رامى محيى الدين

التاريخ المصري القديم.. كيف احتكر الأجانب المعرفة وظُلم الأثريون المصريون؟

الجمعة، 07 نوفمبر 2025 03:07 م


على مدى أكثر من قرنين، ظلّ التاريخ المصري القديم ساحة صراع معرفي وثقافي بين باحثين أجانب قادمين من أوروبا وأمريكا وبين الأثريين المصريين الذين كانوا الأقرب إلى الأرض، والأكثر اتصالًا بلغتها وحضارتها. ورغم أن مصر صاحبة التراث، فإن كثيرًا من مفاتيح تفسير حضارتها مرّت عبر أيادٍ أجنبية احتكرت سردية التاريخ ووجّهت إنتاجه المعرفي بما يتوافق مع رؤيتها ومصالحها، وهو ما ترك أثرًا عميقًا على مكانة الباحث المصري وعلى صورة الحضارة المصرية عالميًا.

البدايات: علم المصريات في يد الغرب

منذ حملة نابليون وما صاحبها من “وصف مصر”، أصبحت الآثار المصرية محور جاذبية للبعثات الأوروبية التي تعاملت مع مصر بوصفها “متحفًا مفتوحًا”. جاء الأثريون الأوروبيون مسلّحين بإمكانات مالية ودعم سياسي إمبراطوري، فتحكموا في مسارات البحث والكشف والنشر.

كان العالم الفرنسي شامبليون أول من فكّ رموز الهيروغليفية، ما منحه سلطة رمزية ومعرفية هائلة على تاريخ لم يكن ينتمي إليه. وتلاه جيل كامل من المستكشفين الذين اعتبروا أنفسهم “أوصياء على الحضارة المصرية”، بينما لم يُتح للمصريين أنفسهم دخول هذا المجال إلا بشكل محدود وتحت وصايتهم.

احتكار المعرفة: النشر العلمي بوابة السيطرة

لم تكن السيطرة على الحفائر وحدها مصدر النفوذ، بل امتدت إلى النشر العلمي، حيث احتكرت مؤسسات أكاديمية غربية – مثل المتاحف الملكية والأكاديميات الفرنسية والألمانية – عرض وتفسير نتائج الاكتشافات. كانت البعثات الأجنبية تنشر بالعشرات سنويًا، بينما لم يُتح للمصريين سوى مراقبة أعمالهم أو العمل تحت إشرافهم.

ولم يكن الافتقاد للكفاءة مشكلة، بل غياب الفرص. فالمصريون حُرموا من الدراسات المتقدمة، ومن التمويل، ومن الوصول إلى الأرشيفات، ومن الحق في أن يكونوا أول من يقرأ أو يعلن عن اكتشافات حدثت على أرضهم. وهكذا تشكّل “سرد تاريخ مصر” أغلبه بأقلام غير مصرية، تحمل رؤى قدّم بعضها الحضارة المصرية كنتاج تأثيرات خارجية، أو قلّل من عمقها العلمي، أو تجاهل دور المصريين المعاصرين في الحفاظ عليها.

نهب الآثار: حين تحوّلت المعرفة إلى سلطة مادية

لم يكن الاستئثار معرفيًا فقط، بل كان اقتصاديًا وماديًا. فمنذ القرن التاسع عشر خرجت آلاف القطع الأثرية من مصر بشكل قانوني وغير قانوني. بعض الدول الأوروبية جعلت من مقتنيات مصر القديمة أساسًا لنهضة متاحفها الوطنية، بينما بقيت المتاحف المصرية تعاني نقص التمويل والكوادر.

وحتى اليوم، يمثل وجود حجر رشيد ومسلات مصرية وكنوز كاملة في متاحف أجنبية شاهدًا على مرحلة مُنحت فيها سلطة امتلاك التاريخ لغير أهله، بينما حُرم الأثريون المصريون من حقهم في إدارة تراثهم.

إسهامات المصريين التي تم تهميشها

رغم التحديات، قدّم الأثريون المصريون إسهامات ضخمة في علم المصريات، مثل:

سليم حسن: مؤسس المدرسة التاريخية المصرية، وصاحب موسوعته الضخمة "مصر القديمة".

زاهي حواس: من أوائل من قادوا بعثات مصرية مستقلة وأعادوا للمصريين صوتًا قويًا في الساحة الدولية.

كمال الصليبي، أحمد بدوي، فوزي غنيم، وغيرهم ممن قدّموا أبحاثًا أساسية لم تُمنح الاهتمام العالمي الكافي مقارنة بنظرائهم الأجانب.

ورغم ذلك، ظلّ الاعتراف العالمي منحازًا نحو الغرب، حيث تسيطر المؤسسات الأجنبية على الجوائز والمنشورات ومؤتمرات علم المصريات، ما يؤدي إلى تهميش جهود الباحث المصري مهما بلغت أهميتها.

جذور الظلم: لماذا حدث هذا؟

هناك عدة أسباب تاريخية وسياسية ومعرفية:

الاستعمار الأوروبي الذي اعتبر التراث المصري إرثًا عالميًا مفتوحًا.

تمييز أكاديمي جعل اللغة الأوروبية شرطًا لدخول المجال وامتلاك المعرفة.

نقص التمويل المحلي الذي حدّ من قدرة المصريين على القيادة.

احتكار المتاحف والمراكز الدولية للأرشيفات.

خطاب ثقافي استشراقي رسّخ لفكرة أن “الغرب يفهم حضارتكم أكثر منكم”.

العودة إلى المشهد: جيل مصري جديد يكتب تاريخه

اليوم يتغير المشهد تدريجيًا. يظهر جيل جديد من المصريين يمتلك مهارات بحثية ولغوية وتكنولوجية، ويشارك في الحفائر الدولية على قدم المساواة، ويقود بعثات مستقلة وينشر في مجلات مرموقة.

افتتاح المتحف المصري الكبير، وتوسّع مشاريع الرقمنة، وإعادة النظر في قطع مهربة، كلها عوامل تُعيد للمصريين حقّهم الطبيعي في قيادة علم المصريات وإنتاج سرديتهم الخاصة.

والخلاصة ليس الأمر صراعًا بين المصريين والأجانب، بل صراع على العدالة المعرفية وحق صاحب الحضارة في رواية تاريخه. فمصر ليست مجرد موقع أثري، بل وطن لصنّاع حضارة عظيمة ما زالت تلهم العالم.

ونجاح أي مستقبل لعلم المصريات يجب أن يقوم على ثلاثة مبادئ:
سيادة المعرفة، وعدالة المشاركة، وتمكين الأثريين المصريين ليكونوا في قلب رواية تاريخهم، لا على هامشه.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب