، وحتى الذين اغتالوا فرج فودة لاحقا لم يكونوا من ذوى الجلابيب.
لكنّ التنميط دخل على الخط؛ ليسحب مفردة ذات طابع اجتماعى إلى حقل الدلالة الدينية، ووقع الخلط لدى الفتاة الصغيرة معتبرة أن الشيوخ والمتطرفين ينتمون إلى عالم الصورة المضادة لما رأت والدها عليه.


تعرف هى من دون شَكّ؛ أنّ الإخوان والجماعات الراديكالية مسؤولون عن دمه المهدر ظلما؛ لكنها أحالتهم بالسيمياء إلى صورة يسهل تمييزها والتصويب عليها. كان هذا مقبولا من طفلة أو مراهقة؛ لكنه صار تعبيرا عن انحراف فى الرأى والرؤية عندما صارت سيدة كبيرة فاضلة.
وكى لا يبدو التفسير تبسيطيا ومحصورا فى جانب واحد؛ فالعوامل الطبقية ليست بعيدة من الاستقراء المعتل أيضا.


ذلك أن قطاعا عريضا من نسيج المجتمع المركب بأشد ما يكون التركيب، سعوا إلى الفرز وترسيم الحدود داخليا بمعطيات واضحة وسهلة الاستكشاف والجزم. لكم المناطق الشعبية والعشوائية ولنا الأحياء الحضرية والكومباوندات، لكم المدارس العامة ولنا الخاصة، ومعكم جلابيبكم مقابل ملابسنا العصرية.


ليس الجميع هكذا طبعا؛ لكنهم حصة لا يُستهان بها، انزلقوا إلى تحكيم الاقتصاد فى الاجتماع، والثقافة فى التصنيف الطبقى، ومارسوا شيئا يُشبه الاستشراق بما فيه من تنميط واختزال؛ إنما من الداخل، ولأنهم ليسوا ذلك الآخر المختلف عرقا وثقافة ونشأة وجغرافيا؛ فكان عليهم إعادة توقيع تلك العناصر والتفاوتات محليا: فيصير الوطن أوطانا، وتنقسم الكُتلة الأنثروبولوجية الواحدة على نفسها، وتصبح التنوعات تحت المظلة الواحدة، موضوعا للفصل والتقسيم وتجزئة المجتمع إلى مجتمعات.


أسقطت سمر فرج فودة ثأرها لوالدها على ملايين الأبرياء مِمّن لم يكونوا شُركاء فى دمه البرىء. وفتحت الباب لآخرين أن يُسقطوا موقفهم من كلامها على الراحل؛ فكأنهم يقتلونه مرّة ثانية، أو يشتركون فى اغتياله بأثر رجعى.


والحق؛ أن الرجل غير مسؤول عمّا قالته ابنته، وغير مُتَّهم بما قِيل تعقيبًا عليها، ولا شىء يُبرّر الاستسهال منها، أو الانتهازية منهم، وكلاهما من عمل الخفّة والسطحية وخلط السياقات.


الشخصنة دليل حماقة وقلّة عقل. أكان فى اتهام رجل بسيط وزوجه بأنهما لا يُمثّلان مصر، أم فى التشنيع على صاحب الرأى بدلاً من حَصر المسألة فى تخطئة الكلام والسخرية منه، والأدهى أن يقفز المتطرفون وأشباههم ومَن يضمرون أصولية مكبوتة تحت غلالة حداثية فوق الموقف بكامله، عبورًا إلى ترتيب محاكمة جديدة لفرج فودة، أو الطعن فيه كما لو أنهم يتقصّدون تبرئة قاتليه.


رأيت منشورات لا تُحمَل إلا على السخف والإجرام، يزعمون فيها بأن رجلاً قتلا الإرهابيون كان مُثيرًا للجلبة الفارغة كما فعلت ابنته، ويقول آخرون إنه كان مُدّعيًّا أو ضعيف المُنجز والحجّة.


ولا معنى للعموميات البسيطة فى غير مكانها؛ إلا أنهم لا يعتبرون القتل كافيًا للنَّيل من خصم فكرى، أو يهتكون حُرمة الدم بالتسرُّب من زاوية فتحها تعليق ساذج؛ ليعبّروا عن مكنون صدورهم إزاء الاختلاف وكَسر الوصاية، وعلى خلفية العجز عن النقاش والجدل الخلّاق؛ فيكون البديل تسفيه مشروع كامل بكلمة، جريًا على أسلافهم مِمّن حيّدوه برصاصة!


مصر ليست الجلباب وحده، ولا الحُلل الأنيقة أيضًا. ليست الإرث الفرعونى بمعزل عن الرومانى والقبطى والعربى، والعكس. ليست فرج فودة ولا الغزالى فى جُملة مبتورة بلا سياق، ولا يُعبّر عنها عصر أو فرد أو دين أو زىّ دون بقية تفاصيلها ومفرداتها المضفورة فى جديلة واحدة.


إنها كل هذا وهؤلاء، ومحاولة اختزالها فى جانب دون غيره، كما فعلت كاتبة أصولية متطرفة فى منشور قبل افتتاح المتحف، لن تُحقّق الغاية أو تطغى على الهويّة بكامل تكويناتها؛ إنما تُعبّر فقط عن وعى أصحابها، أو بالأحرى عن لا وعيهم، وأنهم آخر من يعرفون مصر، وأول الذين يُعَدّون على قائمة النفور من نسيجها الباذخ. التاريخ حصيلة فشل المُتطرفين ودُعاة التنميط؛ لأنهم لو نجحوا ما كان لدينا ما نختلف عليه اليوم!


كانت بديعةً وتلمس القلب؛ صورة الرجل وزوجته، أو الزوجة ورجُلها، وهما يدلفان من بوابات المتحف الكبير، ويتطلّعان إلى مُنجز اللحظة بإعجاب وفخر، وإلى إرث الماضى باعتزاز وشموخ. مثلما كان بديعًا أن يأتى فرج فودة فى زمنه، ويقول ما قاله ضد الكهنوت والوصاية واحتكار السماء.


ولا نعدم لحظات شبيهة على طول تاريخنا: البسطاء بَنَوا المعابد ونحتوا التماثيل فخلّدوا الملوك، وثار إخناتون ليترُك لنا إرثًا بعيدًا للغاية عن فكرة التوحيد. تشكّلت المسيحية على هوى مصر وهوائها، واليهودية والإسلام، وغير ذلك من أفكار وأهواء وطرائق عيش، وبها جميعًا صارت مصر التى نعرفها، واكتسب المصريون الذُّخر الذى يُغنيهم ويضعهم فى مرتبة لا يقربها سواهم شرقا وغربا.


حضارة يُتنازَع عليها دومًا بصورٍ شتّى؛ بين سارق أو طامعٍ فى نسبتها لنفسه، وحاقد أو كاره يستكثرها على أهلها. ولا فارق بين ادّعاءات اليهود عن بناء الأهرامات، أو النظريات المُضحكة بشأن البُناة الوافدين من الفضاء. والثروات الطائلة التى أُنفِقَت تحت عناوين الصحوات والانبعاثة الأصولية، إخوانا وسلفًا وجماعات جهاد.


كان السلاح مدخلاً فى السابق، وصارت الأصولية وغيرها فى اللاحق. اختلف الشكل ولم تتبدّل الحرب، ومن عادة التطرُّف أنه يُحيّد العقلاء، وينتدب إلى الواجهة تطرُّفًا آخر من نوعٍ مُضادّ.


وعليه؛ فلا يختلف كارهو الجلابيب، عن كارهى الآثار والتماثيل، ولا عن الذين تصالحوا مع الإرهاب اليوم على جثّة فرج فودة، انطلاقًا من موقفِ حقٍّ أُريد به باطل؛ ولو كانوا صادقين فى المُنافحة عن الهويّة؛ ما اصطفوا لحظة مع أى طيف أو تيّار أو جُملة يُحتَمَل فيها الانتقاص من مصر فى تمامها.


لا نحتاج للتغريب كى نتحرك على خطّ الزمن؛ وقد سبق أن تحرّكنا بقوّة والناس نيام. ولا معنى لممارسة الاستشراق على بعضنا، ولا لاستدعاء رجعية الآخرين وتحكيمها فى سياق لم يفهموه سابقا، ولا قِبَل لهم بمُحاكاته أو إعادة إنتاج شبيه له.


مصر التى نتجاذب بشأنها اليوم؛ إنما هى مجموع ما أنجزته بكَدّها، أو فشل غّزاتها فى طمسه منها بسيوفهم. ولو كان للون واحد أن يُعَمَّم عليها؛ ما وصلتنا بكل هذا المزيج الفذّ والمُربك من الألوان. جلبابًا كان أم قماطًا، سراويل وعمائم وصدريات ونقبات وشنديت، وكل ما نعرفه باسمٍ أو نُحيط بها بصرًا ونجهله نُطقا.


ترانيم وابتهالات، وتماثيل ومحاريب وأجراس كنائس، مَراقد ومَوالد ومزارات، وآلهة قديمة نعرف قدرها حضاريا ولا نتعبد لها حاضرا، وتصوُّف يعيشه الناس كابرًا عن كابر بلا تنظير أو مُعاظلات، وفنون وإبداعات ورثناها وما زلنا سبّاقين فيها.


مصر التى لا تُختَزَل فى صورة، ولا تُعَرّف بكلمة واحدة، ولا يتوقّف خصومها عن محاولات ضربها من الداخل؛ كلما فشلوا فى المساس بها من الخارج!




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب