أسعد سليم يكتب: الخروج إلى النور

السبت، 08 نوفمبر 2025 06:00 م
أسعد سليم يكتب: الخروج إلى النور غلاف كتاب الخروج إلى النور

في كتابه الشيق "الخروج إلى النور" الذي أصدرته دار المعارف هذا العام 2025، يقودنا الدكتور أحمد سمير سعد — الطبيب الذي حصل على بكالوريوس الطب والجراحة من جامعة القاهرة عام 2007، ثم درجة الدكتوراه في التخدير عام 2018 من الجامعة نفسها، والذي تجاوز إنتاجه الأدبي ثلاثين عملاً متنوعاً بين الروايات والقصص والكتب العلمية والمترجمة — في رحلة حميمة وعميقة تجمع بين شغفين يبدوان متناقضين للوهلة الأولى: العلوم الطبيعية التي تتطور باستمرار وتنقض افتراضاتها السابقة مع كل تقدم جديد، والحضارة المصرية القديمة التي لا تزال تكشف عن ألغازها يوماً بعد يوم كأنها كائن حي يتنفس ويتجدد. يفتتح المؤلف المقدمة بوصف ولعه الشخصي بهذين الميدانين، موضحاً كيف يشتركان في خاصية التغير والتجدد، وكيف أصبح استخدام العلوم الطبيعية والتكنولوجيا الحديثة أمراً حتمياً لكشف أسرار الآثار.

ثم يروي تلك الحكاية التاريخية غير المؤكدة تماماً عن محمد علي باشا الذي خطر له هدم الأهرامات للاستفادة من حجارتها في تشييد القناطر الخيرية، لكنه عدل عن الفكرة بعد أن أخبره المتخصصون بأن تكاليف الهدم والنقل ستفوق بكثير استخراج الحجارة مباشرة من المحاجر. يستخدم المؤلف هذه الواقعة رمزاً مؤثراً لعدم الاهتمام التاريخي بتراثنا وحضارتنا، ثم يربط بين هذا الإهمال وبين الحدث المهيب الذي شهدته البلاد مؤخراً بنقل المومياوات الملكية في موكب رسمي فخم من متحف التحرير إلى المتحف القومي للحضارة المصرية في وضح النهار، مبرراً به اختيار عنوان الكتاب الذي يعبر عن خروج هذه الحضارة العريقة من ظلام النسيان إلى نور المعرفة، وكأنه تجسيد حي لعقيدة البعث التي آمن بها المصريون القدماء.

في الفصل الأول يغوص المؤلف بعمق في عالم اللغة الهيروغليفية، متوقفاً عند اللحظة التاريخية الخالدة عام 1822 عندما نجح العالم الفرنسي شامبليون في فك رموز حجر رشيد الذي نُقش عليه نص واحد ثلاث مرات بثلاثة خطوط مختلفة: الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية القديمة التي سهلت المقارنة والترجمة. ثم يفصل في الخطوط الثلاثة للغة المصرية القديمة — الهيروغليفية التي زينت المعابد والمقابر حتى القرن الرابع قبل الميلاد، والهيراطيقية المستخدمة في البرديات والمراسلات والأدب، والديموطيقية الشعبية التي انتشرت من القرن الخامس قبل الميلاد حتى القرن الخامس الميلادي — مشيراً إلى بقاء آثار اللغة حية جزئياً داخل الطقوس الكنسية القبطية، ومبيناً أن الهيروغليفية تتكون من أربعة وعشرين حرفاً أساسياً وحوالي سبعمائة رمز إضافي من دون حروف متحركة، مما يصعب نطقها كما كان ينطقها الأسلاف، وأن اتجاه القراءة يتحدد حسب توجه وجوه الرموز من اليمين إلى اليسار أو العكس أو من أعلى إلى أسفل.

ثم ينتقل بحماس واضح إلى آفاق المستقبل القريب، متوقعاً أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحديثة ستتمكن قريباً جداً من قراءة الصور والنقوش الهيروغليفية مباشرة وترجمتها إلى أي لغة مطلوبة بل ونطقها أيضاً، رغم التحدي الرئيسي المتمثل في قلة النصوص المتاحة لتدريب النماذج. يستعرض المؤلف جهود "جاردنر" الذي جمع 763 شكلاً هيروغليفياً شائعاً وقسمها إلى 26 مجموعة حسب التشابه الدلالي — مثل مجموعة الرجال ووظائفهم، ومجموعة النساء وأعمالهن، ومجموعة الآلهة في هيئة بشر، ومجموعة أجزاء الجسد البشري، وهكذا — ثم يبرز نموذج "جليف نت" الذي طوره "باروتشي" ووصلت دقته إلى حوالي 96% في التعرف على النقوش وتحويلها إلى نصوص مكتوبة، مؤكداً أن الجهود جارية على قدم وساق لحل مشكلة قواعد البيانات، وأن الذكاء الاصطناعي سيصبح قريباً مساعداً أساسياً للسياح في فهم النصوص على المعالم الأثرية، وأداة حاسمة في الاكتشافات الجديدة.

أما الفصل الثاني فيأخذنا إلى عالم المومياوات الغامض وتاريخ التحنيط الذي انطلق بشكل بدائي حوالي عام 3100 ق.م، ووصل إلى ذروته عام 1000 ق.م، بهدف الحفاظ على تماسك الجسد حتى تتعرف عليه الروح وتعود إليه في الحياة الآخرة وفق العقيدة المصرية القديمة. كانوا يستأصلون جميع الأعضاء الداخلية عدا القلب الذي اعتبروه مقر النفس، ويملأون التجويف بمواد غير عضوية مثل نشارة الخشب والحجارة الصغيرة والكتان، ثم يجففونه بالملح الطبيعي لمدة سبعين يوماً قبل لفه بالكتان ودفنه.

ويروي المؤلف قصة مومياء الملك الشجاع "سقنن رع" الذي قاوم الغزاة الهكسوس، وانتصر ابنه "أحمس" بعده. وقد مثلت المومياء لغزاً منذ اكتشافها، وفحصها العالم الفرنسي "جاستون ماسبيرو" — مدير مصلحة الآثار — باستخدام علمي التشريح والطب الشرعي، ليكتشف قامة معتدلة وعضلات مفتولة وشعراً أسود كثيفاً مجعداً ورائحة كريهة تدل على تحنيط ناقص، وخمس إصابات عنيفة في الرأس تشير إلى الموت غيلة.

ثم يتتبع تطور التقنيات بدءاً باكتشاف أشعة إكس على يد "رونتجن" عام 1895، التي فتحت باب فحص المومياوات دون إتلاف، ثم الثورة الكبرى عام 1972 باختراع التصوير المقطعي المحوسب الذي يوفر صوراً ثلاثية الأبعاد عالية الوضوح. كشف ذلك عن أن الملك "توت عنخ آمون" توفي في التاسعة عشرة، وكان يُعتقد أنه قُتل، لكن الأشعة أثبتت إعاقة حركية تستدعي عكازاً وأمراضاً أدت إلى موته الطبيعي. كما أثبتت أن إصابات "سقنن رع" مطابقة لأسلحة الهكسوس في المعارك، وأن الملك رمسيس الثالث قُطعت حنجرته بسكين في "مؤامرة الحريم" رغم فشلها، كما تذكر البرديات. ثم ينتقل المؤلف إلى قراءة الحمض النووي التي أجراها العلماء على المومياوات لتحديد الهويات والأنساب، فأثبتت أن "توت عنخ آمون" هو ابن الملك "أخناتون" الذي دعا إلى عبادة إله واحد هو آتون وهدم معابد آمون، لكن ابنه أعاد عبادة آمون وألغى آتون. كما كشفت التحاليل إصابته بالملاريا وضعف المناعة وكسر في الساق ساهم في وفاته، محذراً بحزم من مخاطر استخدام دراسات الحمض النووي في تتبع أصول الجماعات البشرية لأغراض أيديولوجية أو سياسية أو عرقية قد تؤدي إلى تمييز أو تحيزات غير علمية.

في الفصل الثالث يخترق المؤلف جدران الأهرامات ليبدد الخرافات والأساطير التي تحدثت عن كنوز مخفية في مخازن سرية تحرسها قوى سحرية تقتل المتطفلين، أو عن كونها مولدات طاقة عملاقة، أو أن كائنات من الفضاء هي التي شيدتها. يؤكد الحقيقة العلمية الراسخة حتى الآن: الأهرامات مقابر بنيت قبل حوالي خمسة آلاف عام لضمان البعث بعد الموت، مستلهمة أسطورة الإله "أوزوريس" الذي قتله أخوه "ست" وقطعه إرباً، لكن زوجته "إيزيس" وابنهما "حورس" جمعاه وبعثا فيه الحياة ليصبح إلهاً للعالم الآخر والعدالة والخلود.

ويصف المؤلف هرم "خوفو" العظيم بتفاصيل دقيقة: ارتفاعه 137 متراً، وطول ضلع قاعدته المربعة 230 متراً، وزاوية ميله 52 درجة، ووزنه خمسة ملايين وسبعمائة وخمسين ألف طن، مكوناً من مليونين وثلاثمائة ألف كتلة حجرية. ويروي كيف أغلق مدخله بعد العصر الروماني، ثم فُتح في عهد الخليفة العباسي المأمون عام 832 ميلادية، مع الإشارة إلى بعض الروايات الشعبية حول تلك الواقعة. ويستعرض التقنيات الحديثة غير المتلفة: أشعة الميونات الكونية التي تخترق الصخور — وقد تأكد بوساطتها عدم وجود غرف فوق حجرة دفن "خفرع" مع تغطية 19% فقط من مساحة الهرم — والمشروع المصري الياباني الكندي المشترك الذي بدأ عام 2015 وأصدر أبحاثاً دورية؛ فكشف عام 2016 عن فراغ يشبه رواقاً أعلى الممر الهابط (الشيفرون) في هرم خوفو، وعام 2017 عن تركيب ضخم بحجم البهو العظيم فوقه مباشرة مؤكداً بثلاث تقنيات مختلفة. كما يستعرض التصوير الحراري بالأشعة تحت الحمراء الذي رصد فارقاً حرارياً يصل إلى ست درجات على الجانب الشرقي لهرم "خوفو"، ورادار اختراق الأرض الذي واجه صعوبات جيولوجية، والتصوير بالموجات الصوتية الذي اصطدم بسماكة الكتل الحجرية، وتقنية المقاومة الكهربية التي أكدت فراغاً غير محدد خلف الشيفرون. وينفي المؤلف بقوة الادعاءات عن وجود مدينة كاملة تحت أهرامات خوفو ومنكاورع بعمق يزيد على ستمائة متر، تحتوي "قاعة سجلات" أسطورية، معتبراً ذلك خرافات تتنافى مع العلوم وتخدم أغراضاً أيديولوجية. ويذكّر بخيبة الأمل في تجربة الروبوت الصغير عام 2002 الذي حفر ثقباً ضيقاً في هرم خوفو ليصطدم بجدار آخر، قبل أن يشيد بتقنيات التوثيق ثلاثي الأبعاد عبر المسح الضوئي بالليزر والتصوير الفوتوغرافي والمسح الجوي بالطائرات من دون طيار لأغراض الترميم والتوثيق.

وأخيراً، في الفصل الرابع يستنطق المؤلف أوراق البردي المصنوعة من نبات الدلتا منذ أكثر من أربعة آلاف عام؛ حيث كانوا يقطعون الساق ويجففون الشرائح للكتابة منفردة أو في لفائف. وقد استُخدمت عالمياً حتى القرن الثالث الميلادي، وفي مصر حتى القرن التاسع الميلادي، بأحبار خاصة مقاومة للماء حفظت النصوص آلاف السنين رغم تلف بعضها بالرطوبة أو الحرائق. يستعرض المؤلف التقنيات الحديثة لاستعادة المحتوى المطموس مثل الميكروسكوبات الضوئية والإلكترونية، والتصوير متعدد الأطياف وفائق الأطياف، وتقنيات الفلورة وحيود أشعة إكس، وتحليل رامان الطيفي، ومسبار البروتونات المجهري، ثم يحتفل بنماذج الذكاء الاصطناعي التي تملأ الفجوات النصية. ويبرز الإنجاز التاريخي عام 2023 بقراءة لفافة بردي محترقة تماماً بفعل بركان فيزوف عام 79 م، كشفت نصاً فلسفياً يونانياً مجهولاً يتناول الموسيقى واللذة والإحساس. يختم المؤلف بتفاؤل هادئ بأن مزيج العلوم الطبيعية والتكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي سيواصل إخراج حضارتنا المصرية القديمة من ظلام القرون إلى نور المعرفة الإنسانية، اكتشافاً تلو الآخر، وسراً بعد سر.

إننا أمام تجربة فريدة جمعت بين العلم والحضارة المصرية القديمة، بين دفتي كتاب في قمة التميز، يسرد قصصاً محببة إلى النفس بأسلوب رشيق وشيق، ومعلومات غزيرة على المستويين العلمي والفرعوني. وقد طُرح كتاب "الخروج إلى النور" في توقيت ممتاز تزامناً مع افتتاح مصر المتحف المصري الكبير، هذا الصرح الحضاري الضخم الذي قدمته مصر هدية للعالم، فكان الكتاب بمثابة تدشين لعصر جديد بما يحتويه من معلومات دقيقة ورائعة، وفكرته المبتكرة، وطريقة سرد أحمد سمير سعد المميزة التي تصل إلى قلوب وعقول الجميع بيسر.


 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب