في لحظات الغضب الشديد، يبدو العقل وكأنه ينسحب من السيطرة تمامًا، لتتولى العاطفة زمام القيادة، يرتجف الجسد، تتسارع ضربات القلب، ويتحوّل الصوت إلى أداة تفريغ لما لا يمكن احتماله من انفعال. كثيرون يتساءلون: لماذا تتصاعد أفعال الغضب بهذه السرعة؟ ولماذا يصعب التوقف حتى بعد إدراك أننا تجاوزنا الحد؟
وفقًا لتقرير نشره موقع American Psychological Association (APA)، فإن الغضب ليس طارئًا عابرًا بل هو استجابة بيولوجية منسقة تشارك فيها مناطق متعددة من الدماغ، أبرزها اللوزة الدماغية، وهي الجزء المسئول عن تفسير الإشارات الانفعالية واستدعاء رد الفعل الدفاعي. حين يشعر الإنسان بالتهديد، تُطلق اللوزة إنذارًا سريعًا يدفع الغدة الكظرية لإفراز الأدرينالين والنورأدرينالين، ما يجعل الجسم يدخل في وضع “الاستعداد للهجوم أو الهروب”.
حين يختطف الانفعال منطق العقل
في هذه الحالة، يتراجع نشاط الفص الجبهي الأمامي — المسئول عن اتخاذ القرار والتفكير المنطقي — لصالح الاستجابة الانفعالية. يُطلق علماء الأعصاب على هذه الظاهرة مصطلح “الاختطاف اللوزي”، إذ يتصرف الإنسان مدفوعًا بالانفعال قبل أن يتمكّن العقل الواعي من التدخل. لذلك يندم كثيرون بعد نوبات الغضب، لأن قراراتهم اتُّخذت في لحظة لم يكن فيها العقل هو المتحكم الفعلي.
جسد في حالة استنفار كامل
إفراز الهرمونات المحفزة أثناء الغضب لا يقتصر تأثيره على الدماغ فقط، بل يمتد إلى القلب والعضلات والجهاز التنفسي. فزيادة تدفق الدم وارتفاع ضغطه يمنحان الجسم طاقة مؤقتة، لكنها تُترجم إلى توتر جسدي وصعوبة في التهدئة لاحقًا. ويُشير باحثو جمعية علم النفس الأمريكية إلى أن هذه الهرمونات تحتاج إلى دقائق أو حتى نصف ساعة لتعود إلى مستوياتها الطبيعية، ما يفسّر صعوبة التوقف عن الجدال أو السيطرة الفورية على الأعصاب أثناء الغضب.
الغضب المتراكم لا يختفي
علم النفس يرى أن الغضب لا يولد من فراغ. إنه يتغذى على تجارب قديمة لم تُعبّر عنها النفس، أو تراكمات من الإحباطات الصغيرة التي لم تجد منفذًا صحيًا. ومع مرور الوقت، تتحول هذه التراكمات إلى أرض خصبة لانفجارات مفاجئة، قد تكون خارج حجم الموقف الفعلي. لذلك، فإن فهم جذور الانفعال لا يقل أهمية عن محاولة ضبطه عند ظهوره.
التأثير النفسي والبيئي
العوامل التي تُحدد طريقة تعامل الفرد مع الغضب لا تقتصر على البنية العصبية، بل تشمل البيئة التي نشأ فيها. فالأشخاص الذين تربّوا في أجواء يسودها الصراخ أو النقد المستمر أكثر عرضة لتبنّي أنماط مشابهة في التعبير عن الغضب. كما أن الحرمان من النوم، أو الضغوط المهنية، أو بعض الاضطرابات المزاجية — مثل الاكتئاب أو اضطراب الانفجار المتقطع — قد تُضعف قدرة الدماغ على تهدئة نفسه.
كيف نستعيد السيطرة؟
توضح APA أن إدارة الغضب تبدأ بتعلّم التعرف على إشاراته الأولى. فملاحظة شدّ العضلات أو تسارع التنفس هي مؤشرات مبكرة يمكن أن تُستخدم لقطع حلقة الانفعال قبل اكتمالها. كما تساعد تمارين التنفس العميق وإعادة تقييم الأفكار السلبية على تهدئة النشاط العصبي. ويُعدّ استخدام الفكاهة البسيطة أو الانسحاب المؤقت من الموقف من الاستراتيجيات التي تسمح للعقل بإعادة توازنه الكيميائي.
تدريب النفس على الحوار الهادئ بدلاً من الردّ العدواني يُعيد تنشيط المناطق المنطقية في الدماغ، ما يقلل من احتمالية “الاختطاف الانفعالي”. ولأن الغضب طاقة في أصلها دفاعية، فإن توجيهها نحو فعل بنّاء — كالمشي، أو الكتابة، أو الحديث مع مختص — يحوّلها من دافع للتدمير إلى وسيلة للفهم الذاتي.